بسم الله الرحمن الرحيم
الموروث الروائي بين الحقيقة ووهم النقد العلمي - الحلقة الأولى
من الواضح أنَّ البحث في قضايا التراث الروائي من أكثر المسائل المطروحة في الساحة العلميّة تعقيداً وتشابكاً، وقد صدرت في الآونة الأخيرة بعض الكلمات والأبحاث في هذا الشأن من السيّد كمال الحيدري، ابتداءً برمي تراث أهل البيت (عليهم السلام) بأنَّ كثيراً منه من وضع اليهود والنصارى والمجوس، ومروراً ببعض الكلمات في بعض الجلسات العلميّة، وأخيراً بما رأيناه في الحلقة الأولى مما سماه (إسلام محورية القرآن) وهو الكتاب الذي أصدره بعنوان (الموروث الروائي بين النشأة والتأثير) بتقرير الدكتور طلال الحسن، وقد ظننتُ أنَّ البحثَ سيكون علمياً في نقاش مسائل تراث أهل البيت (عليهم السلام) فوجدتُ اشتباهاتٍ منهجيَّة عديدة، وأخطاءً عظيمة تمثَّلت في تصوير نتائج لا علاقة لها بالمقدمات المطروحة، فضلاً عن الخلط الشديد بين ما يخُصُّ التراث الشيعي وما يخص التراث السني، والذي يختلفُ تماماً عن التراث الشيعي في نشأته وخصوصيّاته وطرق نقله ..إلخ.
وقد كنتُ أطالع الكتاب متعجّباً من الحديث عن التراث السني والتراث الشيعي في قالبٍ واحدٍ، مع أنّ لكل بحثٍ خصوصيّة لا تقارب خصوصيّات البحث الآخر، فكان الخلط الشديد بين البحثين العميقين خطأ منهجيّاً فادحاً، وازداد التعجُّب من تناول هذ البحث بهذا الكمِّ من الخلط والإسفاف، فمثلاً لو نظرنا في الفصل الثاني (ملامح عصر ما قبل التدوين) سنجدُ أن 90% من هذا البحث ناظرٌ إلى استعراض خصوصيات لها علاقة بالتراث السني، لا بتراث أهل البيت (عليهم السلام)، وقد يوجد في الثنايا بعض ما يخص تراث أهل البيت (عليهم السلام) لتخرج النتائج فيما بعد وتُلصق بتراثنا وتراثهم، ويذهب التراث الشيعي بجريرة غيره حاملاً نتائج وُلِّدت من خصائص تراث غيره!
وكذلك في الفصل الثالث، عند الحديث عن (تساقط الضوابط في قبول الحديث) فقد كان أغلب الاستشهاد والتمثيل في الضوابط العشرة المذكورة من كتب أهل السنة والجماعة، فكان الدليل والشاهد هو كلام الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني وابن الصلاح والسيوطي خلا رواية واحدة نقلها عن الكافي الشريف والحمد لله، في ظل غياب كلمات علمائنا وفقهائنا الأعاظم (رضوان الله عليهم)، فهل كان السيد يبحث في تراث العامّة أم في تراثنا؟ أم في التراثين معاً؟ فإن كان البحث يخصُّ تراث أهل البيت (عليهم السلام) فلم الاستشهاد بخصائص التراث السني؟ وإن كان يخص التراثين معاً فأين الاستشهاد والتمثيل في كل مبحث بما يخص تراث أهل البيت (عليهم السلام)، ولماذا لا يتم الفصل بين البحثين، لا سيَّما أن لكل تراث خصائصه في كل من مرحلة التدوين، وضوابط القبول، وطرق الضبط والتلقي، وحركة الوضع والكذب، ومحاربة الغلوّ والبدعة،.. إلى آخر هذه الخصائص المنفردة والتي خُلطت معاً في أبحاث السيّد الحيدري، فالبحث متميز بالقفز تارةً بين الكلام في مسائل نظرية عند السنة، وتارة تطبيقات عملية على التراث الشيعي.
