قائمة المقالات

الجمعة، 13 أغسطس 2021

شرح حديث ابن شبيب عن الرّضا (عليه السلام) - الحلقة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم
شرح حديث ابن شبيب عن الرّضا (عليه السلام) - الحلقة الثانية 

[1] عن الريّان بن شبيبٍ، قال: دَخَلْتُ عَلَى الرِّضَا عليه السلام في أوَّلِ يَوْمٍ مِنَ المُحَرَّمِ، فقَالَ لِي: «يَا ابنَ شَبِيْبٍ، أصَائِمٌ أنْتَ؟»، فقُلْتُ: (لا)، فقَالَ: «إنَّ هَذَا اليَوْمَ هُوَ اليَوْمُ الذِيْ دَعَا فِيْهِ زكريا عليه السلام ربَّهُ عزَّ وجَلَّ، فقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طيِّبةً إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} فاسْتَجَابَ لهُ، وأمَرَ المَلائِكةَ فنَادَتْ زَكريَّا وهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي في المِحرَابِ: {أنَّ الله يُبَشِّرُكَ بيَحْيَى} فمَنْ صَامَ هَذَا اليَوْمَ ثُمَّ دَعَا اللهَ عزَّ وجَلَّ اسْتَجابَ اللهُ لهُ كما اسْتَجَابَ لزَكريَّا عليه السلام».

بملاحظة عامّة للرواية نرى أنّها تدور بأكملها حول مصيبة سيّد الشهداء (عليه السلام)، خلا هذا المقطع الذي بدأ الإمام به حديثه، وبنظرة عابرة ربما لا يرى القارئُ علاقةً بين هذا المقطع وسائر مقاطع الرواية التي تتلوها، فالأحداث التي وقعت في شهر المحرم في الأمم السابقة كثيرةٌ جداً، فما الوجه والرابط بين مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) في شهر المحرّم الحرام وهِبة يحيى لزكريا (عليه السلام) في ذلك الشهر نفسه؟ ولماذا ذكر الإمامُ يحيى بنَ زكريّا في سياق الحديث عن سيّد الشهداء (عليه السلام)؟
إنّ المتأمِّل المتتبّع للأحاديث الشريفة سوف يلحظُ علاقةً ثنائيّةً بين يحيى بن زكريا وسيد الشهداء (عليهما السلام)، حيثُ قُرِنَ ذكرهُ إليه مِراراً في موارد متعدّدة، وقُرنَ به في خصائص فريدة، بل يُمكن أن يُقال إنّ الأئمة صلوات الله عليهم كانوا يتعمّدون أن يذكروا يحيى بن زكريا – على وجه الخصوص – عند الإشارة إلى مصيبة سيّد الشهداء (عليه السلام)، والروايات المشيرة إلى ذلك وافرة، وستأتي الإشارة إلى مضامينها.
وقبل أن نذكر هذه الخصائص المشتركة ينبغي أن نشير إلى أنّ هذا الارتباط بين قضيتيّ النبيّ يحيى وسيد الشهداء ارتباطٌ واقعيٌّ تنطقُ به أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، وليس مجرّد محاولة للربط بين صدر الحديث وسائر فقراته، أو ابتكار رابطٍ بين سيرة نبي الله يحيى وسيرة سيد الشهداء (عليهم السلام) بنحوٍ من التكلّف.
ومما يُشعر بهذا الارتباط الوثيق ما رواه الشيخ المفيد (رحمه الله) عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) حيث قال: «خرجنا مع الحسين (عليه السلام) فما نزل منزلاً ولا ارتحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريّا وقتله، وقال: ومن هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا (عليه السلام) أُهدِي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل»[1]، وروى ابن عساكر بإسناده عنه (عليه السلام) أيضاً: «أقبلنا مع الحسين بن علي فكان قلَّما نزلنا منزلاً إلا حدَّثنا حديث يحيى بن زكريا حيث قُتِلَ. قال: كان ملك من هذه الملوك مات وترك امرأته وابنته، فورث ملكَهُ أخوه فأراد أن يتزوج امرأة أخيه، فاستشار يحيى بن زكريا في ذلك، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء، فقال له: «لا تزوجها؛ فإنها بغيٌّ»، فعرفت المرأة أنه قد ذكرها وصرفه عنها، فقالت: من أين هذا؟ حتى بلغها أنه من قِبل يحيى، فقالت: ليقتلن يحيى أو ليخرجن من ملكه. فعمدت إلى بنتها فصنعتها، ثم قالت: اذهبي إلى عمِّك عند الملأ فإنه إذا رآكِ سيدعوك ويجلسك في حجره ويقول: سليني ما شئتِ، فإنك لن تسأليني شيئاً إلا أعطيتكِ، فإذا قال لك قولي: لا أسأل شيئاً إلا رأس يحيى..إلخ»[2].
والظاهر من هذا الخبر أنّ حديث سيد الشهداء (عليه السلام) عن نبي الله يحيى ومقتله كان مطوّلاً حيث دام طيلة فترة ارتحاله وحركته من منزل إلى آخر، إلّا أنّ ما نُقل عنه نزرٌ يسيرٌ في جنب ما وُصف، ومنه يتّضحُ أيضاً أنَّ سيد الشهداء (عليه السلام) كان أوّل من أشار إلى الاقتران والارتباط بين قضيّته وقضيّة يحيى (عليه السلام)، وإنْ كان ما وصلنا عنه ناقصاً إلّا أنّ الأئمة (عليهم السلام) فيما بعد واصلوا الحديث عن هذه العلاقة، وبيّنوا جملةً من وجوه هذا الارتباط في أحاديثهم، حيث أشاروا إلى جملةٍ من الخصائص والخصال المشتركة بين هاتين الشخصيّتين العظيمتين وسيرتهما المباركة، ومنها:

أولاً: القتل ذبحاً على يد الأمة.

ورد في أخبار الخاصّة والعامّة أن نبي الله يحيى (عليه السلام) قد ذُبِحَ وحُزَّ رأسه عن جسده على يد ملك من ملوك زمانه، وذلك بطلبٍ من امرأة فاجرة من بني إسرائيل، فقد روى القطب الراونديّ في (قصص الأنبياء) بسنده عن الصّادق (عليه السلام): «.. قالت: ما لي حاجة إلا قتل يحيى، فلمّا كان في الثالثة بعث إلى يحيى صلوات الله عليه فجاء به، فدعا بطشت ذهب فذبحه فيها وصبُّوه على الأرض..إلخ»[3]، وفي رواية أخرى: «فلما رآها سألها عن حاجتها، قالت: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا»[4]، وقد مرّ في خبر ابن عساكر عن سيّد الشهداء (عليه السلام) قولها: «لا أسأل شيئاً إلا رأس يحيى»، وفي رواية أخرى لابن عساكر بإسناده عن ابن عباس أنّها قال: «فلما دخلت عليه فسألها حاجتها قالت: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا. فقال: سليني سوى هذا. قالت: ما أسألك إلّا هذا. فلمّا أبت عليه دعا بطستٍ ودعا به فذبحه..إلخ»[5]، وفي رواية أخرى بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: «التي قتلت يحيى بن زكريا امرأة ورثت الملك عن آبائها، فأتيت برأس يحيى في شيء، فوُضِع بين يديها وهي على سريرها، فجعلت ترفلُ وجهه بقضيبٍ في يديها..إلخ»[6]، وفي رواية أخرى بإسناده عن عبد الله بن الزبير، قال: «فبعث إلى يحيى بن زكريا وهو في محرابه يصلّي، فذبحوه ثم حزُّوا رأسه»[7]، وروى أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده عن عروة بن الزبير أنّه قال: «ما قُتل يحيى بن زكريا إلا في امرأة بغيٍّ قالت لصاحبها: لا أرضى عنك حتى تأتيني برأسه. قال: فذبحه فأتاها برأسه في طست»[8]، وروى الزمخشريّ – مرسلاً – في (ربيع الأبرار) عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا (عليه السلام) أهدي رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل في طست من ذهب. فيه تسليةٌ لحرٍّ فاضلٍ يرى الناقصَ الدنيء يظفر من الدنيا بالحظِّ السنيِّ، كما أصابت تلك الفاجرة تلك الهدية العظيمة»[9].

