مشاركة مميزة

فهرس مقالات مدوّنة مصباح الهداية

الاثنين، 9 أكتوبر 2023

المنهج الصحيح في إثبات نسبة الكتب الحديثيّة والرّجاليّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم
المنهج الصحيح في إثبات نسبة الكتب الحديثيّة والرّجاليّة

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد الأنبياء والمرسلين، خير البريّة أجمعين، محمّد بن عبد الله الصّادق الأمين، وعلى أهل بيته الطّيبين الطّاهرين، واللّعن الدّائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدّين، أمّا بعدُ:

يُعدّ الكلام حول نسبة الكتب إلى مؤلّفيها من الأبحاث المهمّة في التّراث الإسلاميّ؛ فإنّ استنباط المعارف الدينيّة يحتاج إلى الاعتماد على المصادر الموثوقة، فكما أنّ الفقهاء يتثبّون من صحّة الأخبار في مقام الاستدلال فإنّهم أيضاً يتفحّصون أحوال الكتب الواصلة إليهم، ولذلك جرت سيرة العلماء منذ القرون الأولى إلى عصرنا الحاضر على التثبّت من صحّة نسبة الكتب المعتبرة إلى مؤلّفيها، كما تعرّض جملة من المحقّقين والنّقاد للبحث والتحقيق في نسبتها، وتضمَّنت كلماتُهم جملةً من الضوابط والمعايير التي يُمكن من خلالها تقييم صحّة نسبة الكتاب، وحيثُ إنّ هذا البحث لم يتم التوسّع في بيان ضوابطه ومعاييره فسوف نبسط الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وقبل الشّروع في أصل البحث، نشير إلى أمرين أساسيّين يرتبطان ببحث نقد نسبة الكتب:

الأمر الأوّل: حول تاريخ البحث في التراث الإماميّ.
إنّ مسألة التثبّت من نسبة الكتاب إلى مؤلّفيها أصيلةٌ في سيرة المحدّثين منذ القرون الأولى، حيث كانوا يتثبّون من ضبط الأصول الرّوائيّة المنقولة حفظاً للدّين وعنايةً منهم بشأنه -لأنّه لا يؤخذ بأيّ نحوٍ كان- وذبّاً للبدع والأكاذيب التي يحاول الوضّاعون إلصاقها بالدّين الحنيف. ولذا فإنّ دعوى إهمال العلماء لمسألة نسبة الكتب وأنّهم لم يحقّقوا بشأنها وإنّما جروا على ما يجدون بين أيديهم مخالفةٌ للشّواهد التّاريخيّة وما تفيده الآثار العلميّة التي تركوها.
وهذا الأمر يكشف عن وجود قواعد وضوابط علميّة مركوزة في أذهان نقّاد الحديث يتمّ من خلالها تقييم نسبة تلك الكتب إلى مؤلّفيها، فهُمْ وإن لم يفردوا أبحاثاً مستقلّة لها منذ القدم، إلّا أن سيرتهم في تقييم تلك المصنّفات تحكي بوضوحٍ عن وجود منهج علميّ للتقييم والنّظر الدّقيق في أحوال تلك المصنّفات، ومن جملة الشّواهد على تدقيقهم وتثبّتهم في هذه المسألة:
الشّاهد الأوّل: ما يدلّ على نظرهم لدفع الاشتباه والخلط في نسبة الكتب.
ومن ذلك ما قاله النّجاشيّ في ترجمة أحمد بن إصفَهبُذ القميّ: (لا يُعرَف له إلّا كتاب تعبير الرّؤيا، وقال قومٌ: إنّه لأبي جعفرٍ الكلينيّ، وليس هو له)[1]، وهو قد قال في ترجمة الكلينيّ: (وله غير كتاب الكافي: كتاب الردّ على القرامطة، كتاب رسائل الأئمّة عليهم السّلام، كتاب تعبير الرؤيا)[2].
ومنه: ما قاله النجاشيّ في ترجمة جعفر بن يحيى بن العلاء: (وكتابُه يختلط بكتاب أبيه؛ لأنّه يروي كتاب أبيه عنه، فرُبّما نُسب إلى أبيه، وربّما نسب إليه)[3].
ومنه: ما قاله النّجاشيّ في ترجمة ثُبيت بن محمّد العسكريّ عند تعداد بعض كتبه: (والكتابُ الذي يُعزَى إلى أبي عيسى الورّاق في نقض العثمانيّة له)[4].
الشّاهد الثّاني: ما يدلّ على تدقيقهم بالطّعن في الكتب المنحولة والمخترعة.
ومنه: ما قاله النجاشيّ في ترجمة جابر بن يزيد الجعفيّ: (وتُضاف إليه رسالة أبي جعفرٍ إلى أهل البصرة وغيرها من الأحاديث والكتب، وذلك موضوعٌ، والله أعلم)[5].
ومنه: ما قاله النجاشيّ في ترجمة عليّ بن الحسن بن فضّال: (ورأيتُ جماعةً من شيوخنا يذكرون الكتاب المنسوب إلى عليّ بن الحسن بن فضّال المعروف بـ«أصفياء أمير المؤمنين عليه السّلام»، ويقولون إنّه موضوعٌ عليه، لا أصل له، والله أعلم. قالوا: وهذا الكتاب أُلْصِقَ روايته إلى أبي العبّاس ابن عقدة وابن الزّبير، ولم نرَ أحداً ممّن روى عن هذين الرّجلين يقول: قرأتُه على الشّيخ. غير أنّه يُضاف إلى كلّ رجلٍ منهما بالإجازة[6]، والذي يريد بيانه من هذا الكلام أنّ بعض الأصحاب لمّا كان ابن عقدة وابن الزّبير هما العمدة عندهم في نقل تراث عليّ بن فضّال، ولم يُسمع هذا الكتاب منهما، فقد أصبح مورداً للشكّ في النّسبة.
ومنه: ما قاله الشيخ الطوسيّ في ترجمة زيد النرسيّ وزيد الزرّاد: (لهما أصلان، لم يروِهما محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه، وقال في فهرسته: لم يروِهما محمّد بن الحسن بن الوليد، وكان يقول: هما موضوعان، وكذلك كتاب خالد بن عبد الله بن سدير، وكان يقول: وضع هذه الأصول محمّد بن موسى الهمدانيّ)[7].
وقال ابن الغضائريّ: (وقال أبو جعفر ابن بابويه: إنّ كتابهما موضوعٌ، وضعه محمّد بن موسى السمّان. وغلط أبو جعفر في هذا القول، فإنِّي رأيتُ كتبهما مسموعةً عن محمّد بن أبي عمير)[8].
ومنه: ما قاله ابن الغضائريّ في ترجمة المفضّل بن عمر الجعفيّ: (وقد زِيْدَ عليه شيءٌ كثيرٌ، وحمل الغلاة في حديثه حملاً عظيماً)[9]، ومن المعلوم أنّ المفضل قد نُسبت إليه كتبٌ مكذوبةٌ من قبيل كتاب الهفت وكتاب الصّراط.
ومنه: ما قاله ابن الغضائريّ في ترجمة محمّد بن أورمة القميّ: (اتّهمه القميّون بالغلوّ، وحديثه نقيٌّ لا فساد فيه، وما رأيتُ شيئاً يُنسب إليه تضطرب فيه النّفس، إلّا أوراقاً في تفسير الباطن، وما يليقُ بحديثه، وأظنُّها موضوعةً عليه)[10].
وهذه الكلمات تبيّن عمل نقّاد الحديث على التثبّت من نسبة الكتب المرويّة إلى أصحابها، كما أنّها تكشف عن وجود ضوابط علميّة يطبّقونها في مقام النّقد -مع غضّ النّظر عن الاتفاق مع النّتائج أو عدمه-، وقد جرت هذه السّيرة عند العلماء المحدّثين إلى زمن المجلسيّ والحرّ العامليّ والميرزا الأفنديّ الأصفهانيّ وغيرهم ممّن أعمل النّظر والتدقيق في نسبة الكتب إلى أصحابها.

الأمر الثّاني: في بيان جهات البحث وحدودها.
يقع البحث حول الضّوابط العامّة التي يمكن النّظر من خلالها إلى تقييم النّسبة، وهو يتناول جهاتٍ أربع:
الجهة الأولى: ثبوت العنوان في الفهارس وغيرها.
الجهة الثّانية: دراسة الطبقات والأسانيد.
الجهة الثّالثة: دراسة المتون.
الجهة الرّابعة: دراسة النّسخ الخطيّة.

