مشاركة مميزة

فهرس مقالات مدوّنة مصباح الهداية

السبت، 30 ديسمبر 2023

هل نقل أبو تمّام شعراً عن جابر بن حيّان الكوفيّ في ديوان الحماسة؟

بسم الله الرحمن الرحيم
هل نقل أبو تمّام شعراً عن جابر بن حيّان الكوفيّ في ديوان الحماسة؟


ورد في (ديوان الحماسة) لأبي تمّام بتحقيق الدّكتور عبد الله بن عبد الرّحيم عسيلان ما نصّه:
(وقال جابرُ بن حيّان:
فإن يقتسم مالي بَنِيَّ ونسوتي ** فلن يقسموا خُلقي الجميل ولا فعلي
أهين لهم مالي وأعلمُ أنّني ** سأورثه الأحياء سيرةَ مَنْ قبلي
وما وجد الأضياف فيما ينوبهم ** لهم عند عِلَّاتِ الزَّمانِ أباً مثلي)[1].
وقد يُقال: إنّ أبا تمّام قريبُ العهد بجابر بن حيّان الكوفيّ؛ فإنّهُ مات سنة 228 أو 231 أو 232 هجريّة كما ذُكر في ترجمته[2]، ونقله الشّعر عنه يشير إلى وجوده الحقيقيّ.

الجواب: نعم؛ ورد هذا النّقلُ في (ديوان الحماسة) لأبي تمّام، ولكن قد اختُلِفَ في ضبط اسم الشّاعر المذكور على عدّة وجوه:
الوجه الأوّل: أنّ اسمه (جابر بن حُبَاب) بضمّ الحاء وفتح الباء الموحّدة.
وهذا الضّبط قد ذُكر في هامش نسخةٍ منسوخةٍ عن نسخةٍ بخطّ أبي الفتح ابن جنّي، وهي محفوظة في مكتبة عاطف باشا بتركيا، برقم (2041)، وفي هامش نسخةٍ منسوخةٍ عن نسخةٍ بخطِّ الشيخ أبي زكريّا يحيى بن عليّ الخطيب التبريزيّ شارح الحماسة، وهي محفوظة في مكتبة فاضل أحمد بتركيّا برقم (1237).
وضبطه المرزوقيّ في شرحه لديوان الحماسة بهذا النّحو أيضاً[3]، وقد توثّقنا من ضبط المطبوع بالنّظر في نسخةٍ خطيّة محفوظة في مكتبة نور عثمانيّه بتركيا برقم (3999)، وتاريخ نسخها يعود إلى سنة 671 هجريّة.
الوجه الثّاني: أنّ اسمه (جابر بن خبّاب) بفتح الخاء المُعجمة وتشديد الباء الموحّدة.
وهذا الضّبط ذكره أبو القاسم زيد بن عليّ الفارسيّ في (شرح كتاب الحماسة)[4].
وقد أشار السيّد فضل الله الرّاونديّ في «الحماسة ذات الحواشي» إلى هذا الضّبط أيضاً فقال: («وقال جابر بن حيّان» أبو رياش هكذا، ويُروى «خُبَاب»، ويُروى «خَبّاب»، البياريّ: «حُباب»).
الوجه الثّالث: أنّ اسمه (جابر بن حيّان) بفتح الحاء وتشديد الياء.
وهذا قد ضُبط في جملةٍ من النّسخ، ولكن ذكر بعض الأدباء أنّ هذا الرّجل هو جابر بن حيّان الجعديّ، أحد الشّعراء الإسلاميّين.
قال الدّكتور محمّد عثمان عليّ في تحقيقه لشرح الحماسة لأبي القاسم الفارسيّ عند تعرّضه لموضع الخلاف: (ثمّة اضطراب في أبيات هذا الشّاعر، فهو عند المصنّف «خبّاب» بالخاء والباء المشدّدة، وعند المرزوقيّ: «حُبَاب» بحاءٍ مضمومةٍ وباءٍ مفتوحةٍ، وعند التبريزيّ «حيّان» بحاءٍ وياءٍ مشدّدةٍ، وأظنُّه الصّحيح لأنّي وجدتُ في هامش الأصل عن الشيخ أبي طاهر الشّيرازيّ: «هو جابر بن حيّان الجعديّ، إسلاميّ»)[5].
وقد اعتمد المحقّق المذكور في تحقيق هذا الشّرح على نسخةٍ فريدةٍ كُتبت سنة 438 هجريّة وقُوبِلت أشعارها مع نسخة قرأها النّاسخُ على أبي طاهر الشّيرازيّ، وقد صرّح الناسخ بأنّه نقل عنها في حواشي نسخته، قال في آخر النّسخة: (قابلتُ أشعارَ الحماسة من أوّل الكتاب إلى آخره دون الشّروح بالنّسخة التي قرأتها على الشيخ الإمام أبي طاهر عليّ بن عبيد الله الشّيرازيّ ونقلتُ حواشيها إلى حواشي هذه النّسخة من الرّوايات الصّحيحة والأسامي المصحّحة لشعراء الحماسة..).
وأبو طاهر هو الأديب اللّغويّ عليّ بن عُبيد الله الشّيرازيّ، ذكره الباخرزيّ في (دمية القصر) فقال: (ارتبطه الصاحب نظام الملك، حرس الله دولته، لحُسْنِ خَطّه وفوز قِدْحِه من الأدب، ووفور قسطه. فلم تنفّسه المدّة، ولا نفعته العدّة حتّى انتقل إلى جوار ربّه. ورأيتُ في الخزانة النظاميّة بنيسابور ديوان شعره بخطّ يده..إلخ)[6].
وقد وقع في بعض أسانيد أبي طاهر السّلفي مُنعوتاً بـ(اللّغويّ)[7].
ثُمّ إنّي وجدتُ بعد ذلك في نسخةٍ من شرحٍ منسوبٍ لابن فارس -محفوظة في مكتبة مجلس الشورى الإيراني- وفيها ينصُّ المؤلّف على أنّ قائل هذه الأبيات هو الجعديّ أيضاً.

والحاصل: إنّ النسخ قد اختلفت في ضبط اسم صاحب هذا الشّعر، وعلى الوجهين الأوّلين فليس هو جابر بن حيّان الكوفيّ كما هو واضح، وعلى الوجه الثّالث قد ذكر بعض أهل الأدب أنّه جابر بن حيّان الجعديّ، وأمّا جابر بن حيان الكوفيّ فلا يُعلم من المذكور في ترجمته أنّه جعديٌّ.

(1) ديوان الحماسة، نسخة مكتبة عاطف باشا - تركيا، رقمها (2041).

(2) ديوان الحماسة، نسخة مكتبة فاضل أحمد - تركيا، رقمها (1237).

(3) شرح الحماسة للمرزوقيّ، نسخة مكتبة نور عثمانيه - تركيا، رقمها (3999)

(4) صورة عن مخطوط كتاب (الحماسة ذات الحواشي) للسيّد فضل الله الراونديّ

(5) صورة عن مخطوط الشرح المنسوب لابن فارس (مكتبة مجلس الشورى الإيرانيّ)

ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] الحماسة، ج2، ص341.
[2] سير أعلام النبلاء، ج11، ص67.
[3] شرح ديوان الحماسة، ج2، ص1199.
[4] شرح كتاب الحماسة، ج2، ص315.
[5] شرح كتاب الحماسة، ج2، هامش ص315.
[6] دمية القصر وعُصرة أهل العصر، ج1، ص488.
[7] معجم السفر، ص91، رقم الحديث 292.

الخميس، 30 نوفمبر 2023

دراسة حول شخصيّة جابر بن حيّان في التّراث الإسلاميّ

بسم الله الرّحمن الرّحيم
دراسة حول شخصيّة جابر بن حيّان في التّراث الإسلاميّ

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد الأنبياء والمرسلين، محمّد بن عبد الله الصّادق الأمين، وعلى أهل بيته الطّيبين الطّاهرين، واللّعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدّين، أمّا بعدُ:

فإنّ شخصيّة جابر بن حيان الصوفيّ من الشخصيّات المثيرة للجدل في التراث الإسلاميّ، وذلك لامتياز ما نُسب إليه من علومٍ ومكانةٍ من جهةٍ، ولما وقع من تشكيك في وجوده من جهةٍ أخرى، ولا يخفى أنّ إبداء النّظر في مسألة وجوده أو عدمه تستلزم استقصاء ما نُقل حول شخصيّته في التراث الإسلاميّ أولاً، والنّظر في ما وصل إلينا من تراثٍ منسوبٍ إليه ثانياً، وبناءً على هذا، يمكن التّحقيق في مسألة وجود هذه الشّخصية، وكذلك تحديد البيئة التي خرج منها هذا التّراث المنسوب إليها.
وتكمن أهميّة الحديث في هذه المسألة أنّ التحقيق في مسائل التراث العربيّ والإسلاميّ يقرّب الباحث إلى تصوّرات أكثر دقّة وواقعيّة خلال دراسة التراث، وتحول دون استنباط نتائج خاطئة في دراسة تاريخ العرب والإسلام، بالإضافة إلى أنّ هذه المسألة ترتبط بسيرة الإمام الصّادق عليه السّلام من جهة دعوى ارتباط هذه الشخصيّة به -صلوات الله عليه-، والتحقيق في سيرة أئمّة أهل البيت عليهم السّلام ذو فوائد جمّة، ولا سيّما في ما يرتبط بتحليل سيرتهم وعرضها في إطار فهم منهج أهل البيت صلوات الله عليهم، فإنّ تحقيق المسائل المرتبطة بسيرتهم بدقّة يساعد في تقديم صورة أكثر وضوحاً حول تاريخهم ومنهجهم -صلوات الله عليهم أجمعين-.

[1] جابر بن حيّان في التراث الإسلاميّ.
لا نجدُ ذكراً لجابر بن حيان في مصنّفات الشّيعة الرّوائيّة سواءً في الأسانيد أو في المتون، خلا رواية واحدة في كتاب «طب الأئمّة»[1]، وهو من الكتب التي لا تتوفر فيها صفات الاعتبار. كما لم نجد له ذكراً في كتب الرّجال. نعم؛ أقدمُ نصٍّ عثرنا عليه هو من كلام ابن النّديم في فهرسته، وقد ذكر الاختلاف في وجوده، وهذا يبيّن أنّ التشكيك في وجوده لم يكن طارئاً في القرون الأخيرة، وإنّما كان مبدؤه في عصر المتقدّمين.
قال ابن النّديم: (هو أبو عبد الله جابر بن حيّان بن عبد الله الكوفيّ، المعروف بالصوفيّ، واختلف النّاس في أمره، فقالت الشّيعة إنه من كبارهم وأحد الأبواب، وزعموا أنّه كان صاحب جعفر الصّادق رضي الله عنه وكان من أهل الكوفة. وزعم قومٌ من الفلاسفة أنّه كان منهم، وله في المنطق والفلسفة مصنّفات. وزعم أهلُ صناعة الذّهب والفضّة أنّ الرئاسة انتهت إليه في عصره، وأنّ أمره كان مكتوماً، وزعموا أنّه كان يتنقل في البلدان لا يستقرُّ به بلدٌ خوفاً من السّلطان على نفسه.
وقيل: إنّه كان في جملة البرامكة ومنقطعا إليهاً ومتحقِّقاً بجعفر بن يحيى، فمن زعم هذا قال: إنّه عنى بسيِّده جعفر هو البرمكيّ[2]، وقالت الشّيعة: إنّما عنى جعفر الصّادق.
وحدّثني بعض الثقات ممن يتعاطى الصنعة أنّه كان ينزل في شارع باب الشّام في دربٍ يُعرَفُ بدرب الذّهب، وقال لي هذا الرجل: إنّ جابراً كان أكثر مقامه بالكوفة، وبها كان يدبِّرُ الإكسير لصحّة هوائها، ولمّا أصيب بالكوفة الأزج الذي وُجِدَ فيه هاون ذهبٍ فيه نحو مائتي رطل، ذكر هذا الرّجل أنّ الموضع الذي أُصِيْبَ ذلك فيه كان دار جابر بن حيّان، فإنّه لم يُصَبْ في ذلك الأزج غير الهاون فقط، وموضع قبّته بُنِيَ للحلّ والعقد. هذا في أيّام عزّ الدولة ابن معز الدولة.
وقال لي أبو أسبكتكين دستاردار أنّه هو الذي خرج لتَسَلُّم ذلك.
وقال جماعةٌ من أهل العلم وأكابر الوراقين: إنّ هذا الرجل -يعني جابراً- لا أصل له ولا حقيقة.
وبعضهم قال: إنّه ما صنّف وإنْ كان له حقيقةٌ إلّا كتاب الرّحمة، وإنّ هذه المصنَّفات صنَّفها النّاس ونحلوه إيّاها.
وأنا أقول: إنّ رجلاً فاضلاً يجلس ويتعب ويصنِّفُ كتاباً يحتوي على ألفي ورقةٍ، يُتعِبُ قريحته وفكره بإخراجه ويتعب يده وجسمه بنسخه ثمّ ينحله لغيره -إمّا موجوداً أو معدوماً- ضربٌ من الجهل، وإنّ ذلك لا يستمرُّ على أحدٍ، ولا يدخل تحته من تحلّى ساعةً واحدةً بالعلم. وأيُّ فائدةٍ في هذا وأي عائدة؟![3] والرّجل له حقيقةٌ، وأمره أظهر وأشهر، وتصنيفاته أعظم وأكثر، ولهذا الرّجل كتبٌ في مذاهب الشّيعة، أنا أوردها في مواضعها، وكتبٌ في معانٍ شتّى من العلوم قد ذكرتها في مواضعها من الكتاب.
وقد قيل: إنّ أصله من خراسان، والرّازيّ يقول في كتبه المؤلفة في الصّنعة: قال أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان)[4].

وأمّا نصوص علماء أهل السنّة فأقدمها فيما رأينا يعودُ إلى القرن الرّابع الهجريّ، فقد نقل عنه المطهّر بن طاهر المقدسيّ في كتابه (البدء والتّاريخ) -الذي ألّفه سنة 355هجريّة-، قال: (حكى ‌جابر ‌بن ‌حيّان أنّه إذا انتهى مسير الكواكب إلى غايةٍ، وتفرّقت في أبراجها، وتشوّشت حركات الفلك واضطربت كما كانت قبل اجتماع الكواكب في أوّل دقيقة من الحمل اختلفت أحوال العالم، وتفاوتت أرباع السّنة وفصولها، فلا يستقرّ شتاءٌ ولا صيف..إلخ)[5].
ونقل أبو ريحان البيرونيّ -المتوفّى في القرن الخامس الهجريّ- في كتابه (الجماهر في معرفة الجواهر) مرّتين عن كتبٍ لجابر بن حيّان[6]، إحداهما عن (كتاب الرّحمة)، قال: (وقال ‌جابر ‌بن ‌حيان في كتاب الرحمة إنّه كان عندنا مغناطيس يرفع وزن مائة درهم من الحديد، ثمّ إنّه لم يرفع بعد ما مضى زمانٌ عليه وزن ثمانين درهماً، ووزنه على حاله لم ينقص شيئاً، وإنّما النّقصان وقع في قوّته)[7]، هذا المطلب مذكورٌ في النّسخة الواصلة إلينا من (كتاب الرّحمة)[8].
وقال جمال الدّين عليّ بن يوسف القفطيّ -المتوفّى في القرن السّابع الهجريّ- في كتابه (إخبار العلماء بأخبار الحكماء): (‌جابر ‌بن ‌حيّان الصّوفيّ الكوفيّ، كان متقدِّماً في العلوم الطبيعيّة، بارعاً منها في صناعة الكيمياء، وله فيها تآليف كثيرة ومصنَّفات مشهورة، وكان مع هذا مُشرِفاً على كثيرٍ من علوم الفلسفة، ومتقلِّداً للعلم المعروف بعلم الباطن، وهو مذهب المتصوِّفين من أهل الإسلام)[9].
وذكره ابن خلّكان -المتوفّى في القرن السّابع الهجريّ- في ترجمة الإمام الصّادق عليه السّلام فقال: (وكان تلميذه أبو موسى ‌جابر ‌بن ‌حيّان الصّوفيّ الطّرسوسي قد ألَّف كتاباً يشتمل على ألف ورقة تتضمّن رسائل جعفر الصّادق وهي خمسمائة رسالة)[10].
وممّن ذكره من علماء الشيعة الإماميّة: السيّد ابن طاوس -المتوفّى في القرن السّابع الهجريّ- حيث قال: (وممّن وقفتُ على كتابٍ منسوبٍ إليه من علماء الشّيعة: جابر بن حيّان من أصحاب الصّادق -صلوات الله عليه- يسمى «الفهرست»، والنّجاشي ذكر جابر بن حيّان، وذكر في باب الأشربة ما هذا لفظه: إنّ الطّالع في الفلك لا يكذبُ في الدّلالة على ما يدلُّ أبداً. هذا آخر لفظه في المعنى، ثمّ شرح ما يدلُّ على فضله في علم النّجوم وغيرها، وقد ذكره ابن النّديم في رجال الشّيعة وأنّ له تصانيف على مذهبنا)[11][12].
وقد ورد ذكره أيضاً في كلمات جملةٍ من المتأخّرين، وأكثرها لا يعدو ما ذُكِر؛ إذ لم يكن لدى العلماء من أهل التّراجم معلومات وفيرة حول هذه الشّخصية.
وأمّا بالنسبة إلى الخلاف في وجوده: فيظهر من كلمات ابن النّديم المتقدّمة أنّ الخلاف في وجود شخصيّة حقيقيّة باسم جابر بن حيّان قديمٌ، وقد ذكرنا عبارات جملةٍ من العلماء الذين نقلوا عن كتب جابر أو أتوا على ذكره ولم يتعرّضوا لذلك بنفي أو إثبات بشكل صريح، فسكوتهم عن إنكار ذلك إمّا للاعتقاد بوجود هذه الشّخصية أو لعدم التّحقيق في هذه المسألة.
وممّن صرّح برأيه في شأن جابر: ابن تيميّة الحرّاني (ت: 728هـ) فقد نصّ على أنّه مجهولٌ لا يُعرَف[13]، وابن نباتة المصريّ (ت: 768هـ) فقد ذهب إلى أنّ جابراً شخصيّةٌ لا وجود لها وأنّ عنوان (جابر بن حيّان) مجرّد اسم موضوع[14]، وأمّا شهاب الدّين الآلوسيّ (ت: 1270هـ) فقد قال في تفسيره بأنّ إنكار وجوده حُمقٌ[15]، ويظهر من الشيخ أسد حيدر في كتابه (الإمام الصّادق والمذاهب الأربعة) ميلٌ شديدٌ إلى أنّ جابراً شخصيّةٌ حقيقيّةٌ وقد أخذ علمه عن الصّادق عليه السّلام[16]، ويرى السيّد أحمد المددي - وهو من العلماء المعاصرين- أنّه شخصيّة خياليّة لا وجود لها[17].