وبعيداً عن الإشارة بالتفصيل لهذا الخلط، فإننا في سلسلة المقالات لن نتعرّض لنقد الكتاب بكامله؛ لعدم الحاجة لذلك، وإنما سنشير إلى بعض أوهامِ السيّد فيما يخصُّ التراثين وننقد بعض الادّعاءات الباطلة، ليطَّلع القارئ ويعلم أنَّ هذه الأبحاث ليست ناضجةً بما يكفي، ولا تصلح لإظهار صورة كاملة حول تراث أهل البيت (عليهم السلام) فضلاً عن التراث السني بل هي عبارة عن أوراق مضطربة ليست إلا ثمرة الاستعجال وعدم التدقيق في ظل فقدان أبجديات معرفة تحقيق التراث الإسلامي بقسميه السني والشيعي، وإن هذه الأخطاء لا يقع فيها من يدعي القدرة على تنقيح تراث أهل البيت (عليهم السلام) من ركام الإسرائيليات المزعومة، وإن كان دون تنفيذ هذه المزاعم خرطُ القتاد أصلاً!
الوثائق التدوينية الأولى في الإسلام
تكلَّم السيد الحيدري حول الوثائق التدوينية التي لم تأخذ المعنى الاصطلاحي لكتاب مُصَنَّفٍ في الحديث، وقد أوردها كما يلي:
(1) الصحيفة الصادقية أو اليرموكيَّة لعبد الله بن عمرو بن العاص وقد قال فيها السيّد(1): (إنَّ هذه الوثيقة ثابتةٌ بحسب النقولات التاريخيَّة، ولكنها لا تشتمل على روايات النبي صلى الله عليه وآله، وإنَّما تشتمل على أخبار بني إسرائيل، ظفر بها عبد الله بن عمرو في معركة اليرموك والمسمَّاة بـ(الزاملة) أو (اليرموكيَّة) ولكنَّها صارت فيما بعد مادة حديثية، فقد أخرجَ الإمام أحمد بن حنبل في مسنده قسماً كبيراً من أحاديث هذه الصحيفة، برواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص).
قلتُ: قد خلط السيَّد بين صحيفتي عبد الله بن عمرو بن العاص، فظنَّ أن الصادقة هي اليرموكيّة، وهناك فرق بين الاثنتين كما هو معلوم لدى أهل التحقيق.
الصحيفة الصادقة هي صحيفة أحاديثٍ كتبها عبد الله عن النبي (ص)، وهي التي قال عنها عبد الله(2): (ما يرغبني في الحياة إلا الصادقة والوهط، فأمّا الصادقة فصحيفة كتبتها من رسول الله .. إلخ) والتي قال فيها مجاهد(3): (رأيت عند عبد الله بن عمرو صحيفة فسألته عنها فقال: هذه الصادقة، فيها ما سمعت من رسول الله ليس بيني وبينه أحد)، فإن صحَّت الأخبار في الواقع بوجود الصحيفة الصادقة بخط عبد الله، فهي مما رواه عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بلا واسطة، وإن لم تصح فلا وجود لها أصلاً، ومع ذلك لم نجد أحداً من أهل التحقيق يقول بأنها هي التي وُجدت في معركة اليرموك، بل كلهم مطبقون على أنَّها منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وليس فيها شيءٌ من الإسرائيليات، وإنما هذا الخلط من جهة السيّد الحيدري الذي لم يميّز بين الصحيفتين.
أمَّا الصحيفة اليرموكيَّة فهي التي وجدها عبد الله بن عمرو بعد معركة اليرموك، وهي صحيفة تحتوي على أخبار أهل الكتاب، قال ابن تيمية (4): (ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب فكان يُحدِّثُ منهما) وقال الحافظُ ابن كثير(5): (كان قد وجد يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب وكان يحدث منهما كثيراً).