ثانياً: وقوع القتل على يد أبناء الزّنا.

وقد قرن الأئمّة بين يحيى وسيّد الشهداء (عليهما السلام) عند التعرّض لوصف القتلة، فقد أشاروا في أحاديثهم إلى أنّ قاتل يحيى والحسين (عليه السلام) هم من أبناء الزّنا، ورُوي في ذلك جملةٌ من الأحاديث، منها:
[1] روى ابن قولويه بسندٍ معتبرٍ: (حدثني أبي رحمه الله ومحمد بن الحسن رحمه الله، عن محمد بن الحسن الصفّار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضّال، عن ابن بكير، عن زرارة، عن عبد الخالق، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «كان قاتل الحسين ولد زنا، وقاتل يحيى بن زكريا ولد زنا»)[10].
[2] وروى أيضاً بإسناده عن كليب بن معاوية عن أبي عبد الله (عليه السلام): «كان قاتل يحيى بن زكريا ولد زنا، وكان قاتل الحسين ولد زنا...»[11]، ونحوه بسنده عن الحسن بن زياد عن الصادق (عليه السلام) [12].
[3] وروى أيضاً بإسناده عن سدير، قال: (سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول: «إنّ الله جعل قتل أولاد النبيّين من الأمم الماضية على يدي أولاد الزنا»)[13].
[4] وروى أيضاً بإسناده عن فرقد عن أبي عبد الله (عليه السلام): «كان الذي قتل الحسين بن عليّ عليه السلام ولد زنا، والذي قتل يحيى بن زكريا ولد زنا»[14].
[5] وبإسناد آخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول فرعون (ذروني أقتل موسى)، فقيل له: من كان يمنعه؟ قال: «كان لرِشْدَةٍ؛ لأنّ الأنبياء والحجج لا يقتلها إلا أولاد البغايا»[15].
[6] وبإسناده عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام): «لا يقتل النبيّين وأولاد النبيين إلا أولاد زنا»[16].
[7] وعنه أيضاً: «لا يقتل الأنبياء وأولاد الأنبياء إلا ولد زنا»[17].
[8] وبإسناده عن إسماعيل بن كثير: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «كان قاتل الحسين بن علي ولد زنا، وكان قاتل يحيى بن زكريا ولد زنا ..»)[18].
[9] وروى البرقيّ في «المحاسن» بإسناد آخر عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال : «لا يقتل الأنبياء ولا أولاد الأنبياء الا أولاد الزنا»[19].
[10] وروي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ عاقر ناقة صالح كان أزرق ابنُ بغيّ، وإنّ قاتل يحيى بن زكريا ابن بغيّ، وإن قاتل عليّ صلوات الله عليه ابن بغيّ، وكانت مُراد تقول: (ما نعرفُ له فينا أباً ولا نسباً)، وإنّ قاتل الحسين ابن بغيّ، وإنّه لم يقتل الأنبياء وأولاد الأنبياء إلا أولاد البغايا»[20].

ثالثاً: القضاء الإلهيّ بالانتقام لدمائهما بالقتل.

روى القطب الراونديّ: (وعن ابن بابويه، حدثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى العلويّ، حدثنا جدي يحيى بن الحسن، حدثنا محمد بن إبراهيم التميميّ، حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا عبد الله بن حبيب بن أبي [ثابت][21] ، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أوحى الله إلى نبيّه: «إنّي قتلت بدم يحيى بن زكريا سبعين ألفاً، وسأقتل بالحسين سبعين ألفاً وسبعين ألفاً»)[22].
وقال الحافظ الذهبيّ: (أخبرنا المسلم بن محمد، وابن أبي عمر كتابة، أن عمر بن محمد أخبرهم، أنبأنا هبة الله بن محمد، أنبأنا محمد بن محمد، أنبأنا أبو بكر الشافعي، حدثنا محمد بن شداد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد الله بن حبيب، عن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: أوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم: «إني قد قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفاً، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفاً وسبعين ألفاً»)، هذا حديث نظيف الإسناد، منكر اللفظ، وعبد الله وثّقه ابن معين، وخرّج له مسلم)[23]، ورواه الحاكمُ في مستدركه ، وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، وعلّق الذهبي في التلخيص بقوله: (على شرط مسلم)[24].