[2] التّراث المنسوب إلى جابر بن حيّان
قال ابن النديم في ذكر أسماء كتب جابر في صنعة الكيمياء: (له فهرست كبير يحتوي على جميع ما ألَّف في الصّنعة وغيرها، وله فهرست صغير يحتوي على ما ألّف في الصّنعة فقط)[18]، ثمّ ذكر جملةً من هذه الكتب، ونقل عن جابرٍ أنّه قال: (ألّفتُ ثلاث مائة كتابٍ في الفلسفة، وألف وثلاث مائة كتابٍ في الحِيَل على مثال «كتاب تقاطر»، وألف وثلاث مائة رسالة في صنائع مجموعة وآلات الحرب، ثمّ ألّفتُ في الطبّ كتاباً عظيماً، وألّفتُ كتباً صغاراً وكباراً، وألّفتُ في الطبّ نحو خمس مائة كتابٍ مثل كتاب «المجسَّة والتّشريح»، ثمّ ألّفتُ كتب المنطق على رأي أرسطاطاليس، ثمّ ألّفتُ كتاب «الزّيج اللّطيف» نحو ثلاث مائة ورقة، «كتاب شرح أقليدس»، «كتاب شرح المِجَسْطيّ»، «كتاب المرايا»، «كتاب الجاروف» الذي نقضه المتكلّمون -وقد قيل: إنّه لأبي سعيد المصري- ، ثمّ ألّفتُ كتباً في الزُّهد والمواعظ، وألّفتُ كتباً في العزائم كثيرةً حسنةً، وألّفتُ كتباً في النّيرنجات، وألّفت في الأشياء التي يُعمل بخواصها كتباً كثيرةً، ثمّ ألّفتُ بعد ذلك خمس مائة كتابٍ نقضاً على الفلاسفة، ثمّ ألّفتُ كتاباً في الصّنعة يُعرَفُ بـ«كتاب الملك»، وكتاباً يُعرَفُ بـ«الرّياض»)[19]، وهذه الكتب والرسائل تزيد على ثلاثة آلاف كتابٍ ورسالةٍ، وقد وقعت هذه المصنّفات محلّاً للكلام أيضاً، فقد نقل ابن النّديم عن جماعةٍ من أهل العلم أنّ جابراً لم يؤلِّف إلّا كتاب الرّحمة، وأمّا سائر الكتب فقد نحله النّاسُ إيّاها[20]، وقد يؤيّد هذه الدعوى أنّ هذا العدد الكبير من الكتب والرّسائل قابل للتأمّل، وأنّه قد لا يكون من تأليف شخصٍ واحدٍ، إلّا أنّه بالتأمّل في صِغر أحجام جملة من رسائله وكتبه قد لا يكون هذا الإشكال وجيهاً.
وتقدّم عن ابن خلّكان قوله: (قد ألَّف كتاباً يشتمل على ألف ورقة تتضمّن رسائل جعفر الصّادق وهي خمسمائة رسالة)[21]، وهذه الرسائل في صنعة الكيمياء[22].
وقد وصلت إلينا جملةٌ من الرّسائل المنسوبة إلى جابر بن حيّان، قام بتحقيقها ونشرها المستشرق اليهوديّ پول كراوس (ت: 1944م) تحت عنوان (مختار رسائل جابر بن حيّان)، وطبعتها مكتبة الخانجي بالقاهرة سنة 1354هـ/1935م، وقد أعاد الدّكتور عبد الرّحمن بدوي طبعها مع تصديرها بمقدّمةٍ بقلمه، وترجمةٍ للمستشرق كراوس.
وأعدّ أحمد فريد المزيديّ ثلاثين كتاباً ورسالةً من مصنّفات جابر، وطُبعت في مجلّد واحد، صدرت الطّبعة الأولى منه سنة 1427هـ/2006م عن دار الكتب العلميّة في بيروت[23].

[3] جابر بن حيّان بين الوجود والعدم
إنّ المعطيات المتقدّمة في كلمات العلماء، بالإضافة إلى ما وقفنا عليه في التّراث المنسوب إلى شخصيّة جابر بن حيّان لا تكفي للتسليم بوجوده، ويشهد بذلك جملةٌ من القرائن:

القرينة الأولى: من المسلَّم به في كلمات الذين ذكروا جابراً أنّه كان معاصراً للإمام الصّادق عليه السّلام في زمن الدّولة العبّاسيّة، وهذا يعني أنّه في طبقة القرن الثّاني الهجريّ، كما أنّه اشتهر وصفه بـ(الكوفيّ)، وتكرر ذكر صلته بالإمام الصّادق عليه السّلام، ومع ذلك لا نرى له حضوراً واضحاً في تراث الشّيعة، بل لم يُظفَر بذكره في كتب التّاريخ والتّراجم أيضاً، فلا نجدُ في الكتب المعتبرة المتقدّمة على زمان ابن النّديم نقلاً يفيد أنّ أحداً رآه أو لقيه أو خالطه سواءً في الكوفة أو بمحضر الإمام الصّادق عليه السّلام أو في موسم الحجّ، وما إلى ذلك من مواضع يلتقي فيها الشّيعة ببعضهم. والتعذّر بعلّة التحفّظ والتقيّة لا توجب خفاءً إلى هذا المقدار؛ فإنّ كثيراً من الرّواة المتصلين بالأئمّة عليهم السّلام قد أتت كتب الحديث والرجال والتاريخ على ذكرهم ولو بنبذةٍ يسيرةٍ، بينما نرى أنّ رجلاً عالماً مصنّفاً متبحّراً في العلوم لم ترد بحقّه أدنى إشارة في كتب الشّيعة القدماء.
وممّا يزيد الرّيب في ذلك: أنّ ابن النّديم قد ذكر جملةً من الكتب المنسوبة إلى جابر بن حيّان، ومن عبارته يظهرُ أنّ جابراً كان ذا علاقةٍ بالبلاط العبّاسيّ، فقد ذكر ابن النّديم أنّه ألّف كتاب (إسطقس الأسّ الأوّل)، وكتاب (إسطقس الأسّ الثّاني)، وكتاب (الكمال) للبرامكة، وكتاباً آخر لعليّ بن يقطين، وكتاباً لعليّ بن إسحاق البرمكيّ، وكتاب (تليين الحجارة) لمنصور بن أحمد البرمكيّ، وكتاب (أغراض الصّنعة) لجعفر بن يحيى البرمكيّ. كما أنّ رسائله تتضمّن نصوصاً تشير إلى مخالطته لرجال البلاط العبّاسيّ، ومن ذلك قوله: (وحقّ سيدي، لقد خلّصت به -أي بالإكسير- من هذه العلّة أكثر من ألف نفسٍ فكان هذا ظاهراً بين النّاس جميعاً في يومٍ واحدٍ فقط. ولقد كنتُ يوماً من الأيّام بعد ظهور أمري بهذه العلوم وبخدمة سيّدي عند يحيى بن خالدٍ وكانت له جاريةٌ نفيسةٌ لم يكن لأحدٍ مثلها جمالاً وكمالاً وأدباً وعقلاً وصنائع توصف بها، وكانت قد شربت دواءً مُسهِّلاً لعلّةٍ كانت بها..إلخ)[24]، واللافت للنّظر في هذه الفقرة قوله: (فكان هذا ظاهراً بين النّاس جميعاً..)، وقوله: (بعد ظهور أمري بهذه العلوم) ، ومع ذلك لا نرى شيئاً ظاهراً في كتب التّاريخ والتّراجم والرّجال وغيرها.
وقال في موضعٍ آخر: (دعاني يوماً من الأيّام في شهر رمضان في اليوم السّابع منه جعفرُ بن يحيى، ويحيى معنا وخالد معنا أخو جعفر، فأقمنا عنده لشراء شيء من الإماء، ثمّ إنّ ذلك انقضى وأخذنا في ذكر الخواص في هذه الأركان خاصّةً فبلغنا إلى خواص الدّهن..إلخ)[25].
وقوله: (كنت يوماً عند إسحاق بن موسى بن يقطين وعنده رجلٌ فاضلٌ من الصّنعويّين، لم أرَ مثله في الطّالبين لهذه الصّناعة..)[26].
وهذا كلّه ينافي الاعتذار عن غموض شخصيّته باستتاره واختفائه عن السّلطان أو تحفّظه على ما عنده من العلوم، وفيه اقتضاء الشّهرة عند الخاصّ والعامّ، فإنّ المؤرّخين وأصحاب التّراجم أتوا على ذكر من خالط السّلاطين والوزراء من العلماء والمترجمين والمغنّين والنّدماء، فكيف غاب عنهم ذكره؟ وكيف اختفت أخباره من التراث الإسلامي فلم يظهر له أثرٌ سوى هذه الرّسائل المنسوبة إليه؟
ومن الجدير بالذّكر أنّ جملةً ممّن ذكروا جابراً لم يكن لهم مستندٌ سوى هذه الرّسائل المنسوبة إليه، ولم تكن لديهم أخبارٌ خاصّةٌ عنه، ولتُلاحظ عبارة المطهّر بن طاهر المقدسيّ وأبي ريحان البيرونيّ؛ فإنّهما ناظران إلى ما في تلك الرسائل المنسوبة.