وهنا ينبغي التّنبيه على عدّة نقاط تتعلّق بهذه الجهات:
أوّلاً: إنّ الكلام في ضوابط النّقد والتّمييز منها ما يصلح لعامّة المصنّفات التي كُتبت بغضّ النظر عن موضوعاتها، ومنها ما يختصُّ بكتب الحديث والرّجال، وحيثُ إنّ الكتب الحديثيّة والرّجالية محلّ النظر في هذا البحث فسوف نشير إلى ضوابط ومعايير نسبة هذه الكتب إلى أصحابها، وأما سائر الكتب في العلوم الأخرى بما لها من خصوصيّات تميّزها عن كتب الحديث فلا نتعرّض لمعاييرها في هذا المقام، وإن أمكن الاستفادة من بعض النّكات التي سنذكرها لتوظيفها في البحث حول سائر الكتب.
ثانياً: إنّ بعض الأمارات والقرائن قد لا تكون حاسمةً بمفردها، ولكنّها بانضمامها إلى المزيد من القرائن المختلفة تورث وثوقاً بصحّة نسبة الكتاب أو عدمها، فهي وإن لم تكن حاسمةً في المقام إلّا أنّ لها قيمةً احتماليّة ينبغي الاعتناء بها، من قبيل: ذكر أو عدم ذكر اسم الكتاب في الفهارس أو سائر المصنّفات. فهي بنفسها ليس حاسمةً إلّا أنّها لا تخلو من قيمةٍ واعتبارٍ.
ثالثاً: إنّ فقدان بعض القرائن -التي سيأتي ذكرها- قد لا يضرّ بإمكانيّة تحصيل الوثوق بصحّة النسبة، ولكنّ بعضها الآخر يكون انعدامه أو انعكاسه مسبّباً للشكّ في صحّة النسخة. فمثلاً من جملة القرائن التي تذكر لبيان صحّة النسبة وجود عنوان الكتاب في المصنفات الفهرستية أو الإجازات الحديثيّة أو غيرها، ومع ما لهذه القرينة من قيمة احتماليّة إلّا أنّ غيابها لا يكون قادحاً.
ومن أمثلة ذلك: عدم ذكر كتاب قرب الإسناد إلى الصّادق (عليه السّلام) وقرب الإسناد إلى الكاظم (عليه السّلام) ضمن مؤلّفات الشيخ عبد الله بن جعفر الحميريّ، فإنّه قد ذكر الشيخ النجاشيّ جملة من كتبه وهي: كتاب الإمامة، كتاب الدلائل، كتاب العظمة والتوحيد، كتاب الغيبة والحيرة، كتاب فضل العرب، كتاب التوحيد والبداء والإرادة والاستطاعة والمعرفة، كتاب قرب الإسناد إلى الرّضا عليه السّلام، كتاب قرب الإسناد إلى أبي جعفر بن الرّضا عليه السّلام، كتاب ما بين هشام بن الحكم وهشام بن سالم، والقياس، والأرواح، والجنّة والنار، والحديثين المختلفَيْنِ، مسائل الرجال ومكاتباتهم أبا الحسن الثالث عليه السّلام، مسائل لأبي محمّد الحسن عليه السّلام على يد محمّد بن عثمان العمريّ، كتاب قرب الإسناد إلى صاحب الأمر عليه السّلام، مسائل أبي محمّد وتوقيعات، كتاب الطبّ[11].
وذكر الشيخ الطوسيّ هذه الكتب بهذا النحو: (له كتب، منها: كتاب الدلائل، كتاب الطبّ، كتاب الإمامة، كتاب التوحيد والاستطاعة والأفاعيل والبداء، كتاب قرب الإسناد، كتاب المسائل والتوقيعات، كتاب الغيبة، ومسائله عن محمّد بن عثمان العمريّ، وغير ذلك من رواياته ومصنفاته وفهرست كتبه.
وزاد ابن بطة: كتاب الفترة والحيرة، كتاب فضل العرب)[12].
وليس في هذه الكتب كتابا قرب الإسناد إلى الصّادق والكاظم عليهما السّلام، ولكننا إذا نظرنا في النّسخة الواصلة إلينا من كتاب قرب الإسناد نجد أنّه يتضمّن ثلاثة كتب: قرب الإسناد إلى الصادق عليه السّلام، قرب الإسناد إلى الكاظم عليه السّلام، قرب الإسناد إلى الرّضا عليه السّلام.
وعدم ذكر الكتابين الأوّلين في الفهارس منسوبةً إليه لا يمنع من تصحيح نسبة الكتاب إليه عبر إقامة قرائن مختلفة تبيّن ذلك وتثبته كما ظهر لنا من خلال دراسة أحاديث الكتاب.
وعلى الجانب الآخر، فإنّ انعدام بعض القرائن قد يضرّ بإمكانية تحصيل الوثوق بصحّة النسبة بل يسبب الشكّ فيها، ومن ذلك اختلال أسانيد النسخة وعدم انسجامها مع طبقة المؤلّف الذي يُنسب إليه الكتاب، أو وجود مضامين كثيرة لا تنسجم مع المسلك العقائديّ للمؤلّف الذي نُسبت إليه النسخة، ومن أمثلة ذلك: نسبة كتاب عيون المعجزات للسيّد المرتضى رحمه الله، فمن يطالع هذا الكتاب يعلمُ أنّه خلاف المنهج الكلاميّ والعقديّ عند السيّد -رضوان الله عليه-، ونسبة كتاب نوادر المعجزات إلى من عُنوِنَ بـ«محمّد بن جرير الطبريّ الصّغير» الذي قُدِّر من خلال بعض الأسانيد أنّه من أهل القرن الخامس الهجريّ، وجملة من أسانيد الكتاب لا تتلاءم مع هذه الطّبقة، وفي أمر الكتاب نظرٌ وتفصيلٌ يُذكر في محلّه.
رابعاً: ما نشير إليه في هذا البحث يمثّل الكليّات العامة للنّظر في نسبة كتب الحديث إلى مؤلّفيها، وهذا يعني عدم انحصار القرائن والأمارات المُثبتة أو النافية فيما نذكره، فقد تتوفر بعض الكتب على خصائص أخرى تنفرد بها ويمكنها أن تساعد في رفد البحث بالشواهد والقرائن والأمارات، ومعالجة هذه المسألة تكون بدراسة القضايا الجزئيّة الخاصّة بكلّ كتابٍ، وقد سعينا في هذا المقام إلى طرح كبريات البحث التي تصلح للتطبيق على جميع الكتب الحديثيّة والرّجاليّة، وأمّا التفاصيل الجزئية الخاصة فتُبحث في محلّها.