رابعاً: بكاء السماء والأرض عليهما.

[1] روى ابن قولويه بسندٍ معتبرٍ: (وحدثني أبي رحمه الله، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن علي بن فضّال، عن ابن بكير، عن زرارة، عن عبد الخالق بن عبد ربه، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «{لَمْ نَجْعَلْ لهُ مِنْ قَبْلُ سَميَّاً} الحسين بن عليّ لم يكن له من قبل سميّاً، ويحيى بن زكريا لم يكن له من قبل سميّاً، ولم تبكِ السّماءُ إلا عليهما أربعين صباحاً». قال: قلتُ: وما بكاؤها؟ قال: «كانت تطلع حمراء وتغرب حمراء»)[25].
[2] وروى بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنّ الحسين (عليه السلام) بكى لقتله السماء والأرض واحمرّتا، ولم تبكيا على أحدٍ قط إلّا على يحيى بن زكريا والحُسين بن عليّ»[26].
[3] وروى بإسناد آخر عن عبد الله بن هلال، قال: (سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنّ السماء بكت على الحسين بن عليّ ويحيى بن زكريّا، ولم تبكِ على أحدٍ غيرهما»، قلت: وما بكاؤها؟ قال: «مكثوا أربعين يوماً تطلع الشمسُ بُحمرةٍ وتغربُ بُحمرةٍ»)[27].
[4] وروى بإسناد آخر عن محمد بن عليّ الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ}، قال: «لم تبكِ السماء على أحدٍ منذ قُتل يحيى بن زكريّا حتى قُتِل الحسين فبكت عليه»[28].
[5] وروى بإسناد آخر عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «ما بكت السماء على أحد بعد يحيى بن زكريا إلا على الحسين بن علي (عليه السلام) فإنّها بكت عليه أربعين يوماً»[29].
[6] وروى بإسناد آخر عن كليب بن معاوية الأسديّ عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لم تبكِ السماء إلا على الحسين بن علي ويحيى بن زكريا»[30].
[7] وروى بإسناد آخر عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «إنّ السماء لم تبكِ منذ وُضعت إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي..»[31].
[8] وروى بسندٍ آخر عن حنان بن سدير عن أبي عبد الله (عليه السلام): «...، فإنّه سيد الشهداء، وسيد شباب أهل الجنة، وشبيه يحيى بن زكريا، وعليهما بكت السماء والأرض»[32].
[9] وروى بسندٍ آخر عن داود بن فرقد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «بكت السماء والأرض على الحسين بن علي وعلى يحيى بن زكريا، وحمرتها بكاؤها»[33].

قراءة تحليلية للروايات المذكورة

على ضوء ما تقدّم، يمكن من خلال قراءة مجموع الرّوايات السابقة استلهام جملة من المعاني والدلالات المهمّة التي كانت بصدد الإشارة إليها، ويمكن بيان ذلك بعدّة مقدّمات:

المقدّمة الأولى: روى العامّة والخاصّة رواياتٍ كثيرةً عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله) في أنّ هذه الأمّة ستركبُ سنن مَنْ قبلها حذو النّعل بالنّعل والقذّة بالقذّة[34]، والمراد في كثير من الروايات بـ(مَنْ قبلنا) هم بنو إسرائيل، وهذا يدلّ على أن هذه الأمّة سوف تواجِه أنواعاً من الفتنة والامتحان نظير ما ابتُلي به بنو إسرائيل، وهذا التّطابق الكبير بين الأمّتين يوجبُ النّظر في أحوال بني إسرائيل للنّظر والاعتبار وتحديد المسار الذي تكون به النّجاة من أهوال الفتن.
المقدّمة الثانية: لقد أخبر النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) بجملة من الإخبارات الغيبيّة حول الفتن التي ستعصفُ بالأمّة الإسلاميّة، نظير: إخباره عن اضطهاد الأنصار من بعده[35]، وخروج عائشة بنت أبي بكر لقتال المسلمين ونَبْح كلاب الحوأب إيّاها[36]، وقتل عمار بن ياسر على يد الفئة الباغية[37]، وقتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على التأويل[38]، وخروج الخوارج عليه [39]، وقتله في العراق[40]، وقتل سيّد الشهداء عليه السلام في كربلاء[41]، وهذه الإخبارات المتكررة لم تكن عبثاً ولغواً بداعي مجرّد الإخبار عن المستقبل، فهذا لا يلائم الحكمة النبويّة، بل كان بهذا يضعُ أعلام الهداية على طريق الفتن، وكل علمٍ منها ينبئ بحقيقة واحدة وهي أن طريق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام هو طريق الحق والهدى والاستقامة، فمن لحق به أدرك ركب النجاة وكان في حزب الله، ومن حاد عنه ركب التّيه وضلّ ضلالاً مبيناً، وكان في حزب الشيطان.
المقدّمة الثالثة: بعدما بيّن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّ هذه الأمّة ستصاب بفتن كثيرة نظير ما جرى على بني إسرائيل، وأخبر بتفصيل أكبر عن بعض الفتن التي ستصيب هذه الأمّة من قبيل ما أشرنا إليه في المقدّمة الثانية، بيّن بعض التفاصيل الخاصّة بأحوال أهل بيته (عليهم السّلام) في تلك الفتن، وكان في حديثه عنهم يتعمّد الرّبط بين شخصيّاتهم وبين شخصيّات من بني إسرائيل، ومن ذلك:
[1] ما في حديث المنزلة وجعله منزلة عليٍّ (عليه السلام) منه بمنزلة هارون من موسى[42]، وهو ما يفتح الباب للتأمّل في مظاهر هارونيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذه الأمّة واتّصافه وابتلائه بما اتّصف وابتُلي به هارون (عليه السلام)، وهذا ظاهرٌ في نواحي متعددة منها: تسميته ابنيه بأسماء ابني هارون شبر وشبير وورود اسمهما في التوراة بهذا النحو[43]، واستخلاف النبيّ إيّاه[44]، واستضعاف الأمّة له[45]، ومحاولة قتله أيضاً[46]، وصبره على انحراف قومه خشية تفرّقهم.
[2] توصيف عدد الأئمّة الاثني عشر المنصوص عليهم بأنّهم كـ«عدّة نقباء بني إسرائيل»[47]، وتوصيف الأئمّة بأنّهم كـ«باب حطّة» في بني إسرائيل[48]، وأنّ سلاح رسول الله عندهم بمنزلة التّابوت في بني إسرائيل[49]، وهذا كلُّه من الإشارات المهمّة للمشاكلة الواقعة بين الأمّتين، وأنّ حال الأوصياء في هذه الأمة كحال أوصياء موسى الاثني عشر.
وفي هذا السّياق، يمكن فهم الوجه في القرن بين الحسين ويحيى (عليهما السلام) في كثيرٍ من الرّوايات؛ فليس المرادُ من ذلك التسوية بينهما في المنزلة، وإنّما الإشارة إلى أنّ سيرة الحسين عليه السلام في هذه الأمّة تشاكل سيرة يحيى بن زكريا عليه السّلام في عدّة جوانب وعلى رأسها الشّهادةُ في سبيل الله.
والجامع الكليّ الذي تنضوي تحته كل هذه الإخبارات عن وجوه التماثل بين أهل البيت وأنبياء بني إسرائيل هو أنّ طريق أهل البيت (عليهم السلام) هو عين طريق الأنبياء وامتدادٌ له، وهو سبيل الحقّ، وقد عُزِّز هذا المفهوم بما جاء في جملة عريضة من الزّيارات التي تشير إلى كون الحسين (عليه السلام) هو وارث آدم ونوح وموسى وعيسى ومحمّد -صلوات الله عليهم أجمعين-، وفي هذا إقامة للحجّة على الأمّة التي خذلت وانحرفت عن طريق آل محمّد (عليهم السلام).
ويتحصّل مما تقدّم: أنّ تشبيه أهل البيت (عليهم السّلام) ببعض أنبياء بني إسرائيل ووقوع المشاكلة معهم يراد منه أمران أساسيّان:
الأمر الأوّل: بيان التماثل في السّيرة من حيث الابتلاءات والفتن حذو النّعل بالنعل والقذّة بالقذّة كما ورد في جملةٍ من الروايات عند الفريقين.
الأمر الثاني: بيان أنّ طريق أهل البيت (عليهم السلام) هو استمرارٌ لطريق الأنبياء الماضين، فكما كان هارون ويحيى (عليهما السّلام) أعلاماً للحقّ في بني إسرائيل، فكذلك الأمر في نظائرهم في هذه الأمّة، وهو ما يفيد بشكل قاطعٍ أنّ الحقّ مع آل محمّد (عليه السلام) وبذلك تجب طاعتهم ومتابعتهم وهم يخوضون بهذه الأمّة في غمرات الفتن إلى برّ الأمان وسبيل النّجاة.

