قائمة المقالات

الثلاثاء، 24 أغسطس 2021

شرح حديث ابن شبيب عن الرّضا (عليه السلام) - الحلقة الثالثة

بسم الله الرحمن الرحيم
شرح حديث ابن شبيب عن الرّضا (عليه السلام) - الحلقة الثالثة

[2] قال: «يا ابنَ شَبِيْبٍ، إنَّ المُحَرَّمَ هُوَ الشَّهْرُ الذِيْ كَانَ أهْلُ الجَاهِليَّةِ فِيْما مَضَى يُحرِّمُونَ فِيْهِ الظُّلْمَ والقِتَالَ لحُرمَتِه، فما عَرَفَتْ هَذِهِ الأمَّةُ حُرْمَةَ شَهْرِهَا ولا حُرْمَةَ نَبِيِّهَا صلّى اللهُ عَلَيْهِ وآله، لقَدْ قتَلُوا في هَذَا الشَّهْرِ ذُرِّيَّتَهُ، وسَبَوْا نِسَاءَهُ، وانْتهَبُوا ثَقَلَهُ، فلا غَفَرَ اللهُ لهم ذَلِكَ أبَداً».

من الأمور المتواترة القطعيّة في تاريخ العرب أنّهم كانوا يرون الامتناع عن القتال في أربعة أشهر من السّنة، وقد جرى الإسلام عليها وأقرّها، وذلك قوله تعالى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرْضَ مِنْهَا أربَعَةٌ حُرُمٌ}[1]، وهذه الأشهر هي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرَّم، هذا المشهور في تاريخ العرب.
وقد رُوي ما يخالف المشهور في ذلك، ومنه ما رواه الشيخ الصّدوق: (حدّثنا محمد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه، قال: حدّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير رفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ الله اثْنَا عَشَرَ شَهْراً في كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرْضَ}، قال: المحرّم وصفر وربيع الأول وربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة، منها أربعة حرم: عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من شهر ربيع الآخر)[2]، وهذا الخبر محمولٌ على كون المراد أشهر السّياحة[3] التي وُصِفَتْ في سورة التوبة أنّها أشهرٌ حرمٌ، قال تعالى: {فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وخُذُوهُمْ واحصُرُوهُمْ واقْعُدُوا لهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}[4]، وهذه الأشهر بالتحديد المذكور مختصّة بتلك السنة، قال العلّامة المجلسيّ في تعليقه على هذا الخبر: (الشهور المذكورة في هذا الخبر هي أشهر السّياحة التي قال الله عز وجلّ: {فسِيحُوا فِي الأرْضِ أربَعَةَ أشْهُرٍ} والمشهور أن ابتداءها يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر، وقيل: من أوّل الشوّال إلى آخر المحرّم؛ لأنّ الآية نزلت في شوّال، وقيل: لعشرٍ من ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول؛ لأنّ الحجّ في تلك السّنة كان في ذلك الشهر، وعلى التقادير هي غير الأشهر الحرم وكانت مختصّة بتلك السّنَة، فهذا إمّا اصطلاح آخر للأشهر الحرم غير المشهور، أو سقط من الخبر شيء ولعلّه أظهر)[5].
ويؤيّد ذلك ما رواه الكليني بإسناده عن الصّادق (عليه السّلام)، قال: (علي بن إبراهيم، عن أبيه؛
وعليُّ بن محمد القاساني جميعاً، عن القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود المنقريّ، عن فضيل بن عياض، قال: سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن الحجِّ الأكبر فإنّ ابن عبّاس كان يقول: يوم عرفة. فقال أبو عبد الله عليه السّلام: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: الحجّ الأكبر يوم النحر ويحتج بقوله عز وجلّ: {فسِيحُوا فِي الأرْضِ أربَعَةَ أشْهُرٍ}، وهي: عشرون من ذي الحجّة، والمحرّم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر، ولو كان الحجّ الأكبر يوم عرفة لكان أربعة أشهر ويوماً)[6]، فهذا الخبر صريحٌ في كون هذه الأشهر بهذا التقسيم هي أشهر السّياحة.
وعلى كلا التقديرين فإنّ شهر المحرّم داخلٌ في هذه الأشهر الحرم. والوجه في الإشارة إلى تأريخ القتال وزمنه هو بيان مدى انحطاط أولئك الذين نهضوا لقتال سيّد الشهداء (عليه السّلام) في شهر المحرّم، وأنّهم شرٌّ من عرب الجاهليّة الذين كانوا غارقين في الجاهليّة والبُعد عن كثيرٍ من المبادئ والقيم، فإنّهم مع جاهليّتهم كانوا يمتلكون من المروءة ما يمنعهم عن الإقدام على القتال في شهر من الأشهر الحرم، فكيف لو كان المُقاتَل هو سبط النبيِّ  (صلّى الله عليه وآله)؟ ولذلك أردف بيانه هذا بالإشارة إلى أنّ قتال أولئك للحسين (عليه السّلام) قد تضمّن انتهاك حرمتين:
الحرمة الأولى: حرمة الشهر الحرام الذي يُمنع فيه القتال.
الحرمة الثانية: حرمة رسول الله التي انتُهكت بقتل ريحانته وأهل بيته، وسبي حريمهم.