الجهة الأولى: ثبوت العنوان.
من الأمارات المهمة في البحث حول نسبة الكتاب وجودُ شهاداتٍ حسيّة من بعض العلماء يُشيرون بها إلى وجودِ كتابٍ بعنوانٍ مُعيّنٍ ضمن كتب المؤلّف، سواءً أكان ذلك النصّ في الفهارس المخصّصة لذكر كتب الأصحاب، أو ضمن الإجازات، أو في طيّات الكتب الأخرى على اختلاف أنواعها، فالشّهادات الحسيّة لها قيمةٌ في إثبات نسبة الكتاب، ولا سيّما إن كانت صادرةً عن علماء قريبين من زمن المؤلّف، وهذا الأمرُ يساعد على تضعيف احتمال كون أصل النّسخة منحولاً على المؤلّف إلى حدّ ما، كما أنّ الالتفات إلى هذه المسألة قد يساعد في رفع الاشتباه الوارد في تسمية الكتب أو نسبتها لغير أصحابها.
ويمكن أن يُستفاد من هذه القرينة لذكرها ضمن القرائن المؤيّدة لنسبة الكتاب، فيُعتمد على ما ذكره الشيخ النجاشيّ والطوسيّ لكونهما من أصحاب الفهارس في تأييد نسبة بعض الكتب الواصلة إلينا، وأحياناً قد تُذكر بعض العناوين في غير المصنّفات الفهرستيّة، كما هو الحال بالنسبة لإجازة أبي غالب الزراريّ (رحمه الله) حيث ذكر بعض مصنّفات الأصحاب فيها، وكذكر الشيخ الصدوق (رحمه الله) بعض كتبه في جملةٍ من مصنّفاته، حيث ذكر في كتابه «من لا يحضره الفقيه» بعضها من قبيل: علل الشرائع[13]، كمال الدين وتمام النعمة[14]، فضائل رجب[15]، فضائل شعبان[16]، فضائل شهر رمضان[17].
وعلى الجانب الآخر، يستفيد بعض العلماء من عدم ذكر الكتاب في فهرسة مصنّفات المؤلّف كقرينة على عدم النّسبة، ومن ذلك ما ذُكِرَ في نفي نسبة كتاب الاختصاص للشيخ المفيد؛ إذ قد عدّد النجاشي والطوسي جملة وافرة من كتبه ولم يذكروه بينها.
ومما ينبغي التأكيد عليه أنّ هذه القرينة -سواءً ذكر الكتاب في الفهارس وغيرها، أو عدم ذكره- لا تُعامل كقرينة حاسمةٍ في النسبة، بل لا بدّ من ضمّ المزيد من القرائن لتأييد النسبة أو نفيها؛ فإنّ مجرّد عدم ذكر كتابٍ في الفهارس وغيرها لا يمنع بالضّرورة من نسبة الكتاب إلى مَنْ نُسِبَ إليه، بل قد تتوفر قرائن أخرى تفيد ذلك، والسبب في ذلك أنّ أصحاب الفهارس من علمائنا لم يكونوا في مقام الحصر عند تعداد كتب الرّواة والعلماء، إذ لم يلزموا أنفسهم بذكر جميع المصنّفات لكلّ من ترجموا لهم، وهذا ظاهرٌ من كلمات الشيخ النجاشيّ والطوسيّ في مواضع كثيرة، ويكفي في المقام أن نذكر ما قاله الشّيخ النجاشيّ في مقدمّة كتابه: (وقد جمعت من ذلك ما استطعته، ولم أبلغ غايته؛ لعدم أكثر الكتب، وإنّما ذكرتُ ذلك عُذراً إلى من وقع إليه كتابٌ لم أذكره)[18]، وأمّا بقية الشواهد فلتُلاحظ في مظانِّها.