القرينة الثّانية: قال ابن النّديم في عبارته المتقدّمة: (واختلف النّاس في أمره، فقالت الشّيعة إنه من كبارهم وأحد الأبواب)، والتّعبير عن جابر بن حيّان بكونه باباً لا يخلو من غرابةٍ؛ فإنّ كتب الشّيعة القدماء لم تجرِ على هذا المصطلح، كما أنّ الشيعة لم تذكره في كتبها فضلاً عن أن تذكره بعنوان بابٍ من الأبواب، بل إنّ هذا يزيد الرّيب بشأنه، فلو كانت الشيعة الإماميّة تذكر أنّه بابٌ للأئمّة لورد ذلك في كتبهم، ولا سيّما أنّه من الخواص المقرّبين، ولكن الصّحيح أنّ مراده من الشّيعة هم بعض فرق الغلاة منهم، فإنّ هذا المصطلح ذو ارتباطٍ بتراث الغلاة[27]، وهو ما يفتح الباب للتّساؤل حول ارتباط تراث جابر ببيئة الغلاة، ويضعّف الوثوق بدعوى وجود هذه الشّخصية مع هذا المقدار من الغموض والخفاء حولها.
أقول: من خلال نظرةٍ فاحصةٍ في رسائل جابر بن حيّان يظهرُ بوضوحٍ أنّ مدوّن هذه الرّسائل ذو ارتباطٍ ببيئة الغلاة وأفكارها، فإنّ جملةً من العبارات في رسائل متعددة تبيّن علاقةً بين هذه الرّسائل وأفكار الغلوّ، فمن هذه العبارات:
1- ما قاله في كتاب (إخراج ما في القوّة إلى الفعل): (وذلك أنّ الشّمس قد رُوي أنّها رُدَّتْ لأمير المؤمنين لمّا فاتته الصّلاة، كما رُدَّتْ له لمّا ظهر الميمُ في شخص إبراهيم، فإنّ إنساناً ناظره فقال: أنا أُحيي وأُميت. كما احتُجَّ عليه، وكان المناظر بليغاً لم يكن عامّياً؛ لأنّ إبراهيم مكان الميم في الوقت، والمُناظِرُ أمير المؤمنين. ومعنى قوله: ݨفبُهِتَ الذِي كَفَرَݩ ليس المُنَاظِرُ، إنّما بُهِتَ مَنْ كان حاضراً من العميان -لعنهم الله ولعن أمثالهم-، ورُدّت مثل ذلك في هذا الزّمان لإقامة الظّاهر للصّلاة والمعنى واحد في العمى والتّلبيس لمن حضر)[28].
ومصطلح (الميم) من المصطلحات المستعملة بكثرة في متون الغلاة، ويريدون به النبيّ محمّد -صلّى الله عليه وآله-، وفي هذه العبارة يشير إلى مطلب أساسيّ في عقيدة الغلاة وهو تكرُّر ظهور الاسم -وهو السيّد الميم بحسب تعبيرهم- في كل دورٍ بأشخاص مختلفين، فظهر الميم في أحد الأزمنة السّابقة بصورة شخص النبيّ إبراهيم عليه السّلام.
كما أنّ تفسيره للآية الكريمة مخالفٌ لظاهر القرآن، فضلاً عن الجنبة الباطنيّة في تأويله إيّاها، فقد جعل النبيّ إبراهيم هو النبيّ محمّد (الميم)، وجعل المناظِرَ له هو (أمير المؤمنين) الذي ظهر بصورةٍ أخرى، فلذلك قال: (والمناظِرُ أمير المؤمنين) ثم نفى أنّ الذي بُهِتَ هو المُنَاظِر، بل من كان حاضراً من العميان -على حدّ تعبيره-.
2- ما قاله في كتاب (إخراج ما في القوّة إلى الفعل) في بيان معنى الطلسم: (فإنّا رويناه عن معدن الحكمة وصانعه خبَّرني به فقال: يا جابر. فقلت: لبّيك يا مولاي. فقال: أتدري لم يُسمَّى الطلسم طلسماً؟ قلت: لا والله يا مولاي ما أدري. فقال: فكِّر فيه، فإنّه من عِلْمك. ففكّرتُ فيه سنةً فلم أعلم ما هو. فقلت: لا والله يا مولاي ما أدري ما هو. فقال: لولا أنِّي غرستُك بيدي وأنشأتُك أوّلاً وآخراً إلى وقت هذا لقلتُ إنَّك مُظلِمٌ، ويلك اقلبْهُ. فقلت: نعم يا مولاي. فإذا معناه مُسلَّط من جهة الغلبة والتّسليط. فخررتُ ساجداً فقال: لو كان سجودك لي وجِدُّكَ لكُنتَ من الفائزين، قد سجد لي آباؤك الأوّلون. وسجودك لي يا جابر سجودُك لنفسك، أنت والله فوق ذلك. فخررتُ ساجداً فقال: يا جابر، والله ما تحتاجُ إلى هذا كلّه. فقلتُ: صدقتَ يا مولاي. فقال: قد عَلِمْنا ما أردتَ، وعلمتَ ما أردتُ، فكن على نيلك)[29].
ومع غضّ النّظر عن سخافة المطلب في هذه الرواية المكذوبة، فإنّ السّجود للأئمّة عليهم السّلام منهيٌّ عنه، ولم يُعهد في رواياتنا المعتبرة ولا في سيرة الشيعة القدماء، وكذا قول: (قد سجد لي آباؤك الأوّلون) أقرب إلى طريقة الغلاة من منهج الشيعة الإماميّة.
3- قوله: (وإنّما علينا الاجتهاد في الكلام، وعليك القبول منّا، فإن قبلت لم تندم، ووحقّ سيديّ عليه السّلام إن لم تقبل لتكونّن مثل رعاع العامّة السّفلة الأضداد لعنهم الله أكثر مما قد لعنهم)[30]، وقوله: (ولكن هذه الكتب يا أخي معجزات سيّدي، وليس -وحقّه العظيم- يظفر بما فيها من العلوم إلّا أخونا، فأمّا من سواه من إخواننا الذين لم ندّخر هذا من أجلهم ولا صنّفناه لهم فإنّما يظفر منها بما ظهر من علومنا فيها وصنائعنا التي وضعناها وأودعناها إياها، وأمّا غير هؤلاء من الأضداد والسّفلة والأرذال والسّفهاء المظلمي النّفوس الأقذار العقول فما يزيدهم الله بها إلّا عمىً وضلالةً وجهلاً وبلادةً)[31]، والتّعبير عن المخالفين بـ(الأضداد) رائجٌ في كتب الغلاة، وهو مستعمل للإشارة إلى حكام الجور والمخالفين.
4- قوله: (وإنّما ذكرنا أمر الشّرع في حواشي كتبنا؛ لأنّ الشرع الأول إنّما هو للفلاسفة فقط، إذ كان أكثر الفلاسفة أنبياء كنوحٍ وإدريس وفوثاغورس وثاليس القديم وعلى مثل ذلك إلى الإسكندر)[32].
وجماعات من الغلاة يميلون إلى تقديس الفلاسفة القدماء وإسباغ صفات الألوهيّة أو النبوّة عليهم، ومن نماذج ذلك ما رواه أبو سعيد الطبرانيّ في (الرّسالة الجوهريّة الكلبيّة): (ورُوي أنّ أبا الفتح محمّد بن الحسن البغداديّ رضي الله تعالى عنه [روى] عن العالم منه السّلام، قال: إنّ المعنى -عزّ عزُّه- كان ظاهراً بأرسطاطاليس، والاسم ظاهراً بأفلاطون، والباب ظاهراً بسقراط، واليتيمان ظاهران بقراطيس وجالينوس)[33].
5- قوله في «كتاب الخمسين» ما نصّه: (وأمّا أسماء الأشخاص الذين يكونون في هذا الباب خمسة وخمسون)، وذكر منها: النبيّ، الإمام، الباب اليتيم، وهي مراتب خاصّة في تراث الغلاة، ثم قال: (وقال قومٌ: كلّ واحدٍ من هذه الأشخاص يعلمُ علم الإمام، فيجوز أن يكونوا أئمّةً. لكن لأهل النّظر ميزة قاطعة، وهو أنّ حدّ الإمام عنده أنّه التّامّ العِلم العامِل به، والباقون لا يعملون به ولا يحكمون. فأمّا الحجاب اثنان أصحابه: محمودٌ، وهو من يوسَم بالعلم وصحبة القوم، فإذا سُئل أوصل وتلطّف، ومذمومٌ وهو يستر ويخايل. وأمّا اليتيم فهو تربية الإمام ولا يُطلَق له البتّة، وهو محجوبٌ لا يراه أحدٌ سوى الإمام. وأمّا الباب فهو الرّائض الرّياضة الكبرى الكليّة، ليس وراءها غير الوصول بقوله: أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها. فدلَّ على أنّه المِفتاح.
فنحتاجُ أن نوضّح هل كلّ نبيٍّ وإمامٍ ويتيمٍ وبابٍ يقبل حدّ نبيّ وإمام ويتيم وباب، ثم ينبع على سائر الأشخاص؟ فأمّا أهل الوحي والمعجز فزعموا أنّهم ليس واحداً وإن تساووا فيما ذكرناه؛ لأنّهم لو كانوا بمعنى واحد ما تغيّرت معجزاتهم وسننهم، فظهر أنّ كلّاً منهم مخالفٌ للآخر، أعني: النبيَّ للنبيِّ والإمام للإمام وسائر الباقين على ذلك).
ثم قال: (وليس كلّ إمامٍ من يتيمٍ وإن كان بعض الأئمّة من يتيمٍ، وليس صورة الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية عند أمير المؤمنين بمنزلته عند النبيّ؛ لأن ليس فيهم يتيم، وأمير المؤمنين كان يتيماً.
وأيضاً: فإنّ الجماعة ليس فيها من كان باباً، وعليٌّ كان باباً. فهذا فضلان وإن كانت أشخاصهم متساوية. وأمّا باقي الأئمّة فإنّهم أخذوا من آبائهم وموصى إليهم، فلذلك فُضّل الحسين على الحسن؛ لأنّه أخذ عن أبيه، والحسين أخذ عن أبيه والحسن.
وإن قيل: «إنّ الحسن أخذ عن النبيّ وعن عليّ وعن سلمان» لأنّ الحسين قد أخذ عن الثّلاثة وعن أخيه، وليس فيهم من أخذ عن أخيه من الباقية غير الحسين.
وفُضّل محمّد بن الحنفية لأنّه لا يُروى أنّ أمير المؤمنين علّمه فقط شيئاً ظاهراً إلّا بمعنى سماع كلامه وبقوله: «أنت ابني حقّاً». وليس هذا موضعه لأنّه طويل، وخلف النّاس فيه كثير.
فأمّا الرّابع: فيكاد يكون كالتالي، أعني أنّ منزلة عليّ بن الحسين تكاد تكون كمنزلة الحسن).
وقال أيضاً: (فأمّا الفرق بين الإمام والنبيّ: أنّ النبيّ ناطق، والإمام صامت. والنبيّ آمرٌ والحجاب مأمورٌ، والإمام مأمور عالم بما أُمِرَ، والحجاب ليس عالماً بكلّ ما أُمِرَ. والنبيُّ فاعلٌ وحاكمٌ وآمرٌ، واليتيم لا فاعل ولا حاكم ولا آمر. والإمام صامت وناطق، واليتيم لا صامت ولا ناطق ولا عالم بكلّ ما أُمِرَ. والحجاب مأمور واليتيم غير مأمور. والنبيّ الجامع والباب واحد. والإمام حاكم، والباب مرشد. والباب يعلم والحجاب لا يعلم. والباب متّصل واليتيم منفصل. والباب ثابت واليتيم منتقل، والفرق بين الأنبياء على قدر المِلل، والأئمّة على قدر التأخّر، والسّلام)[34].
وهذه الاصطلاحات والمراتب من قبيل الباب واليتيم والحجاب وغيرها مبثوثة بكثرة وأنحاء مختلفة في كتب الغلاة.
6- ومنها قوله أيضاً: (والقوم قد نصبوا لكلّ دورٍ ستّة أشخاصٍ. وطائفةٌ قال: إنْ كان الأمرُ مستقيماً من الأوّل إلى السّادس كان الأمور منوطاً في الأئمّة، وإن كان الأمر مضطرباً كان وجود النّاطق..إلخ)[35].
وهذه العبارة تلوّح بما عليه الإسماعيليّة في مسألة الأدوار ووجود النّاطق فيها؛ فإنّ الإسماعيلية تعتقد بالأدوار السّبعة، وأنّ الدّور السّادس ابتدأ بنبوّة النبيّ محمّد -صلّى الله عليه وآله-، وفي هذا الدّور ستّة أئمّة ثُم يكون ختم الدّور بالإمام السّابع وهو عندهم محمّد بن إسماعيل بن جعفر الصّادق.
ومن هنا يقرب جدّاً أن تكون المتون المنسوبة إلى جابر بن حيّان قد خرجت من البيئة الإسماعيليّة، وقد ألّفتها جماعةٌ منهم ونسبوها إلى هذا العنوان، وهم لهم تجارب مماثلة في هذا الجانب، ولا سيّما أنّ هذه الرّسائل تمثّل نسخةً مبكّرةً ومتقدّمة من «رسائل إخوان الصّفا»؛ فإنّ وجوه التشابه بينها متعدّدة، من جهة الجنبة الباطنيّة التي تتضمّنها، والارتباط بالتراث اليونانيّ، وإيضاح هذا الأمر يحتاج إلى دراسة منفردة تهتمُّ بالمقارنة بين رسائل جابر ورسائل إخوان الصّفا.

[4] بيان عدم الوثوق بنسبة هذه المسائل والعلوم إلى الصّادق عليه السّلام.
مع غضّ النّظر عن مسألة وجود جابر نفياً أو إثباتاً، أو على تقدير التّسليم بوجوده، فإنّه لا يمكن الاطمئنان بأنّه قد أخذ هذه المسائل والعلوم عن الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام.
ومع البناء على عدم الاعتداد بالتراث المنسوب إليه، فيصبح الأمر أكثر ضبابيّةً؛ لأنّ المنقول في كتب التراث الإسلاميّ في القرون الأولى لا يكاد يفي بإثبات اتّصاله بالصّادق عليه السّلام، فضلاً عمّا يكتنف ذلك القول من إشكالات تقدّمت الإشارة إليها.
وأمّا مع البناء على الالتفات إلى مضامين تراثه الواصل إلينا، فإنّ الأمر أكثر إشكالاً، وذلك أنّ هذه الرّسائل احتوت على مطالب منكرة تدلّ على تخليطٍ عظيمٍ وبُعدٍ عن طريقة المتشرّعة، فإنّها لا تلائم سيرة ذوي الدّين، فكيف بمن يُدّعى أنّه من خواص الصّادق عليه السّلام؟! بالإضافة إلى أمورٍ أخرى تبعّد هذه النّسبة المكذوبة.
فمن ذلك: ما تقدّم ذكره من كلامه عن سجوده للصّادق عليه السّلام وسائر المطالب المشيرة إلى الغلوّ.
ومن ذلك: ما أورده في بعض رسائله حول تسخير الكواكب العلويّة واستخدامها، وهو أشبه بطريقة أهل السّحر والطلسمات وأمثالهم، فقد ذكر مطلباً في كتابه (إخراج ما في القوّة إلى الفعل) حول تسخير الكواكب العلويّة فقال: (أمّا العلويّات واستخدامها فكلامٌ لاهوتيٌّ عظيمٌ، والكلام أيضاً فيه ندر جداً، صعبٌ، ممتنع الوجود إلّا لذوي العقول البالغة التّامّة وذوي الرّياضة والفوائد الكاملة..)، ثم قال تحت عنوان «القول في كيفيّة خدمة العُلويّات»: (هذا يكون لشيئين لا غير، وهما: الرّصد والبخور. فأمّا الرّصد فأن تنظر نزول أيّ كوكبٍ أردتَ إلى أيّ درجةٍ أردتَ لعمل ذلك الشيء بعينه. وأمّا البخور فلكلّ كوكبٍ بخوران، أحدهما للمماثلة، والآخر للمقابلة..إلخ)، ثمّ ذكر البخور المعدّ لاستخدام كلّ كوكب من الكواكب العلويّة مثل الزّهرة وعطارد وزحل[36]، وقال في موضع آخر: (وانظر وحقّ سيديّ لقد عرضته عليه فقال لي: وحقّ جدّي ليظهرنّ لك في العالَم بعد وقتك أمرٌ عظيمٌ من هذا العلم. ووالله لئن استغرقت كلامي في هذه العلوم لا أعوَزَك معها في العالم شيٌ ولتعلَمنَّ العجائب، وليس علمُ الموازين نافعاً في علم الصّنعة فقط، بل هو نافعٌ فيما هو أعظم منها وهو علم الطّلسمات والكهانة والنّواميس العظيمة والتي على مثلها تتذابح النّاس، فاعلم وافهم ما أقوله)[37]. وهذا النّمط من الأعمال معروف عن بعض ذوي المشرب الباطنيّ كالمتصوّفة، ومن هنا اتّهمه ابن خلدون بأخذ جملةٍ من علومه عن المشتغلين بالسّحر[38].
ومن ذلك: ما قاله في صناعة الموسيقى وتأليفه فيها: (أمّا أمر الموسيقى فقد ذكرنا في كتبنا هذه كتاباً فيه بديع الأمر، لا يعملُ أحدٌ من النّاس مثله، قد استوفينا فيه صغير ما في الصّناعة وكبيره، ونحن نذكرُ هاهنا منه شيئاً يكون طريقاً للمتعلِّم فيما يحتاج إليه، وذلك أنّ حروف المدّ واللّين ثلاثة، وهي التي عليها مدار اللّحن والقرع، لأنّ الموسيقى إنّما هو مساواةٌ بين الصّوت بالنّغمة وقرع الوتر في زمانه..)[39]، وفي بداية كلامه كان قد وصف علم الموسيقى بـ«العلم النّفيس الكبير»[40]. وهذا ليس من طريقة عامّة الشّيعة فضلاً عن خواصّهم، بل ليس من ديدن المتشرّعة كما تشهد به سيرتهم.
ومن ذلك: قوله أنّه كان يدعو بأدعية الفلاسفة، ونقل دعاءً شبيهاً بأدعيتهم -كما نصّ على ذلك- ونسبه إلى الإمام الصّادق عليه السّلام، قال: (وإذ قد بسطت لذلك فلنقل ما سبب ذلك: إنِّي كنتُ آلفتُ سيّدي -صلوات الله عليه- كثيراً، وكنتُ لَهِجاً بالأدعية وبخاصّة ما كان يدعو به الفلاسفة، وكنتُ أعرضه عليه، وكان منها ما استحسنه، ومنها ما يقول: «النّاسُ كلُّهم يدعون بهذا، وليس فيه خاصيّة»، فلمّا أكثرتُ عليه علّمني هذا الدّعاء، وهو من جنس دعاء الفلاسفة، بل هو وتلك واحد إذا قُرِئت جميعاً، ولكن له فيه اختيارٌ وزيادات).
ثم ذكر متن الدّعاء وهو: (اللّهم أنت أنت، يا من هو هو، يا من لا يعلم ما هو إلا هو، اللهم أنت خالق الكلّ، اللهم أنت خالق العقل، اللهم أنت واهب النّفس النفسانيّة، اللهم أنت خالق العِلّة، اللهم أنت خالق الرّوح، اللّهم أنت قبل الزّمان والمكان وخالقهما، اللهم أنت فاعل الخلق بالحركة والسّكون وخالقهما، اللهم إنّي قصدتُك فتفضّل عليّ بموهبة العقل الرّصين، وإرشادي في مسلكي إلى الصّراط المستقيم، اللّهم بك فلا شيء أعظم منك نوّر قلبي، وأوضح لي سبيل القصد إلى مرضاتك، اللّهم إنّي قصدتك ونازعتني نفساي، نفسي النفسانيّة نازعتني إليك، ونفسي الحيوانيّة نازعتني إلى طلب الدّنيا، اللهم فبك لا أعظم منك، يا فاعل الكلّ، صلّ على محمّد عبدك ورسولك وعلى آله وأصحابه المنتجبين، واهدِ نفسي النفسانيّة إلى ما أنت أعلم به من مرادها منها، وبلّغ نفسي الحيوانيّة منك آمالها فتكون عندك، إذا بلّغتها ذلك فقد بلّغتها الدّنيا والآخرة، إنّه سهلٌ عليك، اللّهم إنّي أعلم أنّك لا تخاف خللاً ولا نقصاناً يوهنك برحمتك وكرمك هب لي ما سألتك من الدّنيا والآخرة..إلخ)[41].
كما أنّ هذه الرّسائل لا تخلو من مبالغاتٍ وغرائبَ شتّى، ومنها قوله: (فإنّا قد عملنا رسالةً مفردةً في وضع الحروف، لو اتُّفِقَ عليها وقتاً من الأوقات لأغنت النّاس عن التّصحيف وغيره، وعرّفتهم بكلام الطّير -إن كان كلاماً-، وصرير البكر، وطحن الرّحاء، وجميع الأصوات، وهي كبيرةٌ يُفهم منها كلّ لغةٍ، يقال لها رسالة «ا.ب.ت.ث»، فاطلبها فإنّها من غريب كتبي، وكان سيّدي -صلوات الله عليه- يعشقها ويديم النّظر فيها لحُسنها، فهي عجيبةٌ غريبةٌ، تفهم منها حركة كلّ شيءٍ متحرّك، ونطق كلّ صوتٍ، إمّا بمعنى تحته أو بغير معنى مثل زئير الأسد ونباح الكلب وصهيل الدوابّ وأمثال ذلك)[42].
وله قصصٌ أخرى من ضرب الخيال يصعب الوثوق بوقوعها مع هذه الحال، وقد ذكرها في مواضع متفرّقة[43].
ومن ذلك أيضاً: ما بثّه في كتبه -وهو ينسب أكثر علومه للصّادق عليه السلام- من نظريّات طبيعيّة مبنيّة على علوم الطبيعة والهيئة في التراث اليونانيّ وغيره ممّا أصبح بطلانه في زماننا الحاضر من البديهيّات، وهذا أكبر داحضٍ لدعوى مصنّف هذه الرسائل أنّ علمه مأخوذ من الصّادق عليه السّلام.
ومن ذلك أيضاً: أنّ الفضاء العامّ لهذه الرّسائل إنْ بلحاظ طبيعة بعض الأبحاث المطروحة أو بلحاظ الألفاظ المستعملة[44] لا ينسجم مع المشهد العلميّ في النّصف الأوّل من القرن الثّاني الهجريّ، بل هي أقرب إلى القرن الثّالث الهجريّ الذي شهد طفرةً في ميدان التّرجمة والفلسفة والانفتاح على التراث اليونانيّ و«العلوم الهرمسيّة» بنطاقٍ أوسع.