قوله (عليه السّلام): «وانْتَهَبُوا ثَقَلَهُ».
الثَّقَل في لغة العرب: متاعُ المسافر[7]، وهو إشارة إلى نهب قافلة الحسين (عليه السّلام) ومخيّمه، وقد روى بعض المؤرّخين تفاصيل نهب متاع الحسين وأهله -صلوات الله عليهم-، ومن ذلك ما رواه ابن سعد في طبقاته: (ولما قُتل الحسين عليه السّلام انتُهِب ثقله، فأخذ سيفَه القلانسُ النَّهشلي، وأخذ سيفاً آخر جميعُ بن الخلق الأودي، وأخذ سراويله: بحر- الملعون- ابن كعب التميميّ فتركه مُجرّداً، وأخذ قطيفتَه قيس بن الأشعث بن قيس الكندي، فكان يقال له: «قيس قطيفة» وأخذ نعليه الأسودُ بن خالد الأودي، وأخذ عمامته جابرُ بن يزيد، وأخذ برنسه - وكان من خَزٍّ- مالك بن بشير الكندي)[8].
وفي تاريخ الطبريّ: (ومال النّاسُ على نساء الحسين وثقله ومتاعه، فإن كانت المرأة لتُنازَع ثوبها عن ظهرها حتى تُغلَب عليه فيُذهَب به منها)[9].
وروى الصّدوق بإسناده عن عن عبد الله بن الحسن المُثَنّى، عن أُمِّهِ فاطمة بنت الحسين عليه السّلام، قالت: (دخلتِ الغاغةُ علينا الفسطاط، وأنا جارية صغيرة، وفي رِجْلَيَّ خَلْخَالان من ذهبٍ، فجعل رَجُلٌ يَفُضُّ الخَلْخَالين من رِجْلَيَّ وهو يبكي، فقلتُ: ما يُبكيكَ يا عدوَّ الله؟! فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلب ابنة رسول الله! فقلت: لا تسلبني. قال: أخاف أن يجيء غيري فيأخذه. قالت: وانْتَهَبُوا ما في الأبنيةِ حتّى كانوا يَنْزِعونَ الملاحف عن ظُهورنا)[10]، والملاحف: جمع ملحفة، وهي اللِّباس الذي فوق سائر اللِّباس من دِثار البرد ونحوه[11].

قوله (عليه السّلام): «فلا غَفَرَ اللهُ لهم ذَلِكَ أبَداً».
يدلّ على عدم شمول العفو والشّفاعة لقتلة الحسين (عليه السّلام)، ويشهد له بعض الآيات التي تنصّ على عدم مؤثّرية الاستغفار للمنافقين، قال تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بأنَّهُمْ كَفَرُوا بالله ورَسُولِه واللهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِيْنَ}[12]، ويؤيّده ما ورد في صحيحة محمّد بن مسلم عن الباقر (عليه السّلام) التي رواها الشيخ الصفّار (رحمه الله): (حدّثنا محمّد بن الحسين وعبد الله بن محمّد جميعاً، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمّد، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أما والله إنّ في أهل بيتي من عترتي لهداة مهتدين من بعدي، يعطهم علمي وفهمي وحلمي وخلقي، وطينتهم من من طينتي الطاهرة، وويل للمنكرين لحقِّهم المكذبين لهم من بعدي، القاطعين فيهم صلتي، المستولين عليه والآخذين منهم حقهم، ألا فلا أنالهم الله شفاعتي)[13]، وقد روى أيضاً جملةً من الروايات بأسانيد متعددة وفيها ذكر قتل سيد الشهداء (عليه السّلام) والنصّ على عدم نيل قاتليه شفاعة النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، ومنها: (حدّثنا محمد بن عبد الحميد، عن منصور بن يونس، عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: من سرَّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي، ويدخل الجنّة التي وعدني ربِّي، جنة عدن منزلي، قضيبٌ من قضبانها غرسه ربِّي بيده، ثم قال له: «كُن» فكان، فليتولَّ عليّاً من بعدي والأوصياء من ذريّتي، أعطاهم الله فهمي وعلمي، وايم الله ليقتلنّ ابني، لا أنالهم الله شفاعتي)[14]، وروى في الباب نفسه أخباراً متعددة في هذا المعنى، فلتُلاحظ[15].