ــــــــــــــــــــــ
[1]الإرشاد، ج2، ص132.
[2] تاريخ دمشق، ج64، ص206-207.
[3] قصص الأنبياء، ج2، ص65، رقم الحديث 315.
[4] قصص الأنبياء، ج2، ص66، رقم الحديث 316.
[5] تاريخ دمشق، ج64، ص207.
[6]تاريخ دمشق، ج64، ص208.
[7]تاريخ دمشق، ج64، ص214-215.
[8] مصنف ابن أبي شيبة، ج16، ص567، رقم الحديث 32568.
[9] ربيع الأبرار، ومثله: ورّام بن أبي فراس في «تنبيه الخاطر، ج1، ص244، رقم الحديث 640».
[10]كامل الزيارات، ص173-174، رقم الحديث 203، الباب 25، ح5.
[11] كامل الزيارات، ص172، رقم الحديث 199، الباب 25، ح1.
[12] كامل الزيارات، ص197، رقم الحديث 258، الباب 28، ح18.
[13] كامل الزيارات، ص174، رقم الحديث 204، الباب 25، ح6.
[14] كامل الزيارات، ص174، رقم الحديث 205، الباب 25، ح7.
[15] كامل الزيارات، ص174، رقم الحديث 206، الباب 25، ح8.
[16] كامل الزيارات، ص175، رقم الحديث 209، الباب 25، ح11. وروى نحوه القطب الراوندي عن كتاب النبوّة للشيخ الصدوق بإسناده عن جابر، انظر: قصص الأنبياء للقطب الراوندي، ج2، ص67، رقم الحديث 318.
[17] كامل الزيارات، ص175، رقم الحديث 210، الباب 25، ح12.
[18] كامل الزيارات، ص175، رقم الحديث 211، الباب 25، ح13.
[19] المحاسن، ج1، ص195، رقم الحديث 336، كتاب عقاب الأعمال: ح119.
[20] قصص الأنبياء، ج2، ص68، رقم الحديث 319، نقلاً عن كتاب النبوة للشيخ الصدوق.
[21] في المطبوع: (كاتب)، وهو غلط، والصواب ما أثبتناه.
[22] قصص الأنبياء، ج2، ص67، رقم الحديث 317.
[23] سير أعلام النبلاء، ج4، ص342-343، ترجمة: سعيد بن جبير، رقم الترجمة 116.
[24] المستدرك على الصحيحين، ج3، ص195-196، رقم الحديث 4822.
[25] كامل الزيارات، ص194-195، رقم الحديث 250، الباب 28، ح10.
[26] كامل الزيارات، ص193، رقم الحديث 244، الباب 28، ح4.
[27] كامل الزيارات، ص193-194، رقم الحديث 246، الباب 28، ح6.
[28] كامل الزيارات ، ص194، رقم الحديث 248، الباب 28، ح8.
[29] كامل الزيارات، ص195، رقم الحديث 251، الباب 28، ح11.
[30] كامل الزيارات، ص195، رقم الحديث 252، الباب 28، ح12.
[31] كامل الزيارات، ص196، رقم الحديث 254، الباب 28، ح14.
[32] كامل الزيارات، ص196-197، رقم الحديث 255، الباب 28، ح15.
[33] المصدر السابق، ص201، رقم الحديث 266، الباب 28، ح26.
[34] رُوي هذا الحديث عن عدّة من الصّحابة، منهم: أبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وغيرهم، وكذا رُوي عن أئمتنا عليهم السّلام وطرقه كثيرة وافرة، وصحّته مُسلَّمةٌ عند الفريقين.
[35] مسند أبي داود الطيالسيّ، ج3، ص473، رقم الحديث 2081/مسند أحمد بن حنبل، ج18، ص105، رقم الحديث 11547/صحيح البخاري، ج3، ص159-160، رقم الحديث 2388-2389.