[5] كلمة أخيرة: الكيمياء في البيئة الإسلاميّة خلال القرون الأولى.
يرى النّاظر في التراث الإسلاميّ اختلافاً شديداً بين العلماء في علم الكيمياء، فمنهم من يرى صحّته، ومنهم يطعن عليه ويحرّمه ويرى أنّه ضرب من الشّعبذة ولا واقع له، ولفهم حقيقة الخلاف لا بدّ من الوقوف على تصوّرٍ واضحٍ لهذا العلم في تلك العصور، فإنّه لم يكن بالصّيغة التي نعرفها في زماننا الحاضر.
عُرف هذا العلم بـ«علم الصّنعة»، وهو علم ينظرُ في أحوال المعادن والنباتات وغيرها، ولكنّه لم يكن علماً متمحِّضاً في الجانب التجريبيّ، وإنّما رُبط بمسائل من التراث الفلسفيّ الباطنيّ وأعمالٍ ترتبط بالطّلسمات والأوفاق وتسخير الكواكب وعلم الأبراج، بالإضافة إلى دعاوى القدرة على تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة كالذّهب والفضّة.
وفي هذا السّياق، تؤكّد رسائل جابر بن حيّان عدم تمحّض الكيمياء بالمجال التجريبيّ الخالص، بل تعتبرُ الكيمياء ضرباً من الأسرار التي تختصُّ بـ«الإخوان»[45]، وأنّ الرّياضة الرّوحية ذات صلةٍ بها[46].
ومن النصوص المهمّة التي تدلّ على أنّ تراث «علم الصّنعة» ممتزجٌ بالجوانب الباطنيّة ما حكاه ابن النديم عن أهل صناعة الكيمياء، قال: (زعم أهلُ صناعة الكيمياء -وهي صنعة الذّهب والفضّة من غير معادنها- أنّ أوّل من تكلّم على علم الصّنعة هرمس الحكيم البابليّ، المنتقل إلى مصر عند افتراق النّاس عن بابل، وأنّه ملك مصر، وكان حكيماً فيلسوفاً، وأنّ الصّنعة صحّت له، وله في ذلك عدّة كتب، وأنّه نظر في خواصّ الأشياء وروحانيّاتها، وصحّ له ببحثه ونظره علم صناعة الكيمياء، ووقف على عمل الطّلسمات، وله في ذلك كتب كثيرة)[47].
ومن ذلك أيضاً ما ذكره ضمن مصنّفات إصطفن الرّاهب حيث قال: (إصطفن الرّاهب، هذا الرّجل كان بالموصل، ويُسمّى ميخائيل، وكان يُحكى عنه أنّه عَمِل الكيمياء، فلمّا مات ظهرت كتبه بالموصل، فرأيتُ منها شيئاً وهو: كتاب الرّشد...، كتاب الأدعية والقرابين التي تُستعمل قبل صناعة الكيمياء)[48].
فهذا كلّه يدلّ على أنّ صنعة الكيمياء لم تكن متمحّضة في الجانب التجريبيّ، وإنّما تتخلّلها أمور ذات جنبة باطنيّة تتلاءم مع مشرب جماعاتٍ من الباطنيّين -الأعمّ من المتصوّفة والغلاة- من قبل التعلّق بالطلاسم والأوفاق والاهتمام بالنّجوم والكواكب وغير ذلك، بالإضافة إلى محاولة مقاربة هذه المسائل مع فلسفة أهل الباطن، ولعلّ هذا الوجه في اشتهار عنوان جابر بن حيّان بـ «الصّوفيّ».
ولقد لفت النّظر -في هذا السّياق- اهتمام جملةٍ من الغلاة والباطنيّين بهذا العلم[49]، ومنهم: محمّد بن عليّ الشّلمغانيّ، حيث قال ابن النّديم في ترجمته: (ابنُ أبي العزاقر، أبو جعفر، محمّد بن عليّ الشّلمغانيّ، وقد استقيصتُ ذكره في أخبار الشّيعة، وكان له قدمٌ في صناعة الكيمياء. وله من الكتب: كتاب الخمائر، كتاب الحَجَر، كتاب شرح كتاب الرّحمة لجابر، كتاب البرّانيّات)[50].
ومنهم: إبراهيم بن محمّد بن أحمد بن أبي عون، قال ياقوت الحمويّ في ترجمته: (وكان من أصحاب أبي جعفر محمّد بن عليّ الشلمغانيّ المعروف بابن أبي العزاقر... وكان يتعاطى الكيمياء، وله كتب معروفة)[51].
ومنهم: الحسين بن منصور الحلّاج، قال ابن النّديم: (قرأتُ بخطِّ أبي الحسين عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر طيفور: الحسين بن منصور الحلّاج، وكان رجلاً محتالاً مُشعبِذاً، يتعاطى مذاهب الصّوفيّة ويتحلّى ألفاظهم، ويدّعي كلّ علمٍ، وكان صفراً من ذلك، وكان يعرف شيئاً من علم الكيمياء..)[52].
وقال ابن الجوزيّ: (قال أبو بكر الصوليّ: قد رأيتُ الحلّاج وجالسته، فرأيت جاهلاً يتعاقل، وغبيّاً يتبالغ، وفاجراً يتزهّد، وكان ظاهره أنّه ناسك صوفيّ، فإذا علم أن أهل بلدة يرون الاعتزال صار معتزليّاً، أو يرون الإمام صار إماميّاً، وأراهم أنّ عنده علماً من إمامتهم، أو رأى أهل السنّة صار سنيّاً، وكان خفيف الحركة، مُشعبِذاً، قد عالج الطبّ، وجرّب الكيمياء، وكان مع جهله خبيثاً، وكان يتنقل في البلدان)[53].
ثمّ إنِّي رأيتُ عبارةً للشّيخ الصّدوق (رحمه الله) في حديثه عن الغلاة الحلّاجيّة يقول فيها: (ومن علاماتهم أيضاً دعوى علم الكيمياء ولا يعلمون منه إلا الدّغل وتنفيق الشَّبَه[54] والرّصاص على المسلمين)[55]، وهذه العبارة تشير إلى شيوع هذا العلم في أوساط جماعاتٍ من الغلاة ذوي الميول الباطنيّة.
ومن هنا يتبيّن أنّ المنكرين لعلم الكيمياء لم ينكروا الجانب التجريبيّ فيه، وإنّما ما شابه من مسائل باطنيّة لا تمتّ للشريعة بصلةٍ، بالإضافة إلى إنكارهم القدرة على انقلاب الأعيان وتحويل النّحاس إلى ذهبٍ، وفي هذا قال ابن الجوزيّ: (وأبلهُ من هؤلاء من يتشاغل بعلم ‌الكيمياء؛ فإنّه هذيان فارغ، وإذا كان لا يُتصوّر قلب الذهب نحاساً، لم يتصور قلب النحاس ذهباً، فإنّما فاعل هذا مستحلٌّ للتدليس على النّاس في النقود، هذا إذا صحّ له مراده)[56].
وقال الفخر الرّازيّ: (وبهذا الطّريق نعلمُ فساد ما يدّعيه قومٌ من الكيمياء، لأنّا نقول: لو أمكنهم ببعض الأدوية أن يقلبوا غير الذّهب ذهباً لكان إمّا أن يمكنهم ذلك بالقليل من الأموال، فكان ينبغي أن يُغنوا أنفسهم بذلك عن المشقّة والذلّة أو لا يمكنهم إلا بالآلات العظام والأموال الخطيرة، فكان يجب أن يظهروا ذلك للملوك المتمكّنين من ذلك، بل كان يجب أن يفطن الملوك لذلك؛ لأنّه أنفع لهم من فتح البلاد الذي لا يتم إلا بإخراج الأموال والكنوز، وفي علمنا بانصراف النّفوس والهمم عن ذلك دلالةٌ على فساد هذا القول)[57].
وقال العلّامة المجلسيّ رحمه الله في هذا العلم: (ويظهر من بعض الأخبار تحقّقه، لكن علم غير المعصوم به غير معلوم، ومَنْ رأينا وسمعنا ممّن يدّعي علم ذلك منهم أصحاب خديعةٍ وتدليسٍ ومكرٍ وتلبيسٍ، ولا يتبعهم إلا مخدوع، وصرف العمر فيه لا يسمن ولا يغني من جوع)[58].
ويتلخّص مما ذكرنا أنّ لعلم الكيمياء في القرون الأولى سماتٌ عديدة:
السّمة الأولى: الارتباط بالعلوم الباطنيّة والروحيّة، ولذا مال إليه جماعاتٌ من ذوي الميول الباطنيّة من المتصوّفة وبعض فرق الغلاة.
السّمة الثّانية: اشتهاره بدعوى القدرة على قلب أعيان المعادن، وهذه الدّعوى لم تكن محلّ تسليم وقبول.
السّمة الثّالثة: استناد أصول هذا العلم إلى تراث الأمم السّابقة ولا سيّما التراث اليونانيّ والهرمسيّ.
ومن هذا المنطلق اتّخذ كثير من علماء المسلمين موقفاً سلبيّاً تجاه هذا العلم ومنتحلي صنعته، وتراث جابر بن حيّان لا يخرج عن الإطار العامّ لهذا العلم، بل هو من أقدم بذوره التاريخيّة، وهو ما يجعله محلّاً للتأمّل والتّساؤل من جهاتٍ شتّى.

خلاصة الدراسة
1- إنّ الأدلّة على وجود شخصيّة حقيقيّة باسم جابر بن حيّان غير وافيةٍ للإثبات، ومن هنا فإنّ أصل وجود شخصيّة بهذه المواصفات أمر مشكوك.
2- التراث المنسوب إلى جابر بن حيّان ذو صلةٍ بأفكار الغلاة والباطنيّين والتراث الفلسفيّ والعلميّ اليونانيّ.
3- إنّ نسبة جابر بن حيان وملحقاته إلى دائرة خواصّ الإمام الصّادق عليه السّلام غير صحيحة؛ وتنافيها جملة من القرائن، منها: عدم ظهور أدلّة تاريخيّة كافية للإثبات، فساد المطالب المبثوثة في رسائل جابر بن حيّان من الجهة الشرعيّة، وعدم انسجام لغة ومطالب هذه الرّسائل مع لغة القرن الثّاني الهجريّ إجمالاً.
4- نسبة مساهمة الإمام الصّادق عليه السّلام في علم الكيمياء استناداً إلى تراث جابر بن حيّان غير صحيحة؛ فإنّ الدّلائل لا تفي بإثبات وجود هذه الشّخصية فضلاً عن ارتباطها بالإمام، بالإضافة إلى أنّ علم الكيمياء بصيغته السّابقة في القرون الأولى لا يخلو من شوائب التراث الباطنيّ وأفكار الغلوّ وغيرها من الاتجاهات الفكريّة في ذلك الوقت.

موضوع ذو صلة: هل نقل أبو تمّام شعراً عن جابر بن حيّان الكوفيّ في ديوان الحماسة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: بحار الأنوار، ج59، ص186.
[2] لا يخفى ضعف هذا القول وعدم انسجامه مع التراث المنسوب إلى جابر بن حيّان، فإنّه عبّر في بعض رسائله بما يبيّن أنّ سيّده هو جعفر بن محمّد عليه السّلام، فضلاً عن إكثار الحلف بحقّه في رسائله، وتعبيره عنه بقوله (صلوات الله عليه)، وهذا كله لا يتلاءم مع كون سيّده جعفر بن يحيى البرمكيّ، انظر: مختار رسائل جابر بن حيان، ص533/رسائل جابر بن حيان، ص463.
[3] لا يخفى أنّ ما ذكره ابن النّديم مجرد استحسان، ويكفي في إبطاله ما يقع في الخارج من نسبة كتب مكذوبة إلى بعض الأشخاص المعروفين، وقد وقع ذلك فنُسبت كتب مكذوبة إلى أئمّة أهل البيت عليهم السّلام وبعض أصحابهم، كما أنّ بعض من يعمل على ترويج بعض الأفكار لا يرى بأساً بتأليف كتبٍ كثيرةٍ من دون نسبتها إليه، ويكفي في ذلك رسائل إخوان الصّفا التي ألّفتها مجموعة مجهولة، ولم تنسب الكتاب إلى أشخاصها الحقيقيّة.
[4] الفهرست، ج2، ص451-452.
[5] البدء والتاريخ، ج2، ص236.
[6] قال عند حديثه عن حجر الفيروزج: (اعلم أنّ ‌جابر ‌بن ‌حيّان الصوفيّ يسمّيه في كتاب «النُّخَب في الطّلمسات» حجر الغلبة..)، انظر: الجماهر في معرفة الجواهر، ص275.
[7] الجماهر في معرفة الجواهر، ص348.
[8] رسائل جابر بن حيّان، ص585-586.
[9] إخبار العلماء بأخبار الحكماء، ص124.
[10] وفيات الأعيان، ج1، ص327، رقم الترجمة 131.
[11] فرج المهموم، ص146.
[12] ينبغي الوقوف في عبارة السيّد ابن طاوس على أمرين:
الأمر الأوّل: ما نسبه إلى النجاشيّ أنّه ذكر جابر بن حيّان، ولا يوجد في رجاله أثرٌ لذكره، ومن المحتمل أن يكون النجاشيّ ذكره في كتابٍ آخر، ولا سيّما أنّ للنجاشيّ كتاباً آخر في موضوع علم النّجوم، ذكره في ترجمته لنفسه. انظر: رجال النجاشيّ، ص101، رقم الترجمة 253.
الأمر الثّاني: ما نسبه إلى عبارة ابن النّديم من أنّ جابر بن حيان له تصانيف على مذهبنا، وعبارة ابن النديم: (ولهذا الرّجل كتبٌ في مذاهب الشّيعة) وهو أعمّ من التشيع الإماميّ الاثني عشريّ، فليس لهذه الدّعوى دليل. نعم؛ يُنسب إليه كتابٌ في الإمامة، والظّاهر من ملاحظة سائر كلماته في شأن الإمامة أنّ كلامه فيها على النّسق الإسماعيليّ.
[13] مجموع الفتاوى، ج29، ص374.
[14] قال في كتابه (سرح العيون): (وأمّا جابر بن حيّان المذكور فلا أعرف له ترجمةً صحيحةً في كتابٍ يُعتَمد على نقله، وهذا دليلٌ على قول أكثر النّاس إنّه اسمٌ موضوعٌ، وضعه المصنِّفون في هذا الفنّ، ويزعمون أنّه كان في زمن جعفر الصّادق رضي الله عنه، وأنّه إذا قال في كتبه: «قال لي سيّدي» و«سمعتُ من سيّدي» فإنّه يعني به جعفراً الصّادق رضي الله عنه، ومع ذلك فإنّ الله تعالى أعلمُ بحقيقتها)، انظر: سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون، ص225.
[15] روح المعاني، ج20، ص118.
[16] الإمام الصّادق والمذاهب الأربعة، ج1، ص445-448.
[17] انظر: نگاهی به دریا، ج1، ص356.
[18] الفهرست، ج2، ص452-453.
[19] الفهرست، ج2، ص458.
[20] الفهرست،ج2، ص452.
[21] وفيات الأعيان، ج1، ص327، رقم الترجمة 131.
[22] وقد أشير إليها في بعض رسائل جابر بن حيان، ومن ذلك ما قاله في كتاب الحدود: (واعرف قدر هذا الكتاب، فلو قلتُ أن ليس في جميع كتبنا هذه الخمس مائة كتاب إلّا مقصراً عنه في الشَّرَف لقلتُ حقّاً)، انظر: مختار رسائل جابر بن حيان، ص102. وقد كان ينسب هذه العلوم إلى الصّادق عليه السّلام، فقال في الجزء الثّاني من (كتاب الأحجار على رأي بليناس): (وحقّ سيدي، لولا أنّ هذه الكتب باسم سيّدي -صلوات الله عليه- لما وصلتَ إلى حرفٍ من ذلك آخر الأبد أنت ولا غيرك إلّا في كلّ برهة عظيمة من الزمان فاحمد الله كثيراً الذي أوضح لك هذه السبيل)، انظر: مختار رسائل جابر بن حيان، ص164. وقال في كتاب (نار الحجر): (واعلم أنّي ما صنّفتُ بعد هذه الكتب الأربعة إلّا كتاباً واحداً جامعاً لتدبيرالباب الأعظم وكتبنا الخمسمائة التي على رأي سيّدي صلوات الله عليه...)، انظر: رسائل جابر بن حيّان، ص104.
[23] المعتمد في توثيق الأقوال: كتاب (مختار رسائل جابر بن حيّان) بتحقيق كراوس، الذي طبعته مكتبة الخانجي بالقاهرة، وطبعة (رسائل جابر بن حيّان) التي أعدّها أحمد فريد المزيديّ ونشرتها دار الكتب العلميّة ببيروت. وحيث إنّ الاسمين مختلفان فيتميّز النقل عن كل طبعة.
[24] مختار رسائل جابر بن حيان، ص303.
[25] مختار رسائل جابر بن حيان، ص306.
[26] مختار رسائل جابر بن حيان، ص309.
[27] انظر: پژوهش‌هاى رجالى، سيّد محمّد جواد شبيري زنجانى، دلالت منصب وكالت از معصوم بر وثاقت، ص53-54.
[28] مختار رسائل جابر بن حيّان، ص35-36.
[29] مختار رسائل جابر بن حيّان، ص79-80.
[30] مختار رسائل جابر بن حيان، ص317.
[31] مختار رسائل جابر بن حيان، ص546.
[32] مختار رسائل جابر بن حيان، ص510.
[33] انظر: سلسلة التراث العلوي، ج4، كتاب الرسالة الجوهرية الكلبية، ص36.
[34] مختار رسائل جابر بن حيان، ص489-493.
[35] مختار رسائل جابر بن حيّان، ص493.
[36] مختار رسائل جابر بن حيان، ص86-90.
[37] مختار رسائل جابر بن حيان، ص431-432.
[38] كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر، ج2، ص292-293/ج2، ص324.
[39] انظر: مختار رسائل جابر بن حيّان، ص11.
[40] مختار رسائل جابر بن حيان، ص11.
[41] مختار رسائل جابر بن حيان، ص455-458.
[42] مختار رسائل جابر بن حيان، ص14-15.
[43] انظر: مختار رسائل جابر بن حيان، ص485-488.
[44] تطفح رسائل جابر بن حيّان بمفردات علميّة وفلسفيّة، ولا يظهر لها حضور في التراث الرّوائيّ عن الإمام الصّادق عليه السّلام ولا في التراث الكلاميّ عند المسلمين في تلك الحقبة، ومن ذلك استعمال مفردة (المعجزة) للدلالة على الفعل الخارق للعادة، ومفردات فلسفية متأخّرة من قبيل: الأيس واللّيس، الظهور والكمون، الكون والفساد، العالم العُلْويّ، الهيولى..إلخ. انظر: مختار رسائل جابر بن حيان، ص37-113-275-299.
[45] مختار رسائل جابر بن حيان، ص319-320/ص338-339/ص433/ص450/ص475.
[46] مختار رسائل جابر بن حيان، ص455-459.
[47] الفهرست، ج2، ص441-442.
[48] الفهرست، ج2، ص462-463.
[49] ارتباط التراث الكيميائيّ بالتراث الفلسفيّ الباطنيّ -الإسماعيليّ والصوفيّ- ظاهرٌ بوضوحٍ في تراث جابر بن حيان وغيره ممن ألّف في هذا الميدان، انظر: الكيمياء والكيميائيّون في التراث العربيّ الإسلاميّ من القرن الثّاني إلى القرن الثّامن الهجريين، ص265-292.
[50] الفهرست، ج2، ص465. وانظر أيضاً: الدرّ الثّمين في أسماء المصنّفين، ص182.
[51] معجم الأدباء، ج1، ص106، رقم الترجمة 31.
[52] الفهرست، ج1، ص675.
[53] المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج13، ص202.
[54]) قال الفراهيديّ: (الشَّبَهُ: ضربٌ من النّحاس يُلْقَى عليه دواءٌ فيَصْفرّ، وسُمّي شَبَهاً؛ لأنّه شُبِّه بالذّهب)، انظر: العين، ج3، ص404.
[55] الاعتقادات، ص325، باب الاعتقاد في نفي الغلوّ والتفويض.
[56] صيد الخاطر، ص637.
[57] مفاتيح الغيب، ج3، ص223-224.
[58] بحار الأنوار، ج57، ص185.