ولستُ بصدد إثبات وجود هذه الصحيفة من عدمه - مع أننا نقول بوجودها - وإنما نريد الإشارة إلى ما جاء في وصف كلتا الصحيفتين، حيث إن الأولى نبويّة تسمى بالصادقة والثاني إسرائيلية ولم يُطلق عليها أحد لقب (الصادقة)، فكيف جعلهما السيّدُ الحيدري صحيفة واحدة؟!
(2) الصحيفة المنسوبة للإمام علي (عليه السلام): وقد كان الكلام في سياق استعراض الصحف الأولى المدونة في الإسلام، وقد أشار السيد إلى هذه الصحيفة، وساق روايات محدثي المخالفين كابن حنبل وابن أبي شيبة والبخاري في وصف مضمونها ومحتواها، بينما اكتفى بالإشارة لوصفها في تراث أهل البيت (عليهم السلام) بصيغة التمريض بقوله (6): (وقيل: هي صحيفة أخرى تسمى في تراث أهل البيت بالجامعة) مع أنَّ الأخبار الواردة في الصحيفة الجامعة عديدة ومنها ما هو معتبرٌ جداً، وهي من أقوى الأدلة وأوضحها على أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو أوّل من دوَّن في تاريخ الإسلام، ومع ذلك لم تُعطَ هذه الصحيفة حقها ووصفها وقيمتها عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بل حصل الانشغال بمتابعة واستعراض ما رواه المخالفون حول صفة ومقدار هذه الصحيفة والذين بخسوها حقها وحاولوا التقليل من قيمتها بزعمهم أنها تشتمل على العُقَل (الديات) وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر، أو فرائض الصدقة، فقط!!
وأمَّا هذه الصحيفة العلويّة العظيمة، فهي مما كُتِبَ بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وبخط أمير المؤمنين عليه السلام، وهي جامعةٌ لأحكام الحلال والحرام وكل ما يختصُّ بالأحكام الشرعية، ومما جاء في وصفها، ما رواه الشيخ الصفَّار بإسنادٍ صحيح(7): (حدثنا محمد بن الحسين، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي عبيدة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّهُ سئل عن الجامعة، قال: تلك صحيفةٌ سبعون ذراعاً في عرض الأديم مثل فخذ الفالج، فيها كل ما يحتاج إليه الناس، وليس من قضية إلا وهي فيها حتى أرش الخدش)، وأيضاً بإسنادٍ صحيح(8): (حدثنا يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد وأبي المغرا، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: وأشار إلى بيت كبيرٍ، وقال: يا حمران، إنَّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعاً بخط علي وإملاء رسول الله - صلّى اللهُ عليهما -، ولو ولّينا الناس لحكمنا بينهم بما أنزل الله، لم نعدُ ما في هذه الصحيفة).
(3) ثم أدرج السيِّد عدداً من الكتب ضمن عنوان (وثائق أخرى) مصنفاً كتاب أبي رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) كصحيفة ضمن الوثائق المدوَّنة، في حين أنَّه من أوائل الكتب الفقهية التي صنّفت بيد أحد أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو كتاب يشمل أبواب فقهية عديدة كالصلاة والصيام والحج والزكاة والقضاء، قال النجاشي(9): (ولأبي رافع كتابُ السنن والأحكام والقضايا).
فأين الإنصاف في عرض حقيقة تاريخ تراث أهل البيت (عليهم السلام) في ظل هذا الإيجاز المخلّ عند عرض تراث الأئمة (عليهم السلام) وكتب أصحابهم؟! ومن الجدير بالذكر أنه تم تغييب العديد من المدوَّنات الأولى في العهد المتقدم من تاريخ الإسلام، ومنها كتاب عهد الأشتر والذي يرويه الأصبغ بن نباتة(10)، وكتاب في الفقه لعلي بن أبي رافع (11)، وكتاب في زكوات الأنعام لربيعة بن سميع (12)، وأصل ظريف بن ناصح والذي هو بالأصل كتابٌ في الديات لأمير المؤمنين (عليه السلام) ورواه عنه أصحابه (13).