[36] انظر: مسند أحمد بن حنبل، ج18، ص105، رقم الحديث 11547.
[37] انظر: مسند أحمد بن حنبل، ج40، ص298-299، رقم الحديث 24254.
[38] انظر: مسند أحمد بن حنبل، ج18، ص295-296، رقم الحديث 11773/شرح مشكل الآثار، ج10، ص237، رقم الحديث 4058/ مسند أبي يعلى الموصليّ، ج2، ص341، رقم الحديث 1086/صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، ج15، ص385، رقم الحديث 6937.
[39] انظر: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، ج15، ص386، رقم الحديث 6938.
[40] انظر: مسند أبي يعلى الموصلي، ج1، ص381، رقم الحديث 491/شرح مشكل الآثار، ج2، ص285-286/ صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، ج15، ص127، رقم الحديث 6733/الأحاديث المختارة، ج2، ص128 - 130، رقم الحديث 498 – 499.
[41] مشيخة ابن طهمان، ص55، رقم الحديث3/ مصنف ابن أبي شيبة، ج21، ص146، رقم الحديث 38522/ فضائل الصحابة (أحمد بن حنبل)، ج2، ص965-966، رقم الحديث 1357/مسند أبي يعلى الموصلي، ج1، ص298، رقم الحديث 363.
[42]انظر: صحيح مسلم، ج6، ص249-250، رقم الحديث 2483 (ط: دار التأصيل).
[43] انظر: الكافي، ج11، ص327، رقم الحديث 10411، كتاب العقيقة، باب فضل الولد، ح1.
[44] كما في حديث الغدير وغيره، وقد بسطنا القول في هذه الجزئية في كتاب (إحياء الغدير في مدينة الكوفة)، فراجع.
[45] إشارة إلى قول هارون (عليه السلام) : {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي}، وقد اضطهد القومُ أميرَ المؤمنين صلوات الله عليه بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
[46] إشارة إلى قول هارون (عليه السلام) : {وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي}، وقد حاول خالد بن الوليد اغتياله بأمر من الخليفة الأوّل.
[47] من مصادر الإمامية: الكفاية في النصوص على عدد الأئمة الاثني عشر، ص174-177، رقم الحديث 21/وفيه أيضاً: ص192-193، رقم الحديث 29. ومن مصادر العامّة: الفتن (نعيم بن حماد)، ج1، ص95، رقم الحديث 224/مسند ابن أبي شيبة، ج1، ص187، رقم الحديث 274/مسند أحمد بن حنبل، ج6، ص406، رقم الحديث 3859.
[48] انظر: الكفاية في النصوص على عدد الأئمة الاثني عشر، ص177-178، رقم الحديث 22.
[49] انظر: الكافي، ج1، ص577-580، رقم الحديث 624، كتاب الحجّة، باب ما عند الأئمة من سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله ومتاعه، ح1/الكافي، ج1، ص590- ، رقم الحديث 633-634-635-636، كتاب الحجّة، باب أن مثل سلاح رسول الله صلّى الله عليه وآله مثل التابوت في بني إسرائيل ح1-4.