الاثنين، 23 أكتوبر 2023

دروس في شرح الأمالي

بسم الله الرحمن الرحيم
دروس في شرح الأمالي

سلسلة دروس في شرح كتاب (الأمالي) للشّيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النّعمان العكبريّ البغداديّ (رضي الله عنه)، وقد تناول الشّرح عدّة جوانب ترتبط منها:
١- التّعريف برجال الأسانيد.
٢- التعليق ببعض الفوائد المرتبطة بالأسانيد.
٣- شرح غريب الحديث، وضبط المتن ضبطاً صحيحاً، وتخليصه من التّصحيفات.
٤- ربط الأحاديث ببعض المطالب الكلاميّة والتاريخيّة.
٥- الدراسة النقدية لبعض الأحاديث.
٦- تخريج الأحاديث تخريجاً علميّاً.

روابط الصوتيات في قناة التلغرام:

الاثنين، 9 أكتوبر 2023

المنهج الصحيح في إثبات نسبة الكتب الحديثيّة والرّجاليّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم
المنهج الصحيح في إثبات نسبة الكتب الحديثيّة والرّجاليّة

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد الأنبياء والمرسلين، خير البريّة أجمعين، محمّد بن عبد الله الصّادق الأمين، وعلى أهل بيته الطّيبين الطّاهرين، واللّعن الدّائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدّين، أمّا بعدُ:

يُعدّ الكلام حول نسبة الكتب إلى مؤلّفيها من الأبحاث المهمّة في التّراث الإسلاميّ؛ فإنّ استنباط المعارف الدينيّة يحتاج إلى الاعتماد على المصادر الموثوقة، فكما أنّ الفقهاء يتثبّون من صحّة الأخبار في مقام الاستدلال فإنّهم أيضاً يتفحّصون أحوال الكتب الواصلة إليهم، ولذلك جرت سيرة العلماء منذ القرون الأولى إلى عصرنا الحاضر على التثبّت من صحّة نسبة الكتب المعتبرة إلى مؤلّفيها، كما تعرّض جملة من المحقّقين والنّقاد للبحث والتحقيق في نسبتها، وتضمَّنت كلماتُهم جملةً من الضوابط والمعايير التي يُمكن من خلالها تقييم صحّة نسبة الكتاب، وحيثُ إنّ هذا البحث لم يتم التوسّع في بيان ضوابطه ومعاييره فسوف نبسط الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وقبل الشّروع في أصل البحث، نشير إلى أمرين أساسيّين يرتبطان ببحث نقد نسبة الكتب:

الأمر الأوّل: حول تاريخ البحث في التراث الإماميّ.
إنّ مسألة التثبّت من نسبة الكتاب إلى مؤلّفيها أصيلةٌ في سيرة المحدّثين منذ القرون الأولى، حيث كانوا يتثبّون من ضبط الأصول الرّوائيّة المنقولة حفظاً للدّين وعنايةً منهم بشأنه -لأنّه لا يؤخذ بأيّ نحوٍ كان- وذبّاً للبدع والأكاذيب التي يحاول الوضّاعون إلصاقها بالدّين الحنيف. ولذا فإنّ دعوى إهمال العلماء لمسألة نسبة الكتب وأنّهم لم يحقّقوا بشأنها وإنّما جروا على ما يجدون بين أيديهم مخالفةٌ للشّواهد التّاريخيّة وما تفيده الآثار العلميّة التي تركوها.
وهذا الأمر يكشف عن وجود قواعد وضوابط علميّة مركوزة في أذهان نقّاد الحديث يتمّ من خلالها تقييم نسبة تلك الكتب إلى مؤلّفيها، فهُمْ وإن لم يفردوا أبحاثاً مستقلّة لها منذ القدم، إلّا أن سيرتهم في تقييم تلك المصنّفات تحكي بوضوحٍ عن وجود منهج علميّ للتقييم والنّظر الدّقيق في أحوال تلك المصنّفات، ومن جملة الشّواهد على تدقيقهم وتثبّتهم في هذه المسألة:
الشّاهد الأوّل: ما يدلّ على نظرهم لدفع الاشتباه والخلط في نسبة الكتب.
ومن ذلك ما قاله النّجاشيّ في ترجمة أحمد بن إصفَهبُذ القميّ: (لا يُعرَف له إلّا كتاب تعبير الرّؤيا، وقال قومٌ: إنّه لأبي جعفرٍ الكلينيّ، وليس هو له)[1]، وهو قد قال في ترجمة الكلينيّ: (وله غير كتاب الكافي: كتاب الردّ على القرامطة، كتاب رسائل الأئمّة عليهم السّلام، كتاب تعبير الرؤيا)[2].
ومنه: ما قاله النجاشيّ في ترجمة جعفر بن يحيى بن العلاء: (وكتابُه يختلط بكتاب أبيه؛ لأنّه يروي كتاب أبيه عنه، فرُبّما نُسب إلى أبيه، وربّما نسب إليه)[3].
ومنه: ما قاله النّجاشيّ في ترجمة ثُبيت بن محمّد العسكريّ عند تعداد بعض كتبه: (والكتابُ الذي يُعزَى إلى أبي عيسى الورّاق في نقض العثمانيّة له)[4].
الشّاهد الثّاني: ما يدلّ على تدقيقهم بالطّعن في الكتب المنحولة والمخترعة.
ومنه: ما قاله النجاشيّ في ترجمة جابر بن يزيد الجعفيّ: (وتُضاف إليه رسالة أبي جعفرٍ إلى أهل البصرة وغيرها من الأحاديث والكتب، وذلك موضوعٌ، والله أعلم)[5].
ومنه: ما قاله النجاشيّ في ترجمة عليّ بن الحسن بن فضّال: (ورأيتُ جماعةً من شيوخنا يذكرون الكتاب المنسوب إلى عليّ بن الحسن بن فضّال المعروف بـ«أصفياء أمير المؤمنين عليه السّلام»، ويقولون إنّه موضوعٌ عليه، لا أصل له، والله أعلم. قالوا: وهذا الكتاب أُلْصِقَ روايته إلى أبي العبّاس ابن عقدة وابن الزّبير، ولم نرَ أحداً ممّن روى عن هذين الرّجلين يقول: قرأتُه على الشّيخ. غير أنّه يُضاف إلى كلّ رجلٍ منهما بالإجازة[6]، والذي يريد بيانه من هذا الكلام أنّ بعض الأصحاب لمّا كان ابن عقدة وابن الزّبير هما العمدة عندهم في نقل تراث عليّ بن فضّال، ولم يُسمع هذا الكتاب منهما، فقد أصبح مورداً للشكّ في النّسبة.
ومنه: ما قاله الشيخ الطوسيّ في ترجمة زيد النرسيّ وزيد الزرّاد: (لهما أصلان، لم يروِهما محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه، وقال في فهرسته: لم يروِهما محمّد بن الحسن بن الوليد، وكان يقول: هما موضوعان، وكذلك كتاب خالد بن عبد الله بن سدير، وكان يقول: وضع هذه الأصول محمّد بن موسى الهمدانيّ)[7].
وقال ابن الغضائريّ: (وقال أبو جعفر ابن بابويه: إنّ كتابهما موضوعٌ، وضعه محمّد بن موسى السمّان. وغلط أبو جعفر في هذا القول، فإنِّي رأيتُ كتبهما مسموعةً عن محمّد بن أبي عمير)[8].
ومنه: ما قاله ابن الغضائريّ في ترجمة المفضّل بن عمر الجعفيّ: (وقد زِيْدَ عليه شيءٌ كثيرٌ، وحمل الغلاة في حديثه حملاً عظيماً)[9]، ومن المعلوم أنّ المفضل قد نُسبت إليه كتبٌ مكذوبةٌ من قبيل كتاب الهفت وكتاب الصّراط.
ومنه: ما قاله ابن الغضائريّ في ترجمة محمّد بن أورمة القميّ: (اتّهمه القميّون بالغلوّ، وحديثه نقيٌّ لا فساد فيه، وما رأيتُ شيئاً يُنسب إليه تضطرب فيه النّفس، إلّا أوراقاً في تفسير الباطن، وما يليقُ بحديثه، وأظنُّها موضوعةً عليه)[10].
وهذه الكلمات تبيّن عمل نقّاد الحديث على التثبّت من نسبة الكتب المرويّة إلى أصحابها، كما أنّها تكشف عن وجود ضوابط علميّة يطبّقونها في مقام النّقد -مع غضّ النّظر عن الاتفاق مع النّتائج أو عدمه-، وقد جرت هذه السّيرة عند العلماء المحدّثين إلى زمن المجلسيّ والحرّ العامليّ والميرزا الأفنديّ الأصفهانيّ وغيرهم ممّن أعمل النّظر والتدقيق في نسبة الكتب إلى أصحابها.

الأمر الثّاني: في بيان جهات البحث وحدودها.
يقع البحث حول الضّوابط العامّة التي يمكن النّظر من خلالها إلى تقييم النّسبة، وهو يتناول جهاتٍ أربع:
الجهة الأولى: ثبوت العنوان في الفهارس وغيرها.
الجهة الثّانية: دراسة الطبقات والأسانيد.
الجهة الثّالثة: دراسة المتون.
الجهة الرّابعة: دراسة النّسخ الخطيّة.

وهنا ينبغي التّنبيه على عدّة نقاط تتعلّق بهذه الجهات:
أوّلاً: إنّ الكلام في ضوابط النّقد والتّمييز منها ما يصلح لعامّة المصنّفات التي كُتبت بغضّ النظر عن موضوعاتها، ومنها ما يختصُّ بكتب الحديث والرّجال، وحيثُ إنّ الكتب الحديثيّة والرّجالية محلّ النظر في هذا البحث فسوف نشير إلى ضوابط ومعايير نسبة هذه الكتب إلى أصحابها، وأما سائر الكتب في العلوم الأخرى بما لها من خصوصيّات تميّزها عن كتب الحديث فلا نتعرّض لمعاييرها في هذا المقام، وإن أمكن الاستفادة من بعض النّكات التي سنذكرها لتوظيفها في البحث حول سائر الكتب.
ثانياً: تتفاوت القرائن من حيث قيمتها الاحتماليّة ومن حيث دلالتها على المقصود، فمن حيث القيمة، قد لا تكون بعض القرائن حاسمةً بمفردها، ولكنّها بانضمامها إلى المزيد من القرائن المختلفة تورث وثوقاً بصحّة نسبة الكتاب أو عدمها، فهي وإن لم تكن حاسمةً في المقام إلّا أنّ لها قيمةً احتماليّة ينبغي الاعتناء بها، من قبيل: ذكر أو عدم ذكر اسم الكتاب في الفهارس أو سائر المصنّفات. فهي بنفسها ليست حاسمةً إلّا أنّها لا تخلو من قيمةٍ واعتبارٍ. وأمّا من حيث الدّلالة، فبعضها يكون نافعاً في إثبات النّسبة إلى مؤلّفٍ بشكل مباشر، وبعضها قد لا يؤكّد انتساب الكتاب إلى المؤلّف بالضّرورة، ولكنّها تضعّف احتمال الكذب وافتعال النّسخة، فينبغي التمييز بين أنواع القرائن، وتوظيف كلّ واحدة منها بالنّحو الصّحيح.
ثالثاً: إنّ فقدان بعض القرائن -التي سيأتي ذكرها- قد لا يضرّ بإمكانيّة تحصيل الوثوق بصحّة النسبة، ولكنّ بعضها الآخر يكون انعدامه أو انعكاسه مسبّباً للشكّ في صحّة النسخة. فمثلاً من جملة القرائن التي تذكر لبيان صحّة النسبة وجود عنوان الكتاب في المصنفات الفهرستية أو الإجازات الحديثيّة أو غيرها، ومع ما لهذه القرينة من قيمة احتماليّة إلّا أنّ غيابها لا يكون قادحاً.
ومن أمثلة ذلك: عدم ذكر كتاب قرب الإسناد إلى الصّادق (عليه السّلام) وقرب الإسناد إلى الكاظم (عليه السّلام) ضمن مؤلّفات الشيخ عبد الله بن جعفر الحميريّ، فإنّه قد ذكر الشيخ النجاشيّ جملة من كتبه وهي: كتاب الإمامة، كتاب الدلائل، كتاب العظمة والتوحيد، كتاب الغيبة والحيرة، كتاب فضل العرب، كتاب التوحيد والبداء والإرادة والاستطاعة والمعرفة، كتاب قرب الإسناد إلى الرّضا عليه السّلام، كتاب قرب الإسناد إلى أبي جعفر بن الرّضا عليه السّلام، كتاب ما بين هشام بن الحكم وهشام بن سالم، والقياس، والأرواح، والجنّة والنار، والحديثين المختلفَيْنِ، مسائل الرجال ومكاتباتهم أبا الحسن الثالث عليه السّلام، مسائل لأبي محمّد الحسن عليه السّلام على يد محمّد بن عثمان العمريّ، كتاب قرب الإسناد إلى صاحب الأمر عليه السّلام، مسائل أبي محمّد وتوقيعات، كتاب الطبّ[11].
وذكر الشيخ الطوسيّ هذه الكتب بهذا النحو: (له كتب، منها: كتاب الدلائل، كتاب الطبّ، كتاب الإمامة، كتاب التوحيد والاستطاعة والأفاعيل والبداء، كتاب قرب الإسناد، كتاب المسائل والتوقيعات، كتاب الغيبة، ومسائله عن محمّد بن عثمان العمريّ، وغير ذلك من رواياته ومصنفاته وفهرست كتبه.
وزاد ابن بطة: كتاب الفترة والحيرة، كتاب فضل العرب)[12].
وليس في هذه الكتب كتابا قرب الإسناد إلى الصّادق والكاظم عليهما السّلام، ولكننا إذا نظرنا في النّسخة الواصلة إلينا من كتاب قرب الإسناد نجد أنّه يتضمّن ثلاثة كتب: قرب الإسناد إلى الصادق عليه السّلام، قرب الإسناد إلى الكاظم عليه السّلام، قرب الإسناد إلى الرّضا عليه السّلام.
وعدم ذكر الكتابين الأوّلين في الفهارس منسوبةً إليه لا يمنع من تصحيح نسبة الكتاب إليه عبر إقامة قرائن مختلفة تبيّن ذلك وتثبته كما ظهر لنا من خلال دراسة أحاديث الكتاب.
وعلى الجانب الآخر، فإنّ انعدام بعض القرائن قد يضرّ بإمكانية تحصيل الوثوق بصحّة النسبة بل يسبب الشكّ فيها، ومن ذلك اختلال أسانيد النسخة وعدم انسجامها مع طبقة المؤلّف الذي يُنسب إليه الكتاب، أو وجود مضامين كثيرة لا تنسجم مع المسلك العقائديّ للمؤلّف الذي نُسبت إليه النسخة، ومن أمثلة ذلك: نسبة كتاب عيون المعجزات للسيّد المرتضى رحمه الله، فمن يطالع هذا الكتاب يعلمُ أنّه خلاف المنهج الكلاميّ والعقديّ عند السيّد -رضوان الله عليه-، ونسبة كتاب نوادر المعجزات إلى من عُنوِنَ بـ«محمّد بن جرير الطبريّ الصّغير» الذي قُدِّر من خلال بعض الأسانيد أنّه من أهل القرن الخامس الهجريّ، وجملة من أسانيد الكتاب لا تتلاءم مع هذه الطّبقة، وفي أمر الكتاب نظرٌ وتفصيلٌ يُذكر في محلّه.
رابعاً: ما نشير إليه في هذا البحث يمثّل الكليّات العامة للنّظر في نسبة كتب الحديث إلى مؤلّفيها، وهذا يعني عدم انحصار القرائن والأمارات المُثبتة أو النافية فيما نذكره، فقد تتوفر بعض الكتب على خصائص أخرى تنفرد بها ويمكنها أن تساعد في رفد البحث بالشواهد والقرائن والأمارات، ومعالجة هذه المسألة تكون بدراسة القضايا الجزئيّة الخاصّة بكلّ كتابٍ، وقد سعينا في هذا المقام إلى طرح كبريات البحث التي تصلح للتطبيق على جميع الكتب الحديثيّة والرّجاليّة، وأمّا التفاصيل الجزئية الخاصة فتُبحث في محلّها.