[3] قال: «يا ابنَ شَبِيْبٍ، إنْ كُنْتَ بَاكِياً لشَيءٍ فابْكِ للحُسَيْنِ بنِ عَلِيِّ بنِ أبي طَالبٍ عليهم السّلام، فإنَّهُ ذُبِحَ كما يُذْبَحُ الكَبْشُ، وقُتِلَ مَعَهُ مِنْ أهْلِ بَيْتِه ثَمانِيَةَ عَشَرَ رَجُلاً مَا لهُمْ في الأرْضِ شَبِيْهٌ».

قوله (عليه السّلام): «فإنَّهُ ذُبحَ كما يُذْبَحُ الكَبْشُ».
قد رُوي في معناه ما يؤيّده، ومنه ما رواه الصّدوق بإسناده عن عبد الله بن عبّاس عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: (..، وموضع مصرعه أرض كرب وبلاء وقتل وفناء، تنصرُه عصابةٌ من المسلمين، أولئك من سادة شهداء أمتي يوم القيامة، كأنّي أنظر إليه وقد رُمِيَ بسهمٍ فخرَّ عن فرسه صريعاً، ثم يُذبح كما يذبح الكبش مظلوماً)[16].
ومن ذلك ما رواه بإسناده عن الفضل بن شاذان عن الرّضا (عليه السّلام) -في حديث إسماعيل (عليه السّلام) وفدائه بالكبش- أنّ الله تعالى قال لإبراهيم (عليه السّلام): (يا إبراهيم، فإنّ طائفةً تزعم أنّها من أمّة محمّد ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يذبح الكبش، ويستوجبون بذلك سخطي، فجزع إبراهيم عليه السّلام لذلك وتوجّع قلبه وأقبل يبكي)[17].

وأمّا بالنسبة إلى دلالة هذه العبارة، فإنّه يُحتمل فيها معنيان:
المعنى الأوّل: أنّ المراد بالذّبح كما يُذبح الكبش هو استهانة القوم بالحسين (عليه السّلام) عند قيامهم بقتله، وعدم مبالاتهم بهذه الجريمة التي اهتزّت لها السماوات والأرضون، وقد استُعمل هذا التعبير لأنّ العادة قد جرت أن لا يبالي الإنسانُ بالكبش عند ذبحه، وهو كاشف عن مدى الاستخفاف بحُرمة النبيِّ صلى الله عليه وآله ومقام ريحانته سيّد شباب أهل الجنّة.
المعنى الثاني: أنّ المراد هو الإشارة إلى كيفيّة الذّبح، وأنّه ذُبح من حلقه الشريف.