الجهة الثّانية: الأمارات المتعلّقة بالطبقات والأسانيد.
إنّ دراسة الأسانيد وطبقات الرّواة فيّ أيّ كتابٍ حديثيّ من شأنها أن تُنبّه الباحث إلى جملةٍ من الأمارات التي تُساعده على تقييم نسبة الكتاب إلى مؤلفه، ومنها:
الأمارة الأولى: معرفة مدى ملاءمة أسانيد النّسخة -بلحاظ الشّيخ المباشر- لطبقة المصنِّف؛ إذ إنّ وجود اختلال في هذه الجهة من شأنه أن يكون باعثاً على الريب في صحة النسخة، فلو كان مَنْ نُسِبَتْ إليه النسخة ممن عاش في القرن الثالث الهجريّ، وكان شيوخه بحسب النسخة الواصلة في القرن الرابع مثلاً، فهذا غريبٌ ويبعثُ على الريب، ويدفعُ باتجاه الشكِّ في صحّة نسبة النسخة إليه، إلا أن يكون هناك اختلالٌ في النسبة لتشابه الأسماء وما إلى ذلك، فينبغي التثبّت والاعتماد على المزيد من القرائن في المقام.
وهذا الأمر لا يمكن استظهاره من بضع موارد نادرة أو يسيرة، بل ينبغي أن يكون بمقدارٍ يُخلّ بالوثوق بالنسخة، فقد يتّفق وقوع بعض الأخطاء بنسبة نادرة من جهة النسّاخ أو غيرهم، وهذا لا يشكّل قدحاً مضعّفاً لنسبة الكتاب.
ومن أمثلة ذلك ما ذُكِر في شأن التفسير المنسوب إلى عليّ بن إبراهيم القميّ؛ فإنّ جملةً وافرةً من الأسانيد في هذه النسخة لا تتلاءم مع صدورها عمّن نُسبت إليه النّسخة الواصلة[19].
الأمارة الثانية: أن تكون أسانيد الكتاب معهودة عن المصنف أو مُترقَّبة منه، ومرادنا من الأسانيد المعهودة ما عُرف عن المؤلف روايته بها في سائر كتب الحديث أو الفهارس. وهذه الأمارة مؤثّرة جدّاً في نقد النسبة، فلو كنا نبحث في نسبة كتابٍ إلى الصّدوق (رحمه الله)، وكان أكثر الأسانيد لا يشبه أسانيده المعهودة في كتب الحديث وفهارس المصنّفات، فهذا قد يكون مُضعِّفاً للنسبة وخادشاً في صحّتها.
وأمّا الأسانيد المترقّبة فهي الأسانيد التي يتوقّع رواية مثلها من المصنّف لا سيّما مع ملاحظة المعطيات التاريخيّة حول شخصيّته العلميّة ورحلاته العلميّة ومنهجه في الرّواية وتاريخ تحمّله للحديث وما شاكل ذلك من معطيات تاريخيّة.
فمثلاً لو عثرنا على نسخةٍ منسوبةٍ إلى حمران بن أعين أو محمّد بن أبي عمير، وكانت أسانيدها يغلب عليها الرواية عن رجال العامَّة[20]، أو عثرنا على نسخةٍ منسوبةٍ إلى ابن قولويه القميّ وقد أكثر فيها من الرّواية عن سعد بن عبد الله الأشعريّ[21]، فإنّه من البعيد تحصيل الاطمئنان بسهولة لنسخةٍ بهذه الحال، وذلك لخصوصيّة في هؤلاء المحدِّثين.