الجهة الأولى: ثبوت العنوان.
من الأمارات المهمة في البحث حول نسبة الكتاب وجودُ شهاداتٍ حسيّة من بعض العلماء يُشيرون بها إلى وجودِ كتابٍ بعنوانٍ مُعيّنٍ ضمن كتب المؤلّف، سواءً أكان ذلك النصّ في الفهارس المخصّصة لذكر كتب الأصحاب، أو ضمن الإجازات، أو في طيّات الكتب الأخرى على اختلاف أنواعها، فالشّهادات الحسيّة لها قيمةٌ في إثبات نسبة الكتاب، ولا سيّما إن كانت صادرةً عن علماء قريبين من زمن المؤلّف، وهذا الأمرُ يساعد على تضعيف احتمال كون أصل النّسخة منحولاً على المؤلّف إلى حدّ ما، كما أنّ الالتفات إلى هذه المسألة قد يساعد في رفع الاشتباه الوارد في تسمية الكتب أو نسبتها لغير أصحابها.
ويمكن أن يُستفاد من هذه القرينة لذكرها ضمن القرائن المؤيّدة لنسبة الكتاب، فيُعتمد على ما ذكره الشيخ النجاشيّ والطوسيّ لكونهما من أصحاب الفهارس في تأييد نسبة بعض الكتب الواصلة إلينا، وأحياناً قد تُذكر بعض العناوين في غير المصنّفات الفهرستيّة، كما هو الحال بالنسبة لإجازة أبي غالب الزراريّ (رحمه الله) حيث ذكر بعض مصنّفات الأصحاب فيها، وكذكر الشيخ الصدوق (رحمه الله) بعض كتبه في جملةٍ من مصنّفاته، حيث ذكر في كتابه «من لا يحضره الفقيه» بعضها من قبيل: علل الشرائع[13]، كمال الدين وتمام النعمة[14]، فضائل رجب[15]، فضائل شعبان[16]، فضائل شهر رمضان[17].
وعلى الجانب الآخر، يستفيد بعض العلماء من عدم ذكر الكتاب في فهرسة مصنّفات المؤلّف كقرينة على عدم النّسبة، ومن ذلك ما ذُكِرَ في نفي نسبة كتاب الاختصاص للشيخ المفيد؛ إذ قد عدّد النجاشي والطوسي جملة وافرة من كتبه ولم يذكروه بينها.
ومما ينبغي التأكيد عليه أنّ هذه القرينة -سواءً ذكر الكتاب في الفهارس وغيرها، أو عدم ذكره- لا تُعامل كقرينة حاسمةٍ في النسبة، بل لا بدّ من ضمّ المزيد من القرائن لتأييد النسبة أو نفيها؛ فإنّ مجرّد عدم ذكر كتابٍ في الفهارس وغيرها لا يمنع بالضّرورة من نسبة الكتاب إلى مَنْ نُسِبَ إليه، بل قد تتوفر قرائن أخرى تفيد ذلك، والسبب في ذلك أنّ أصحاب الفهارس من علمائنا لم يكونوا في مقام الحصر عند تعداد كتب الرّواة والعلماء، إذ لم يلزموا أنفسهم بذكر جميع المصنّفات لكلّ من ترجموا لهم، وهذا ظاهرٌ من كلمات الشيخ النجاشيّ والطوسيّ في مواضع كثيرة، ويكفي في المقام أن نذكر ما قاله الشّيخ النجاشيّ في مقدمّة كتابه: (وقد جمعت من ذلك ما استطعته، ولم أبلغ غايته؛ لعدم أكثر الكتب، وإنّما ذكرتُ ذلك عُذراً إلى من وقع إليه كتابٌ لم أذكره)[18]، وأمّا بقية الشواهد فلتُلاحظ في مظانِّها.

الجهة الثّانية: الأمارات المتعلّقة بالطبقات والأسانيد.
إنّ دراسة الأسانيد وطبقات الرّواة فيّ أيّ كتابٍ حديثيّ من شأنها أن تُنبّه الباحث إلى جملةٍ من الأمارات التي تُساعده على تقييم نسبة الكتاب إلى مؤلفه، ومنها:
الأمارة الأولى: معرفة مدى ملاءمة أسانيد النّسخة -بلحاظ الشّيخ المباشر- لطبقة المصنِّف؛ إذ إنّ وجود اختلال في هذه الجهة من شأنه أن يكون باعثاً على الريب في صحة النسخة، فلو كان مَنْ نُسِبَتْ إليه النسخة ممن عاش في القرن الثالث الهجريّ، وكان شيوخه بحسب النسخة الواصلة في القرن الرابع مثلاً، فهذا غريبٌ ويبعثُ على الريب، ويدفعُ باتجاه الشكِّ في صحّة نسبة النسخة إليه، إلا أن يكون هناك اختلالٌ في النسبة لتشابه الأسماء وما إلى ذلك، فينبغي التثبّت والاعتماد على المزيد من القرائن في المقام.
وهذا الأمر لا يمكن استظهاره من بضع موارد نادرة أو يسيرة، بل ينبغي أن يكون بمقدارٍ يُخلّ بالوثوق بالنسخة، فقد يتّفق وقوع بعض الأخطاء بنسبة نادرة من جهة النسّاخ أو غيرهم، وهذا لا يشكّل قدحاً مضعّفاً لنسبة الكتاب.
ومن أمثلة ذلك ما ذُكِر في شأن التفسير المنسوب إلى عليّ بن إبراهيم القميّ؛ فإنّ جملةً وافرةً من الأسانيد في هذه النسخة لا تتلاءم مع صدورها عمّن نُسبت إليه النّسخة الواصلة[19].
الأمارة الثانية: أن تكون أسانيد الكتاب معهودة عن المصنف أو مُترقَّبة منه، ومرادنا من الأسانيد المعهودة ما عُرف عن المؤلف روايته بها في سائر كتب الحديث أو الفهارس. وهذه الأمارة مؤثّرة جدّاً في نقد النسبة، فلو كنا نبحث في نسبة كتابٍ إلى الصّدوق (رحمه الله)، وكان أكثر الأسانيد لا يشبه أسانيده المعهودة في كتب الحديث وفهارس المصنّفات، فهذا قد يكون مُضعِّفاً للنسبة وخادشاً في صحّتها.
وأمّا الأسانيد المترقّبة فهي الأسانيد التي يتوقّع رواية مثلها من المصنّف لا سيّما مع ملاحظة المعطيات التاريخيّة حول شخصيّته العلميّة ورحلاته العلميّة ومنهجه في الرّواية وتاريخ تحمّله للحديث وما شاكل ذلك من معطيات تاريخيّة.
فمثلاً لو عثرنا على نسخةٍ منسوبةٍ إلى حمران بن أعين أو محمّد بن أبي عمير، وكانت أسانيدها يغلب عليها الرواية عن رجال العامَّة[20]، أو عثرنا على نسخةٍ منسوبةٍ إلى ابن قولويه القميّ وقد أكثر فيها من الرّواية عن سعد بن عبد الله الأشعريّ[21]، فإنّه من البعيد تحصيل الاطمئنان بسهولة لنسخةٍ بهذه الحال، وذلك لخصوصيّة في هؤلاء المحدِّثين.
وبعبارة أخرى: لا بد من وجود تقاربٍ بين أسانيد النسخة المنسوبة وأسانيد المصنف المشهورة والمعروفة في كتب الحديث المعتمدة، ولا يُشترَطُ هذا في تمام أسانيد النّسخة، وإنما ينبغي أن يكون هذا الجانب ملحوظاً في النسخة المنسوبة، ولا مانع من أن يتفرَّدَ بأسانيد لم يتناقلها أكثر المحدّثين، بشرط أن تكون مترقّبة منه بلحاظ ما ذكرناه آنفاً.
الأمارة الثّالثة: انضباط سلسلة الأسانيد وفقاً للمعلوم القطعيّ في بحث طبقات الرّواة، فلو اختلّ ترتيب رواة الأسانيد بنحو يتنافى مع طبقاتهم وتواريخهم فإنّ هذا يكون باعثاً إلى تقوية احتمال تركيب الأسانيد واختراعها من وضّاع جاهل غير عالم بالطّبقات والتاريخ.
الأمارة الرّابعة: أن يكون هناك تطابقٌ بين أسانيد روايات النّسخة وبين أسانيد الروايات عينها في الكتب الحديثية المعتبرة، فلو وجدنا جملةً من الروايات بإسنادٍ معيَّنٍ، ثم وجدناها بنفس الإسناد في كتاب معتبر آخر، فإنّ هذا التطابق يزيد احتمال الوثوق بالنسخة، كما هو الحال بالنسبة إلى النسخة الواصلة من كتاب «المحاسن»؛ فإنّ نسبةً وافرةً من رواياتها موجودةٌ في كتاب «الكافي» وجملة من كتب الشيخ الصدوق بالأسانيد عينها التي رواها الشيخ البرقيّ رحمه الله، وهذا الأمر له دورٌ مؤثّر في تضعيف احتمال الاختلاق.
ومن خلال التخريج والمقارنة يمكن الوقوف على كثير من الشواهد المؤيّدة، ولا سيّما بين الكتب التي تترابط مع بعضها بمقدارٍ ما، كما هو الحال بالنسبة إلى أمالي الشيخين المفيد والطوسيّ، أو كتب الصدوق بلحاظ المجموع، أو كتب الطوسيّ الحديثيّة مقارنةً بكتابه الفهرست، بل يمكن الاستفادة أيضاً مما ورد في أسانيد فهرستَيْ النجاشيّ والطوسيّ ومقايستهما مع أسانيد الروايات المذكورة في سائر كتب الحديث.
وسنأتي على ذكر جملةٍ من الشواهد التي توضّح ثمرة هذه الأمارة عند التعرّض لإشكاليّة الدّور.

الجهة الثالثة: الأمارات المتعلّقة بالمتون.
كما أنّ دراسة الأسانيد لها أثرٌ في تقييم نسبة الكتاب، فكذلك دراسة المتون، حيثُ إنّها توفّر جُملةً من الأمارات المؤثّرة في الحكم على نسبة أيّ كتابٍ حديثيٍّ إلى مُؤلّفه، والنّظر في المتون يكون على نحوين:
النّحو الأوّل: ما يُلحظ فيه المتن بضميمة الأسانيد.
النّحو الثّاني: ما يُلحظ فيه المتن مفرداً.
أمّا بالنسبة للنّحو الأوّل، فمعياره أن تكون متونُ روايات النسخة ذات شواهد في كتب الرواية المعتمدة، وهذه الشواهد على قسمين:
القسم الأول: شواهد من نفس طريق المصنّف صاحب النسخة أو مشايخه، كأن تكون بعض روايات النسخة موجودة في كتابٍ معتبرٍ بنفس إسناد صاحب النسخة فهذا يعزز الوثوق بها، كما هو الحال بالنّسبة لروايات البرقيّ في «المحاسن» والحميريّ في «قرب الإسناد»، فإنّ جملةً منها مرويٌّ من طريقهما في كتب الكليني والصدوق وغيرهما.
القسم الثاني: الشواهد الروائية المنقولة بنفس الإسناد من غير طريق المصنّف صاحب النسخة، وهذه تعضد اعتبار النسخة كما تضعّف احتمال الاختلاق.
ومن أمثلته ما رواه الحميريّ في «قرب الإسناد» عن كتاب مسعدة بن صدقة وكتاب حمّاد بن عيسى وكتاب عبد الله بن ميمون القدّاح وكتاب بكر بن محمّد الأزديّ، ورواه الكلينيّ أو الصّدوق أو الطوسيّ بأسانيد أخرى عن هذه الكتب.
وأمّا بالنّسبة للنّحو الثّاني، فإنّه يُلحظ فيه المتن مفرداً، حيث يتمّ النّظر في مضامينها وتقييم مدى ملاءمتها لما نعرفه من مزايا وخصائص حول المؤلّف الذي نُسب إليه الكتاب، فتارة يكون النّظر في كتابٍ منسوبٍ إلى أحد كبار المحدّثين والفقهاء، وحينئذٍ لا بدّ أن تكون الصّبغة الغالبة على الكتاب منسجمةً مع ثوابت الإسلام أصولاً وفروعاً، وإلّا فمن المحتمل أن يتم تركيب الأسانيد على متونٍ فاسدةٍ تتضمّن شيئاً من أفكار المنحرفين عن الإسلام كالغلاة.
فعلى سبيل المثال: لو نُسبت نسخةٌ فيها شيء من التفويض أو التّناسخ إلى عالم من كبار الفقهاء كالشيخ الصّدوق أو الشيخ المفيد فإنّ هذه النّسبة تكون مشكوكةً، كما هو الحال في نسبة كتاب عيون المعجزات للسيّد المرتضى.
وتارة قد يكون المؤلّف مجهولاً عندنا، أو يتّصف بالشّذوذ عن جملة المبادئ الثّابتة في الإسلام، أو لديه بعض الانحرافات العقائديّة، أو يكون متساهلاً في الرواية ومتصفاً بقلّة الدراية، فحينئذٍ يُنظر إلى متون الرّوايات، فإن كانت فاسدةً فإنّ ذلك لا يضرّ بانتساب الكتاب إليه لعلمنا بأنّ ذلك الشّأن يلائمه، ومن ذلك نسبة كتاب الهداية الكبرى إلى الحسين بن حمدان الخصيبيّ.
وفي هذا السياق اهتمّ العلماء بملاحظة مدى موافقة متون روايات النسخة للجوّ العامّ لروايات المحدِّثين الثّقات، فإنَّ شذوذ المضامين وغرابتها الظّاهرة من شأنه أن يبعث الريب في صحة نسبة بعض النّسخ إلى بعض الأئمّة أو ثقات المحدّثين والرّواة، وقد جرى بعض العلماء النقّاد على هذا المسلك، ومن ذلك ما تقدّم ذكره عن ابن الغضائري في تنزيه محمّد بن أورمة حيث قال: (اتّهمه القميّون بالغلوّ، وحديثه نقيٌّ لا فساد فيه، وما رأيتُ شيئاً يُنسب إليه تضطرب فيه النّفس، إلّا أوراقاً في تفسير الباطن، وما يليقُ بحديثه، وأظنُّها موضوعةً عليه)[22]، فإنّ حكمه بعدم لياقة تلك الأوراق في الباطن بحديثه ناشئة من معرفة الصّبغة العامّة المعتدلة في رواياته، وأنّ ما أُلحق به ونُسب إليه لا يتلاءم مع المعروف من حديثه.
وهذا المسلك يفتحُ باباً عظيماً لنقد المتون وما يتفرّع من ذلك من نتائج مهمّة تصلح للتوظيف في البحث حول صحّة نسبة الكتاب، فإنّ كثرة الشذوذ والغرابة تمنع من التّصديق بصحّة النّسبة إلى المحدّثين الثّقات والرّواة المنضبطين في روايتهم.