ويمكن ترجيح إرادة المعنى الأوّل بما حاصله: إنّ العرب حينما يُطلقون التشبيه لا يريدون به تمام الجهات في المشبّه به، وإنّما يريدون جهةً خاصّةً منه، ومن أمثلة ذلك ما ورد في كتاب أمير المؤمنين (عليه السّلام) في رسالةٍ له إلى معاوية: (وقلتَ إنِّي كنت أقاد كما يُقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، فلعمر الله لقد أردتَ أن تذمَّ فمدحتَ، وأن تفضحَ فافتضحتَ، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكّاً في دينه ولا مرتاباً بيقينه)[18]، فتشبيه اقتياد أمير المؤمنين (عليه السّلام) إلى البيعة كما يُقاد الجمل المخشوش لا يُراد به بيان كيفيّة الاقتياد بدقّة، وإنّما المراد هو بيان حال أمير المؤمنين (عليه السّلام) في ذلك الحين واستهانة القوم به واستضعافهم إيّاه.
والتعبير بـ«كما يُذبح الكبش» دارجٌ في كلام العرب لوصف المستضعف المُستهان بشأنه، ومن ذلك ما رواه البرقيّ بإسناده عن النبيِّ (صلى الله عليه وآله): (لو أن عبداً عبد الله ألف عامٍ ما بين الرّكن والمقام، ثم ذُبح كما يذبح الكبش مظلوماً لبعثه الله مع النّفر الذين يقتدي بهم وبهداهم ويسير بسيرتهم، إنْ جنة فجنة وإنْ ناراً فنار)[19]، وما رواه الصدوق بإسناده عن الصّادق (عليه السّلام): (والله لو أنّ عبداً عمّره الله فيما بين الرّكن والمقام ألف عامٍ، وفيما بين القبر والمنبر يعبده ألف عامٍ، ثمّ ذُبِح على فراشه مظلوماً كما يذبح الكبش الأملح ثم لقي الله عز وجل بغير ولايتنا لكان حقيقاً على الله عز وجل أن يكبَّه على منخريه في نار جهنم)[20]، وليس المراد في هاتين الروايتين تقييد الذّبح بهيئةٍ معيّنةٍ، وإنّما المراد أن يكون الذّبح ظلماً وعدواناً باستخفافٍ واستهانةٍ.
ويؤيّد وجود أصل هذا التعبير ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن عائشة بنت أبي بكر أنّها قالت حين قتل عثمان بن عفّان: (تركتموه كالثوب النقيّ من الدّنس، ثم قرّبتموه فذبحتموه كما يُذبح الكبش)[21]، والمعلومُ أنّ عثمان قُتل طعناً في بطنه وصدره ولم يُقتل بالذّبح، كما أنّ عائشة لم تكن في مقام التفصيل حول تلك الجزئيّة.
وحُكي عن مُرّة بن ذهل بن شيبان البكريّ قوله مخاطباً بني تغلب قوم كُليبٍ: (لكم عندي خصلتان: أمّا إحداهما فهؤلاء بنيَّ الباقون، فعلّقوا في عُنقِ أيّهم شئتم نِسعةً، فانطلقوا به إلى رِحالكم فاذبحوه ذبح الجزور، وإلّا فألفُ ناقةٍ)[22].
وحُكي في «سيرة ابن هشام» شعرٌ لسماك اليهوديّ في شعر قاله عند إجلاء بني النّضير:
فإنْ نَسْلمْ لكم نتركْ رِجالاً ** بكعبٍ حولهم طيرٌ تدورُ
كأنّهم عتائرُ يوم عيدٍ ** تُذَبَّحُ وهي ليس لها نكير[23]
والعتائر: جمعُ عتيرة، وهي الذبيحة التي كانت العرب تُقدّمها قرباناً للأصنام في الجاهليّة.
والحاصل: إنّ التشبيه بالذّبح كما يُذبح الكبش أو الجزور أو مُطلق الذّبيحة قد استُعمل في كلام العرب لبيان معنى الاستضعاف والاستهانة.

أمّا المعنى الثاني فقد يُعارَض بما رُوي أنّ الحسين (عليه السّلام) قد ذُبِحَ من القفا كما في نُدبة السيّدة زينب (عليها السّلام): (وا مُحمّداه، بناتُك سبايا، وذريّتك مقتّلة تسفي عليهم ريح الصبا، وهذا حُسين محزوز الرّأس من القفا، مسلوب العمامة والرِّداء)[24]، وخطبة الإمام زين العابدين (عليه السّلام): (أنا ابن المقتول ظُلماً، أنا ابن المجزوز الرّأس من القفا)[25]، إلّا أنّه يمكن الجمع بحمل الذّبح من الحلق على كونه الحاصل أوّلاً عند قتله، ثمّ إنّهم لما أرادوا فصل الرأس الشريف عن الجسد قاموا بحزِّه من القفا ولعلّ التعبير بـ«المحزوز» يُشعر بذلك، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