فهل ما خطَّه السيد الحيدري فعلاً هو استعراض لحقائق تراث أهل البيت (عليهم السلام) أم هو استعراض لمزايا التراث السني؟ وكيف سيحاكم القارئ تراثنا إذا بقي التراث السني في قائمة الاستعراض متصدراً؟
إنَّ التدوين في مذهب أهل البيت عليهم السلام بُدئ بيد أمير المؤمنين (عليه السلام) وأصحابه، واستمر هذا الأمر بين أتباع الأئمة (عليه السلام) مع التفاوت في الكثرة والقلَّة تبعاً للظروف السياسية والضغوط التي كانوا يواجهونها آنذاك، قال الشيخ ابن شهر آشوب في مقدمة كتابه معالم العلماء: (الصحيح أن أول من صنف فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) جمع كتاب الله جل جلاله، ثم سلمان الفارسي رضي الله عنه، ثم أبو ذر الغفاري رحمه الله، ثم الأصبغ بن نباتة، ثم عبيد الله بن أبي رافع ثم الصحيفة الكاملة عن زين العابدين عليه السلام).
مع ذلك، فإنَّ تراث مدرسة العترة الطاهرة لم يخضع لتلك الظروف التي خضع لها الخط المخالف حيثُ تأثرت عنده عملية التحديث فضلاً عن التدوين بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) بضغوطات من الحُكَّام الثلاثة والذين ساهموا بشكلٍ كبير في محاربة التحديث والتدوين معاً، ولهذا فكان لا بُدَّ من إظهار تقدُّم عملية التدوين في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) رتبة وزماناً، وعدم تأثرها بشكل كامل بالعقبات والتقييدات التي فرضتها السلطات الظالمة بخلاف المذاهب الإسلاميّة الأخرى.
والحاصل: إنَّ الكلام في مدوّنات أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم لا يكون بهذا النحو من التبسيط الساذج والمخلّ، وإنما ينبغي أن ينال حقّه من التفصيل والبَسط، والله المستعان.
أمَّا بقية الأوهام فسيأتي بيانها، وللحديث بقيَّة ..
إبراهيم جواد
قم المقدَّسة (زادها الله شرفاً).
الاثنين، 9 ذو القعدة 1436هـ/ 24 أغسطس 2015.
----------------------
(1) الموروث الروائي بين النشأة والتأثير، ص 26 - 28، مؤسسة الإمام الجواد للفكر والثقافة، سنة النشر: 1436 هـ - 2014م.
(2) مسند الدارمي، ج1، ص389-390، رقم الحديث 511، تحقيق: مركز البحوث وتقنية المعلومات - دار التأصيل، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1436هـ/2015م.
(3) الطبقات الكبرى، ج2، ص 373، تحقيق: إحسان عبّاس، الناشر: دار صادر – بيروت.
(4) مجموع الفتاوى، ج13، ص 366، الناشر: مجمع الملك فهد – المملكة العربية السعودية، سنة النشر: 1425 هـ - 2004م.
(5) البداية والنهاية، ج3، ص 546، تحقيق: عبد المحسن التركي، الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1997م.
(6) الموروث الروائي بين النشأة والتأثير، ص 28.
(7) بصائر الدرجات، ج1، ص 340، رقم الحديث533، تحقيق: محمد كاظم المحموديّ، الناشر: مكتب الإعلام الإسلامي التابع لحوزة قم العلمية - فرع أصفهان، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1439هـ/2017م.
(8) المصدر السابق، ج1، ص 340-341، رقم الحديث535.
(9) رجال النجاشي، ص6، رقم الترجمة 1، تحقيق: السيد موسى الشبيري الزنجاني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة: العاشرة، سنة النشر: 1432هـ.
(10) رجال النجاشي، ص8، رقم الترجمة 5.
(11) رجال النجاشي، ص6، رقم الترجمة 2.
(12) رجال النجاشي، ص7-8، رقم الترجمة 3.
(13) انظر: مقدمة مرآة العقول للسيد مرتضى العسكري رحمه الله، ج2، ص 359، الناشر : دار الكتب الإسلاميَّة –طهران، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1363 هـ ش.