والشذوذ والغرابة يمكن تصوّرهما على مستويين:
1. الغرابة والشذوذ على المستوى الدلاليّ: وذلك بأن تكون المداليل العامّة في الكتاب منافيةً لأركان الإسلام أو أصول المذهب وضروراته، ومثال ذلك: كتاب «الهفت والأظلّة» المنسوب للإمام الصادق برواية المفضل بن عمر الجعفيّ، ففيه من الغلوّ والتهافت ما يوجب الجزم بكذب نسبة هذه النّسخة إلى الإمام عليه السّلام، وهذا الكتب ليس من تراث الإمامية، وإنّما حاول الغلاة إلصاقه بالتشيّع.
2. الغرابة والشذوذ على المستوى اللفظيّ: وذلك بأن يكون نمطُ الحديث ولحنه اللفظيّ غريباً عن نهج أهل البيت عليهم السّلام في البيان، ومثال ذلك: كتاب «مصباح الشريعة» المنسوب للإمام الصادق، حيثُ إنَّ سَبْكَه وطريقته ليست مقاربةً للحن أئمتنا في الحديث أو التّصنيف، وإنما هو أقرب إلى لسان الصوفيّة كما أشار إلى ذلك جملةٌ من الأعلام وحقّقناه مفصّلاً في رسالة بعنوان: «دراسة حول كتاب مصباح الشريعة».
نعم؛ قد لا تمثّل هذه المسألة إشكالاً في تصحيح نسبة بعض الكتب إلى بعض المؤلّفين؛ وذلك لتقاربها مع ميولهم العقديّة -ولو كانت فاسدةً-، ولكنّها تنفع في نقد نسبة بعض الكتب الفاسدة المنسوبة إلى الأئمّة أو ثقات المحدّثين ذوي الاعتقاد الصحيح، فيختلف الأمر بحسب طبيعة المؤلف ومسلكه الحديثيّ والعقائديّ، وبناءً على هذا الأمر لا يمكن أن يستنكر صدور كتابٍ معتبرٍ مثل «عيون أخبار الرّضا» عن الشيخ الصّدوق؛ لانسجامه مع مسلكه الحديثيّ ومبانيه الاعتقاديّة، وكذلك لا يمكن أن يُستغرب صدور كتابٍ تالفٍ مثل «الهداية الكبرى» عن الحسين بن حمدان الخصيبيّ؛ لتطابق طابعه العامّ مع ما ذُكر في حقّ هذا الرّجل من التضعيف والتكذيب وفساد المذهب.

إشكاليّة الدّور
وفي هذا المقام قد تطرح إشكاليّة على هذا المنهج في دراسة نسبة الكتب وحاصلها: إنّ الباحث في مقام إثبات نسبة كتابٍ معيّن يحاول الاستناد إلى جملةٍ من القرائن الفهرستيّة والإسناديّة والمتنيّة، ويستخرج هذه القرائن من كتبٍ أخرى، في حين أنّ هذه الكتب المعتمد عليها قد يلزم البحث عن صحّة نسبتها أيضاً، وهنا نشهد قفزةً غير منطقيّة في الاستدلال، فكيف يصحّ مثلاً أن نبرهن على صحّة نسبة كتاب «الغيبة» للطوسيّ بما ورد في «الفهرست» وغيره، في حين أنّه ينبغي الكلام في صحّة نسبة كتاب «الفهرست» إلى الشّيخ رحمه الله، وعلى هذا المنوال يبقى الباحث يدور في حلقةٍ مفرغةٍ حيث يحاول تصحيح نسبة بعض الكتب بالاعتماد على كتب هي بحاجة إلى إثبات صحّة نسبتها، وليقوم بذلك يلزمه أن يتكلّم في صحّة نسبتها أيضاً، وهكذا يدور الأمر إلى ما لا نهاية مثمرة له.

الجواب على إشكاليّة الدور
إنّ البرهنة على صحّة نسبة الكتب إلى أصحابها لا تواجه هذه الإشكاليّة، ويمكن بيان ذلك من خلال الكلام في جهتين:
الجهة الأولى: إنّ الباحث في صحّة نسبة الكتب ينطلقُ من الثوابت العلميّة، حيث يستند إلى كتبٍ ثابتة النسبة من جهة التواتر أو الشهرة أو قيام القرائن القطعيّة على ثبوتها، ولا شكّ في أنّ جملةً من كتب التراث متّصفةٌ بهذه الصّفة؛ لأنّها كانت مورد حاجة المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين، فإنّ التّاريخ يشهد بأنّ الحركة العلميّة داخل المذهب لم تنقطع، وهذا يعني احتياج العلماء إلى جملة من الكتب طبقةً فطبقة، ما يعني تناقلها يداً بيدٍ مع مرور القرون، مع كثرة استنساخها وتداولها بين أهل العلم، وهذا الأمر كان منشأ لتواترها واشتهارها بين الشّيعة في كافّة الأعصار.
ومن جملة هذه الكتب: الكتب الأربعة، وبعض كتب الفهارس والرّجال ككتاب النجاشيّ وكتابَي الطوسيّ وغيرهما، وما اشتهر في الآفاق من كتب المحدّثين كجملة وافرة من كتب الكلينيّ والصدوق والطوسيّ -رضوان الله عليهم-، وحينئذٍ لا يعاني الاستناد إلى هذه الكتب التي عُلِمت صحّة نسبتها من هذه الإشكالية؛ وذلك لأنّ أصل البناء في استخراج القرائن مؤسَّسٌ على الانطلاق من الثوابت التي أُحرزت صحّتها من خلال الأدلة المورثة لليقين أو الاطمئنان.
وهذا الذي ذكرناه لا ينحصر في الشّيعة الإماميّة، وإنّما يجري في المذاهب الأخرى، فإنّها أيضاً لم تتوقف فيها الحركة العلميّة عند المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين، فثبتت لديهم أيضاً جملة كبيرة من الكتب بالتواتر والشّهرة والقرائن المفيدة للعلم بسبب كثرة تداولها بين أهل العلم.
الجهة الثّانية: إنّ الكتب الروائية والرّجاليّة والتّاريخيّة عند المذاهب الإسلامية تحظى بنوعٍ من «الترابط الشبكيّ»، وذلك أنّ اختلاط المحدثين من مُختلف الفرق والبلدان وتناقلهم الأحاديث فيما بينهم خلق نوعاً من الارتباط والتشابك بين مصّنفاتهم في عملية عشوائيّة غير منظّمة ولا مقصودة، فإذا أعملنا النظر في دراسة الأحاديث بشكل جادّ فسوف نقفُ على قرائن متناثرة في كتب سائر المذاهب كأهل السنّة والزيديّة والإسماعيليّة والنصيريّة وغيرهم، وسوف نذكر بعض الأمثلة التطبيقيّة -إن شاء الله تعالى- في ذيل الجواب.
والأصل في الرّكون إلى هذه النكتة يرجعُ إلى أنّ بناء شبكة مترابطة عشوائيّاً تتألف من آلاف المؤلّفات المتوزعة على مذاهب مختلفة تنتشر في بلادٍ مترامية الأطراف أمرٌ يصعبُ تحققه خارجاً؛ إذ إنّ افتعال آلاف النسخ لآلاف الكتب المختلفة في مذاهب متعددة وبلدان كثيرة لا يمكن القيام به بسهولةٍ لا سيّما مع رقابة العلماء المهتمين بالتراث وتداولهم كثيراً من هذه الكتب يداً بيدٍ.
ويتحصّل مما ذكرناه أنّ هذه الأمارة يمكن أن تساعد بقوّة في تقييم اعتبار النسخ الواصلة إلينا، وذلك من خلال متابعة أحاديث الكتاب في كتب المذاهب الأخرى، وهذه قرينةٌ مهمَّةٌ جداً، وتحتاجُ إلى بذل جهدٍ كبيرٍ لملاحظة كثيرٍ من الجزئيات وتتبّعها.
وفي هذا المقام، نشير إلى جملة من الأمثلة التي تزيد هذه الفكرة وضوحاً وتثري البحث بالفائدة:
المثال الأوّل: روى الشّيخ الصّدوق في كتابه «من لا يحضره الفقيه» عن الصّادق عليه السّلام: (من عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت)[23]، ومن المعلوم أنّ الشيخ الصّدوق قد دخل مدينة بغداد وحدّث فيها[24]، وأنّ الخطيب البغداديّ قد ترجم لكثيرٍ ممّن دخل هذه المدينة ومنهم الشيخ الصّدوق، وفي ترجمته للشيخ قال ما نصّه: (كان من شيوخ الشيعة، ومشهوري الرافضة. حدّثنا عنه محمّد بن طلحة النعاليّ.
أخبرنا محمّد بن طلحة بن محمّد، قال: حدّثنا أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمي إملاءً، قال: حدثني أبي، قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن إسماعيل بن مسلم، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «من عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت»)[25].
ثمّ إنّ محمّد بن طلحة النّعاليّ قد دوّن مسموعاته في جزءٍ حديثيٍّ، ونسخته محفوظةٌ في المكتبة الظّاهريّة، وقد رأيتُ مصوّرةً عنها -وهي من مصوّرات مكتبة المحقّق الطباطبائيّ رحمه الله- وفيها هذا الحديث بإسناده ومتنه، وهذا شاهدٌ على صدق ودقّة ما أورده الخطيب البغداديّ، وشاهدٌ لوجود هذا الحديث ضمن مرويّات الصدوق (رحمه الله).
المثال الثّاني: روى الشيخ الصّدوق رحمه الله في أماليه: (حدّثنا محمّد بن موسى بن المتوكل رحمه الله، قال: حدّثنا محمّد بن يحيى العطار، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن حماد بن عيسى، قال: حدّثنا الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهما السّلام، قال: قال جابر بن عبد الله: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول لعلي بن أبي طالب عليه السّلام قبل موته بثلاثٍ: سلام الله عليك أبا الريحانتين، أوصيك بريحانتي من الدنيا، فعن قليلٍ ينهدُّ ركناك، واللهُ خليفتي عليك. فلما قُبِضَ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال عليٌّ عليه السّلام: هذا أحد ركنيّ الذي قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله. فلمّا ماتت فاطمة عليها السّلام قال علي عليه السّلام: هذا الركن الثاني الذي قال رسول صلّى الله عليه وآله)[26].
ثم رواه في معاني الأخبار بإسنادٍ آخر عن حمّاد بن عيسى وهو: (أبي رحمه الله، قال: حدّثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، قال: حدّثنا محمّد بن يونس، قال: حدّثنا حماد بن عيسى)[27].
يُلاحظ: أنّ الإسناد الأوّل من طريق ابن أبي الخطّاب عن حمّاد بن عيسى، والإسناد الثاني من طريق محمّد بن يونس عن حمّاد، وقد روى بعضُ المحدّثين من العامّة والزيديّة هذا الحديث من الطريق الثاني.
روى أبو بكر القطيعيّ في زياداته على كتاب «فضائل الصّحابة» لابن حنبل: (حدّثنا محمّد بن يونس، قثنا حمّاد بن عيسى الجهنيّ، قثنا جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لعلي بن أبي طالب: «سلام عليك أبا الريحانتين من الدنيا، فعن قليل يذهب ركناك والله خليفتي عليك» ، فلما قبض النبي صلّى الله عليه وآله قال علي: هذا أحد الركنين الذي قال رسول الله صلّى الله عليه وآله، فلما ماتت فاطمة قال: هو الركن الآخر الذي قال رسول الله صلّى الله عليه وآله)[28].
وكذلك رواه ابن الأعرابيّ في معجمه عن محمّد بن يونس عن حمّاد بهذا الإسناد[29].
ورواه -من الزيديّة- أبو طالب الهارونيّ في أماليه، قال: (حدّثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه الله تعالى إملاءً، قال: أخبرنا أبو أحمد محمّد بن جعفر الأنماطي، قال: حدّثنا محمّد بن يونس البساميّ[30]، قال: حدّثنا حماد بن عيسى)[31].
وهذا المثال يبيّن لنا كيفية ورود حديثٍ من جهة واحدة بمتن متقارب جدّاً برواية ثلاثة محدّثين من ثلاثة مذاهب مختلفة.
المثال الثالث: روى الكلينيّ: (محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إنّ عند كلّ بدعةٍ تكون من بعدي يُكاد بها الإيمان وليّاً من أهل بيتي موكّلاً به، يذبُّ عنه، ينطقُ بإلهامٍ من الله، ويُعلن الحقّ وينوّره، ويردُّ كيد الكائدين، يعبِّر عن الضّعفاء، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكّلوا على الله)[32].
وروى أبو طالب الهارونيّ الزّيديّ في أماليه: (أخبرنا أبي، قال: أخبرنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قال: أخبرنا محمّد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جده، عن عليّ عليه السّلام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إن عند كل بدعة تكون بعدي يُكاد بها الإيمان ولياً من أهل بيتي موكلاً يذب عنه، يعلن الحقّ وينوره، ويردُّ كيد الكائدين، فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكّلوا على الله»)[33].
المثال الرّابع: روى النّعمانيّ في الغيبة: (أخبرنا أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة الكوفيّ، قال: حدّثنا القاسم بن محمّد بن الحسن بن حازم، قال: حدّثنا عبيس بن هشام النّاشريّ، قال: حدّثنا عبد الله بن جبلة، عن سلام بن أبي عمرة، عن معروف بن خَرَّبُوذ، عن أبي الطّفيل عامر بن واثلة، قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أتحبُّون أن يُكذَّب الله ورسوله؟! حدّثوا النّاس بما يعرفون، وأمسكوا عمّا ينكرون)[34].
وإذا تتبّعنا هذا الحديث بملاحظة هذا السّند نجد أنّه ورد في كتاب سلام بن أبي عمرة -وهو مصنّفات قدماء الشيعة، مطبوعٌ ضمن الأصول الستّة عشر- وقد رواه عن معروف بن خرّبوذ عن أبي الطّفيل عن أمير المؤمنين عليه السّلام[35].
وأمّا من رواية العامّة فقد رواه البخاري عن عبيد الله بن موسى عن معروف بن خَرّبوذ عن أبي الطفيل عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، ولفظه: (حدِّثوا النّاس بما يعرفون، أتحبُّون أن يُكذَّب الله ورسوله؟!)[36].
وروى الخطيب البغداديّ: (أنا أبو نعيم الحافظ، نا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن علي الأزدي الكوفيّ، نا أحمد بن حازم بن أبي غرزة، نا عبيد الله -يعني ابن موسى-، عن معروف بن خَرَّبوذ، عن أبي الطفيل، قال: سمعت عليّاً يقول: «أيّها النّاس، تحبُّون أن يُكذَّب الله ورسوله؟! حدِّثوا النَّاس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون»)[37].
أقول: وهناك مقدار كبير جدّاً من هذه النّماذج التي تشير إلى مثل هذا التطابق، وهي مبثوثةٌ بكثرة في كتب التراث الإسلاميّ، فإنّها تشمل رواية أصحابنا عن كتب العامّة والزيديّة، وروايتهم لأحاديثنا في كتبهم.
المثال الخامس: في هذا النموذج نتطرّق إلى مسألة التّطابق الفهرستيّ بين روايات المذاهب الإسلاميّة، فقد يذكر أصحاب الفهارس من أصحابنا الإماميّة أسانيدهم إلى بعض الكتب، وينعكس هذا على أحاديث وفهارس غيرهم، ومن النماذج لذلك ما قاله الشيخ النجاشيّ: (موسى بن إبراهيم المروزي، أبو حمران [ظ:عمران] روى عن موسى بن جعفر عليه السّلام. له كتاب ذكر أنه سمعه وأبو الحسن عليه السّلام محبوس عند السندي بن شاهك، وهو معلم ولد السندي بن شاهك.
أخبرنا الحسين بن عبيد الله، قال: حدّثنا إسماعيل بن يحيى بن أحمد العبسيّ، قال: حدّثنا محمّد بن أحمد بن أبي سهل الحربي أبو الحسين، قال: حدّثنا محمّد بن خلف بن عبد السلام أبو عبد الله يوم الجمعة بعد الصلاة لستٍّ بقين من المحرم سنة ثمان وسبعين ومائتين في جامع المدينة، قال: حدّثنا موسى بن إبراهيم بالكتاب)[38]، وقال الشيخ الطوسيّ: (موسى بن إبراهيم المروزيّ. له روايات يرويها عن موسى بن جعفر عليهما السلام. أخبرنا بها أحمد بن عبدون، عن أبي بكر الدوريّ، عن أبي الحسن محمّد بن أحمد الجرمي[39]، قال: حدّثنا محمّد بن خلف بن عبد السلام، قال: حدّثنا موسى بن إبراهيم المروزي، قال: حدّثنا موسى بن جعفر عليهما السّلام)[40].
وهذا الكتاب قد رواه بعض حفّاظ العامّة، وله نسخةٌ يتيمةٌ في المكتبة الظاهريّة بعنوان (جزءٌ فيه مسند موسى بن جعفر) وهو برواية محمّد بن خلف بن عبد السّلام المروزيّ عن موسى بن إبراهيم المروزيّ.
كما أنّ بعضهم قد ذكره في إجازاته، ومنهم: الحافظ عمر بن علي بن عمر القزوينيّ (ت:750هـ) في مشيخته، قال: (وكتاب فيه مسند الإمام الكاظم موسى بن جعفرٍ الصادق بن محمّد الباقر بن زين العابدين علي ابن الشهيد الحسين ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ، رضي الله عنهم أجمعين، عن أبيه، عن جده. رواية أبي بكر محمّد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، عن أبي عبد الله محمّد بن خلف بن إبراهيم بن عبد السلام المروزي، عن موسى بن إبراهيم، عن موسى بن جعفرٍ، عن أبيه، عن جده، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله)، ثمّ ذكر طرقه إليه وهي تنتهي إلى رواية محمّد بن خلف المروزيّ عن موسى بن إبراهيم المروزيّ عن الإمام الكاظم عليه السّلام [41].
وقد روى عن هذه النسخة من طريق المروزيَّيْنِ كلٌّ من:
1- اللالكائيّ (ت: 418هـ) في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)[42].
2- الشهاب القضاعيّ (ت: 454هـ) في مسنده[43].
3- الخطيب البغداديّ (ت:463هـ) في (تاريخ بغداد)[44].
4- ابن عساكر (ت: 571هـ) في (تاريخ دمشق)[45].
ومن الجدير بالذّكر أنّ كتب الفهارس والرّجال والتّراجم غنيّة بكثيرٍ من المعلومات حول الرواة ومصنّفاتهم ورحلاتهم وسيرتهم ووفياتهم، وإذا تمّ التدقيق في دراسة أيّ متنٍ من هذه المتون فسوف نجدُ مقداراً كبيراً من التطابق مع مصنّفاتٍ كثيرةٍ في التراث الإسلاميّ، وهذا ينبئ عن الدّقة والضّبط والإتقان، ويؤكّد ما أشرنا إليه من أنّ التراث الإسلاميّ يشهد حالة من الترابط الشبكيّ بين أجزائه المختلفة على المستوى الجغرافي والمذهبيّ، وهو ما يجعل الحكم باختلاق هذه الكتب المترابطة عشوائياً شيئاً أقرب إلى المجازفة والعبث.
ومن آثار ملاحظة هذه الأمارة أنّ الكتابَ الذي يتّسم بالشّذوذ عن سائر التراث المحيط سواءً بلحاظ المذهب أو بلحاظ مجموع التراث الإسلاميّ سيفتقرُ إلى كثيرٍ من الشواهد المعزّزة للنسبة، وهو ما سيسبّب ضعفاً في دلائل إثبات نسبته.
أقول: ما تقدّم ذكره آنفاً هو مقايسة بين روايات بعض المحدّثين من مذاهب مختلفة، وقد أُخذت ملاحظةُ السّند والمتن بعين الاعتبار، أمّا لو قمنا بالمقارنة مقتصرين على ملاحظة المتن دون اعتبار وحدة الإسناد عند طرفي المقارنة فإنّ ما رواه المحدّثون من أصحابنا الإماميّة قد ثبتت ألفاظه أو مضامينه من طرق أخرى عند غيرهم من أصحاب المذاهب الأخرى، وقد نقلوا ذلك في مصنّفاتهم المعتبرة، وهنا نذكر بعض الأمثلة:
المثال الأوّل: روى الحميريّ في «قرب الإسناد»: (محمّد بن عيسى والحسن بن ظريف وعليّ بن إسماعيل كلُّهم عن حمّاد بن عيسى البصريّ الجهنيّ، قال: سألتُ أبا عبد الله جعفر بن محمّد -وليس معه إلّا غلامه- قلت: جُعلت فداك، خبّرني عن العبد كم يتزوّج؟ قال: «قال أبي: قال عليٌّ عليه السّلام: لا يزيد على امرأتين»)[46]، وهذا الحديث مأخوذٌ من كتاب حمّاد بن عيسى الجهنيّ رحمه الله، وقد روى العامّة عن الصّادق عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام ما يطابق هذا الحديث، فقد روى عبد الرزاق الصنعانيّ: (عن ابن جريج والثوري، قالا: أخبرنا جعفر بن محمّد، عن أبيه أنّ عليّاً قال: «ينكح العبد اثنتين»)[47].
المثال الثاني: روى الحميريّ في «قرب الإسناد» عن حمّاد بن عيسى: (سمعت أبا عبد الله يقول: قال أبي: قال عليٌّ عليه السّلام: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله لصلاة الصبح وبلال يقيم، وإذا عبد الله بن القشب يصلي ركعتي الفجر، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: يا ابن القشب، أتصلّي الصبح أربعاً؟! قال ذلك له مرّتين أو ثلاثة)[48]. وهذا الحديث مأخوذٌ من كتاب حمّاد بن عيسى الجهنيّ أيضاً، وروى العامّة عن الصّادق عن الباقر عليهما السّلام مثله، فقد روى أبو بكر بن أبي شيبة: (حدّثنا حفص، عن جعفر، عن أبيه، قال: دخل النبي صلّى الله عليه وآله المسجد وأخذ بلال في الإقامة، فقام ابن بُحينة يصلي ركعتين، فضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم منكبه، وقال: «يا ابن القشب، تصلي الصبح أربعاً؟!»)[49].
المثال الثّالث: روى الكلينيّ في «الكافي»: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول: حدّثني أبي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قضى بشاهد ويمين)[50]، وهذا الحديث مأخوذٌ أيضاً من كتابٍ لحمّاد بن عيسى، وقد روى العامّة عن الصّادق عليه السّلام مثله، فقد روى أبو بكر بن أبي شيبة: (حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بشهادة شاهدٍ ويمين. قال: وقضى به عليٌّ رضي الله عنه بين أظهركم)[51].
المثال الرّابع: روى الكلينيّ في «الكافي»: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله عليه السّلام، قال: سمعتُه يقول: قال أبي: ما زوّج رسول الله صلّى الله عليه وآله سائر بناته ولا تزوّج شيئاً من نسائه على أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش، الأوقية أربعون والنشّ عشرون درهماً)[52]، وهذا الحديث مأخوذٌ أيضاً من كتابٍ لحمّاد بن عيسى، وقد روى حفّاظ أهل السنة هذا الحديث بأسانيدهم عن عائشة بنت أبي بكر، ومنهم: إسحاق بن راهويه في مسنده، قال: (أخبرنا عبد العزيز بن محمّد، أخبرني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، حدّثنا محمّد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، قال: سألت عائشة كم كان صداق نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: «اثنتا عشرة أوقية ونش» ثم قالت: أتدري كم النشّ؟ فقلت: لا، فقالت: نصف أوقية، وذلك خمسمائة درهم)[53]، ورواه أبو داود السجستانيّ في سننه[54]، وأبو عوانة في مستخرجه[55].
المثال الخامس: روى الكلينيّ: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد، قال: سألتُ أبا عبد الله عليه السّلام عن الحيتان التي يصيدها المجوسي فقال: إنّ عليّاً عليه السّلام كان يقول: الحيتان والجراد ذكيٌّ)[56].
وقد روى العامّة هذا عن جعفر بن محمّد الصّادق عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد روى عبد الرزّاق الصنعانيّ: (أخبرنا الثوريّ، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن عليٍّ، قال: الحيتان والجراد ذكيٌّ كلُّه)[57].
وروى أيضاً: (عن ابن عيينة، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، قال: في ‌كتاب ‌عليٍّ: الجرادُ والحيتان ‌ذكيٌّ)[58].
فهذه المتون المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام قد دوّنها ورواها قدماء الشيعة في القرون الأولى، ورواها حُفّاظ أهل السنّة من طرقهم الخاصّة بهم عن أئمّتنا -صلوات الله عليهم- بدرجة تطابق كبيرة جداً، مع كون المحدثين الناقلين لهذه الأخبار من مذاهب مختلفة ومسالك متنافرة وبلدان متباعدة، وهذا ما يوجب استبعاد دعوى إمكانية اختلاق هذه المصنّفات المترابطة بشكل معقد وواسع وخفاء ذلك على كثير من العلماء من كافّة المذاهب الإسلاميّة.