قوله (عليه السّلام): «وقُتِلَ مَعَهُ مِنْ أهْلِ بَيْتِه ثَمانِيَةَ عَشَرَ رَجُلاً مَا لهُمْ في الأرْضِ شَبِيْهٌ».
كذا ورد في هذه الرّواية، وورد من طرقّ شتّى عن فطر بن خليفة عن منذر الثوريّ عن محمّد بن الحنفيّة قيدٌ آخر وهو أنّ هؤلاء من نسل فاطمة (عليها السّلام):
1. روى خليفة بن خيّاط في تاريخه: (وحدّثنا الحسن بن أبي عمرو، قال: سمعتُ فطر بن خليفة، قال: سمعت منذر الثوريّ، عن ابن الحنفيّة، قال: «قُتل مع الحسين عليه السّلام سبعة عشر رجلاً كلهم قد ارتكض في بطن فاطمة»)[26].
2. روى الطبرانيّ في معجمه الكبير: (حدثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، حدثنا فطر بن خليفة، عن منذر الثوري، قال: كنا إذا ذكرنا حسيناً ومن قُتِلَ معه قال محمد بن الحنفية: «قتل معه سبعة عشر شابّاً، كلهم ارتكض في رحم فاطمة رضي الله عنها»)[27].
ورواه الشجريّ في (الأمالي الخميسيّة) من هذا الطّريق أيضاً[28].
والظّاهر بدواً -من خلال قرينة الانصراف- أنّ المراد هي فاطمة بنت رسول الله عليها السلام، ولكنّه بعيدٌ جدّاً إذ يلزم من هذا أنّ يكون هؤلاء الشّهداء فاطميّين وليسوا علويّين أو طالبيِّين، وهذا مشكلٌ؛ لأنّ الفاطميين المقتولين في كربلاء أقلّ من نصف هذا العدد. نعم؛ قال الشيخ ابن نما الحليّ في كتابه «مثير الأحزان»: (قال الرّواة: كُنّا إذا ذكرنا عند محمد بن علي الباقر عليه السّلام قتل الحسين (عليه السّلام) قال: «قتلوا سبعة عشر إنساناً، كلُّهم ارتكض في بطن فاطمة بنت أسد أم علي عليه السلام»)[29]، وهذا أقرب إلى الصّواب، فإنّ عدد الشّهداء الطالبيّين من أولاد أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعقيل أقرب إلى هذا المقدار المذكور في الرّواية مع ما فيها من اختلاف. وهذا القيد يشمل أولاد عقيل أيضاً؛ لأنّ أمّه فاطمة بنت أسد (رضي الله عنها) كما ذُكر في كتب التّاريخ والأنساب[30].
وهذا القيد الوارد في نقل ابن نما الحليّ لا ينافي إطلاق رواية ابن شبيب؛ لأنّ إطلاق (أهل بيته) لا يشمل جميع بني هاشم؛ إذ لم تثبت مشاركة أحدٍ من غير آل أبي طالب (عليه السّلام) في كربلاء.

تنبيه: نسبة الرواية في «مثير الأحزان» إلى الإمام الباقر (عليه السّلام) محلّ تأمّل؛ فإنّها على الظاهر عينُ الرواية المنقولة عن محمّد بن الحنفيّة، ومنشأ هذا الاشتباه أنّ كليهما اسمه (محمّد بن عليّ)، وقد وردت هذه الرواية في بعض المصادر بنسبتها إلى (محمّد بن عليّ) من دون تحديد، كما في «كشف الغمّة» للأربليّ، قال: (وعن منذرٍ، قال: كُنّا إذا ذكرنا عند محمّد بن عليّ قتل الحسين عليه السّلام قال: لقد قتلوا سبعة عشر إنساناً كلهم ارتكض في ولادة فاطمة عليها السلام)[31]، وهذا ممّا يوجب الوهم والخلط بينهما، والأقرب للصّواب أنّ الرواية عن محمّد بن الحنفيّة، فقد وردت منسوبةً إليه في (تاريخ خليفة بن خيّاط)، و(المعجم الكبير) للطبرانيّ، و(الأمالي الخميسيّة) للشجريّ، و(شرح الأخبار) للقاضي النعمان المغربيّ[32]، ويؤيّد ذلك أنّ الراوي للرواية في المصادر التي أسندت الخبر هو منذر بن يعلى الثوريّ الذي عُرِف بمُلازمة محمّد بن الحنفيّة[33].

وعلى أيّ حالٍ، فهذا المقطعُ من الرّواية يبيّن أفضليّة الشهداء من آل أبي طالب (عليه السّلام) على مَنْ سواهم من الأصحاب، وأنّهم في مرتبة خاصّة من الفضل والجلالة.

وأمّا بالنسبة لضبط العدد، فهل هذه الرّواية في مقام الحصر أم لا؟ لا يظهر من الرّواية أنّها في مقام الحصر، إلّا أنّ النصّ على هذا العدد في جملة من الرّوايات عند ذكر الشّهداء من أهل بيت الحسين ربّما يُشعر بأنّ المراد هو الحصر، ومن هذه الرّوايات:
1. ما رواه الشيخ الطوسيّ في أماليه بإسناده عن الصّادق (عليه السّلام): (ذاك دمٌ يطلب الله تعالى به، وما أصيب ولد فاطمة ولا يُصابون بمثل الحسين عليه السّلام، ولقد قُتِل عليه السّلام في سبعة عشر من أهل بيته، نصحوا لله، وصبروا في جنب الله، فجزاهم الله أحسن جزاء الصّابرين)[34].
2. ما رواه ابن سعد في طبقاته: (وبعث حسين إلى المدينة، فقدم عليه من خفّ من بني عبد المطّلب وهم تسعة عشر رجلاً ونساء وصبيان من أخواته وبناته ونسائهم)[35]، وفي موضع آخر: (وكان معه من أهل بيته تسعة عشر رجلاً)[36].
3. روى يحيى بن الحسين بن هارون، أبو طالب الهارونيّ - وهو من أعلام الزيديّة - عن بعض مشايخه بإسناده عن ثقات الإماميّة: (أخبرنا أبو العباس الحسني، قال حدثنا محمد بن جعفر القرداني، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السّلام، قال: «كان أبي علي بن الحسين عليه السّلام إذا حضرت الصلاة يقشعر جلده، ويصفرُّ لونه، وترتعد فرائصه، ويقف تحت السماء ودموعه على خديه، ويقول: لو علم العبد من يناجي ما انفتل». ولقد برز يوماً إلى الصحراء، فتبعه مولى له، فوجده قد سجد على حجارة خشنة، قال مولاه: فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه، قال: فأحصيت ألف مرة وهو يقول: «لا إله إلا الله حقاً حقاً، لا إله إلّا الله تعبداً ورقاً، لا إله إلا الله إيماناً وصدقاً»، ثم رفع رأسه من سجوده وإن لحيته ووجهه قد غُمرا بالماء من دموع عينيه، فقال له مولاه: يا سيدي أما آن لحزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقل؟ فقال له: «ويحك، إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبياً ابن نبي ابن نبي، له أحد عشر ابناً فغيّبَ الله عنه واحداً منهم، فشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وذهب بصره من البكاء، وابنه حيٌّ في دار الدنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة عشر من أهلي مقتولين صرعى فكيف ينقضي حزني ويقلّ بكائي؟!»)[37]، فهذه الرواية تفيد أنّهم ثمانية عشر شهيداً طالبيّاً سوى الحسين (عليه السّلام).
4. قال الطبريّ في تاريخه: (قال هشام: فحدثني عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي، عن أبيه، عن الغاز بن ربيعة الجرشي، من حمير، قال: والله انا لعند يزيد ابن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس حتى دخل على يزيد بن معاوية، فقال له يزيد: ويلك! ما وراءك؟ وما عندك؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته، فسرنا إليهم، فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال)[38].
وفي رواية عمّار الدهني عن الباقر (عليه السّلام): (فقُتل أصحاب الحسين كلّهم وفيهم بضعة عشر شابّاً من أهل بيته)[39].
والحاصل من مجموع الرّوايات المتقدّمة: أنّ عدد الشهداء من آل أبي طالب هم بضعة عشر رجلاً، والخلاف بالزّيادة والنقيصة قد يكون ناشئاً عن وهم بعض الرّواة أو لتغاير الاعتبار في العدّ، فقد يُستثنى من القتلى بعض الصّغار كعبد الله الرّضيع، والله العالم.