الجهة الرّابعة: الأمارات المتعلّقة بالنُّسخ.
الأمارة الأولى: أن تكون النّسخة قد حظيت بعناية علمائيَّة، كأن تكون قديمة ومتداولة بينهم وقد دُوِّنَتْ عَليْها مقابلات وإنهاءات بعض العلماء المعتنين بهذا العلم.
الأمارة الثانية: وصول نسخ قديمة جدّاً تعود إلى قرونٍ متقدّمةٍ.
الأمارة الثالثة: تكثّر نسخ الكتاب، والأفضل في ذلك أن يكون منشأ التعدد عن نسخ متفرقة لا ترجع إلى أصلٍ واحدٍ في زمن بعيدٍ ومتأخرٍ، وهذا قد يساهم في إثبات شهرة الكتاب.
الأمارة الرابعة: تطابق المنقول عن الكتاب في القرون السّابقة مع ما في النسخ الواصلة، ويرتفع احتمال الصّدق كلّما زادت النقول عن الكتاب من مذاهب شتّى وقرون مختلفة؛ ليثبت بذلك انتشار الكتاب وتداوله قرناً بعد آخر.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رجال النجاشي، ص97، رقم الترجمة 241.
[2] رجال النجاشيّ، ص377، رقم الترجمة 1026. وذكر الطوسيّ نحوه، انظر: الفهرست، ص73، رقم الترجمة 92.
[3] رجال النجاشيّ، ص126، رقم الترجمة 327.
[4] رجال النجاشيّ، ص377، رقم الترجمة 300.
[5] رجال النجاشيّ، ص129، رقم الترجمة 332.
[6] رجال النجاشيّ، ص258، رقم الترجمة 676.
[7] الفهرست، ص201، رقم الترجمة 299-300.
[8] رجال ابن الغضائريّ، ص62، رقم الترجمة 53.
[9] رجال ابن الغضائريّ، ص87، رقم الترجمة 117.
[10] رجال ابن الغضائريّ، ص93، رقم الترجمة 133.
[11] رجال النجاشيّ، ص219-220، رقم الترجمة 573.
[12] الفهرست، ص294، رقم الترجمة 440.
[13] من لا يحضره الفقيه، ج1، ص215.
[14] من لا يحضره الفقيه، ج4، ص180.
[15] من لا يحضره الفقيه، ج2، ص92.
[16] من لا يحضره الفقيه، ج2، ص94.
[17] من لا يحضره الفقيه، ج2، ص100.
[18] رجال النجاشيّ، ص3.
[19] انظر: أصول علم الرّجال بين النظريّة والتطبيق، ص164-165/كلّيات في علم الرجال، ص313-316/ أطيب المقال في بيان كلّيات علم الرّجال، ص100-103.
[20] قد ورد في بعض الروايات أنّ من ديدن هذين الراويين الاجتنابُ عن الرواية في أخذ علم الدّين عن العامّة وأضرابهم، ومن ذلك ما رواه الكشيّ: (علي بن محمد القتيبيّ، قال: قال أبو محمّد الفضل بن شاذان: سأل أبي رضي الله عنه محمد بن أبي عمير فقال له: إنّك قد لقيت مشايخ العامّة، فكيف لم تسمع منهم؟ فقال: قد سمعتُ منهم، غير أنِّي رأيت كثيراً من أصحابنا قد سمعوا علم العامّة وعلم الخاصّة فاختلط عليهم، حتّى كانوا يروون حديث العامّة عن الخاصّة وحديث الخاصّة عن العامّة، فكرهتُ أن يختلط عليَّ، فتركتُ ذلك وأقبلتُ على هذا)، انظر: اختيار معرفة الرجال، ص629، رقم الحديث 1105. وروى بإسناده عن صفوان: (كان يجلس حمران مع أصحابه فلا يزال معهم في الرواية عن آل محمد عليهم السّلام فإن خلطوا في ذلك بغيره ردَّهُم إليه، فإنْ صنعوا ذلك عدل ثلاث مرات قام عنهم وتركهم)، انظر: اختيار معرفة الرجال، ص253-254، رقم الحديث 310. ومن هنا يُعلم أن دراسة خصوصيات الرواة والمؤلفين قد تكون دخيلةً في تمييز النسبة والتحقيق فيها.
[21] رواية ابن قولويه عن سعد بن عبد الله نادرةٌ جدّاً، وقد نقل النجاشيّ عنه أنه قال: (ما سمعتُ من سعدٍ إلّا أربعة أحاديث)، انظر: رجال النجاشي، ص123، رقم الترجمة 318. وقال النّجاشيّ في موضعٍ آخر: (قال الحسين بن عبيد الله رحمه الله: جئتُ بالمنتخبات إلى أبي القاسم بن قولويه رحمه الله أقرؤها عليها، فقلتُ: حدَّثَك سعد؟ فقال: لا، بل حدّثني عنه أبي وأخي عنه، وأنا لم أسمع من سعدٍ إلّا حديثين)، انظر: رجال النجاشيّ، ص178، رقم الترجمة 467. وقد انعكس هذا على تراث ابن قولويه في الكتب المعتبرة؛ إذ قلّما نجد له رواية عن سعد الأشعريّ.
[22] رجال ابن الغضائريّ، ص93، رقم الترجمة 133.
[23] من لا يحضره الفقيه، ج1، ص139، رقم الحديث 382.
[24] قال النجاشيّ في ترجمة الصدوق: (وكان ورد بغداد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة)، انظر: رجال النجاشي، ص389، رقم الترجمة 1049.
[25] تاريخ بغداد، ج4، ص150، رقم الترجمة 1342.
[26] الأمالي، ص198، رقم الحديث 210، المجلس 28، ح4.
[27] معاني الأخبار، ص524-525، باب نوادر المعاني، ح69.
[28] فضائل الصحابة، ج2، ص773، رقم الحديث 1067.
[29] المعجم، ج1، ص241-242، رقم الحديث 444.
[30] كذا ضُبط في المطبوع، وفي رواية أبي نعيم الأصفهانيّ: (الشّاميّ)، وقد عرّفه الحافظ الذهبيّ بقوله: (محمد بن يونس بن موسى القرشي السامي الكديميّ البصريّ) وطعن عليه وأورد هذا الخبر من كتاب أبي نعيم الأصفهانيّ بإسناده عن حمّاد بن عيسى، انظر: ميزان الاعتدال،ج4، ص74-76، رقم الترجمة 8353.
[31] تيسير المطالب في أمالي أبي طالب، ص138، رقم الحديث 105.
[32] الكافي، ج1، ص136-137، رقم الحديث 165، كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقاييس، ح5.
[33] تيسير المطالب في أمالي أبي طالب، ص178، رقم الحديث 128.
[34] الغيبة، ص33-34، الباب الأوّل: ما روي في صون سرّ آل محمّد عليهم السّلام عمّن ليس من أهله والنّهي عن إذاعته لهم وإطلاعهم، ح1.
[35] الأصول الستة عشر، ص331-332، رقم الحديث 549، كتاب سلام بن أبي عمرة، ح2.
[36] صحيح البخاري، ج1، ص227، رقم الحديث 131، كتاب العلم، باب [49]: من خصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا.
[37] الجامع لأخلاق الرّاوي وآداب السّامع، ج2، ص147، رقم الحديث 1355.
[38] رجال النجاشي، ص407-408، رقم الترجمة 1082.
[39] كذا في فهرست الشّيخ، ويحتمل أن يكون هو الرّاوي عن محمد بن خلف الوارد في سند النجاشي، فيكون الصحيح: (أبي الحسين محمّد بن أحمد الحربيّ)، وقد ضبطت في بعض نسخ الفهرست: (الحربيّ).
[40] الفهرست، ص454-455، رقم الترجمة 722.
[41] مشيخة القزويني، ص231-233، رقم الكتاب 73.
[42] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، ج1، ص268، رقم الحديث 176.
[43] مسند الشهاب، ج1، ص75، رقم الحديث 68.
[44] تاريخ بغداد، ج6، ص566-567، رقم الترجمة 3041/تاريخ بغداد، ج15، ص28-29، رقم الترجمة 6947.
[45] تاريخ دمشق، ج59، ص194.
[46] قرب الإسناد، ص15، رقم الحديث 48.
[47] المصنف، ج7، ص224، رقم الحديث 14043.
[48] قرب الإسناد، ص18، رقم الحديث 59.
[49] المصنف، ج4، ص395-396، رقم الحديث 6491.
[50] الكافي، ج14، ص577، رقم الحديث 14503، كتاب الشّهادات، باب شهادة الواحد ويمين المُدّعي، ح2.
[51] المصنّف، ج11، ص610، رقم الحديث 23451.
[52] الكافي، ج10، ص707-708، رقم الحديث 9627، كتاب النّكاح، باب السُّنّة في المهور، ح5.
[53] مسند إسحاق بن راهويه، ج1، ص574، رقم الحديث 1075.
[54] سنن أبي داود، ج4، ص139، رقم الحديث 2094.
[55] مستخرج أبي عوانة، ج11، ص289، رقم الحديث 4583.
[56] الكافي، ج12، ص125-126، رقم الحديث 11325، كتاب الصّيد، باب السّمك، ح6.
[57] المصنف، ج5، ص204، رقم الحديث 9834.
[58] المصنّف، ج5، ص224، رقم الحديث 9040.