وعلى أيّ حال، فالالتزام بهذه الروايات يوجب على مَنْ يقول بالزيادة على هذا العدد بمقدار أكبر أن يحمل الإشارة إلى الثمانية عشر في رواية ابن شبيب على الخصوصيّة الزائدة أو استثناء الصِّغار والاقتصار على الرِّجال، وما أشبه ذلك من اعتباراتٍ في العدّ، وإنْ كان الجمع بين هذه الوجوه المتعارضة قد لا يخلو من تكلُّفٍ. وأمّا البحث في تعدادهم وأسمائهم فهو موكولٌ إلى بحوث السّيرة الحسينيّة وقد تعرّض له بعض أهل العلم كالشيخ محمّد مهدي شمس الدين في كتابه (أنصار الحسين)[40]، والشيخ محمّد السماويّ في كتابه (إبصار العين)[41]، والشيخ عزّت الله مولائي والشيخ محمد جعفر الطبسيّ في كتاب (مع الرّكب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة)[42].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سورة التوبة، الآية 36.
[2] الخصال، ج2، ص487، أبواب الاثني عشر، ح64.
[3] قال الفيض الكاشانيّ: (معنى أشهر السياحة أنّ النبيّ لما أُمر بقتال المشركين بنزول سورة براءة أُمر أن يمهلهم أربعة أشهرٍ من يوم النّحر، ثم يأخذهم ويقتلهم أينما وُجدا وحيثما ثُقفوا)، انظر: الوافي، ج12، ص416.
[4] سورة التوبة، الآية 5.
[5] بحار الأنوار، ج55، ص378.
[6] الكافي، ج8، ص271، رقم الحديث 7013، كتاب الحج، باب الحج الأكبر والأصغر، ح3.
[7] العين، ج5، ص137.
[8] الطبقات الكبير، ج6، ص444.
[9] تاريخ الطبريّ، ج5، ص453.
[10] الأمالي، ص228-229، رقم الحديث 241، المجلس 31، ح2.
[11] لسان العرب، ج9، ص314.
[12] سورة التوبة، الآية 80.
[13] بصائر الدرجات، ج1، ص117، رقم الحديث 213، الجزء الأوّل: باب في الأئمة وما قال فيهم رسول الله بأنّ الله أعطاهم فهمي وعلمي، ح8.
[14] بصائر الدرجات، ج1، ص113، رقم الحديث 206، الجزء الأوّل: باب في الأئمة وما قال فيهم رسول الله بأنّ الله أعطاهم فهمي وعلمي، ح1.
[15] انظر: ح2، ح3، ح4، ح5، ح7، ح10، ح16، وانظر أيضاً: الكافي، ج1، ص518، رقم الحديث 544، كتاب الحجّة، باب ما فرض الله عزّ وجلّ ورسوله من الكون مع الأئمّة، ح5/ الأمالي الصدوق، ص88-89، رقم الحديث 60، المجلس 9، ح11.
[16] الأمالي، ص177، رقم الحديث 178، المجلس 24، ح2.
[17] الخصال، ج1، ص58-59، باب الاثنين، ح79.
[18] نهج البلاغة، ص588، المختار من كتب أمير المؤمنين عليه السلام..، رقم الكتاب 28.
[19] المحاسن، ج1، ص134، رقم الحديث 166.
[20] عقاب الأعمال، ص250، باب عقاب الناصب والجاحد لأمير المؤمنين والشاكّ فيه والمنكر له، ح16.
[21] مصنف ابن أبي شيبة، ج17، ص87، رقم الحديث 32714.
[22] العقد الفريد، ج6، ص72.
[23] رواه ابن هشام في السيرة النبويّة، ج3، ص152.
[24] الملهوف على قتلى الطفوف، ص181.
[25] مناقب آل أبي طالب، ج4، ص182.
[26] تاريخ خليفة بن خيّاط، ص235.
[27] المعجم الكبير، ج3، ص127، رقم الحديث 2855.
[28] الأمالي الخميسية، ج1، ص242، رقم الحديث 848.
[29] مثير الأحزان، ص174.
[30] نصّ على ذلك ابن قتيبة الدينوريّ في كتابه المعارف، ص120، والبلاذري في أنساب الأشراف، القسم الثاني، ص45.
[31] كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج2، ص523، وما بين المعقوفتين في المتن المطبوع إدراجٌ إيضاحيٌّ من المحقّق كما نصّ في مقدمة التحقيق.
[32] شرح الأخبار، ج3، ص168، رقم الحديث 1111.
[33] قال الحافظ الذهبيّ في ترجمته: (لازم محمد ابن الحنفية، وحفظ عنه)، انظر: تاريخ الإسلام، ج3، ص170.
[34] الأمالي، ص253-253، الجزء السادس، ح20.
[35] الطبقات الكبير، ج6، ص428.
[36] الطبقات الكبير، ج6، ص436.
[37] تيسير المطالب، ص176-177.
[38] تاريخ الطبري، ج5، ص459.
[39] تاريخ الطبريّ، ج5، ص389.
[40] أنصار الحسين، ص151-170.
[41] إبصار العين في أنصار الحسين، ص32-68.
[42] مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة، ج4، ص198-202.