وبعبارة أخرى: لا بد من وجود تقاربٍ بين أسانيد النسخة المنسوبة وأسانيد المصنف المشهورة والمعروفة في كتب الحديث المعتمدة، ولا يُشترَطُ هذا في تمام أسانيد النّسخة، وإنما ينبغي أن يكون هذا الجانب ملحوظاً في النسخة المنسوبة، ولا مانع من أن يتفرَّدَ بأسانيد لم يتناقلها أكثر المحدّثين، بشرط أن تكون مترقّبة منه بلحاظ ما ذكرناه آنفاً.
الأمارة الثّالثة: انضباط سلسلة الأسانيد وفقاً للمعلوم القطعيّ في بحث طبقات الرّواة، فلو اختلّ ترتيب رواة الأسانيد بنحو يتنافى مع طبقاتهم وتواريخهم فإنّ هذا يكون باعثاً إلى تقوية احتمال تركيب الأسانيد واختراعها من وضّاع جاهل غير عالم بالطّبقات والتاريخ.
الأمارة الرّابعة: أن يكون هناك تطابقٌ بين أسانيد روايات النّسخة وبين أسانيد الروايات عينها في الكتب الحديثية المعتبرة، فلو وجدنا جملةً من الروايات بإسنادٍ معيَّنٍ، ثم وجدناها بنفس الإسناد في كتاب معتبر آخر، فإنّ هذا التطابق يزيد احتمال الوثوق بالنسخة، كما هو الحال بالنسبة إلى النسخة الواصلة من كتاب «المحاسن»؛ فإنّ نسبةً وافرةً من رواياتها موجودةٌ في كتاب «الكافي» وجملة من كتب الشيخ الصدوق بالأسانيد عينها التي رواها الشيخ البرقيّ رحمه الله، وهذا الأمر له دورٌ مؤثّر في تضعيف احتمال الاختلاق.
ومن خلال التخريج والمقارنة يمكن الوقوف على كثير من الشواهد المؤيّدة، ولا سيّما بين الكتب التي تترابط مع بعضها بمقدارٍ ما، كما هو الحال بالنسبة إلى أمالي الشيخين المفيد والطوسيّ، أو كتب الصدوق بلحاظ المجموع، أو كتب الطوسيّ الحديثيّة مقارنةً بكتابه الفهرست، بل يمكن الاستفادة أيضاً مما ورد في أسانيد فهرستَيْ النجاشيّ والطوسيّ ومقايستهما مع أسانيد الروايات المذكورة في سائر كتب الحديث.
وسنأتي على ذكر جملةٍ من الشواهد التي توضّح ثمرة هذه الأمارة عند التعرّض لإشكاليّة الدّور.

ثالثاً: الأمارات المتعلّقة بالمتون.
كما أنّ دراسة الأسانيد لها أثرٌ في تقييم نسبة الكتاب، فكذلك دراسة المتون، حيثُ إنّها توفّر جُملةً من الأمارات المؤثّرة في الحكم على نسبة أيّ كتابٍ حديثيٍّ إلى مُؤلّفه، والنّظر في المتون يكون على نحوين:
النّحو الأوّل: ما يُلحظ فيه المتن بضميمة الأسانيد.
النّحو الثّاني: ما يُلحظ فيه المتن مفرداً.
أمّا بالنسبة للنّحو الأوّل، فمعياره أن تكون متونُ روايات النسخة ذات شواهد في كتب الرواية المعتمدة، وهذه الشواهد على قسمين:
القسم الأول: شواهد من نفس طريق المصنّف صاحب النسخة أو مشايخه، كأن تكون بعض روايات النسخة موجودة في كتابٍ معتبرٍ بنفس إسناد صاحب النسخة فهذا يعزز الوثوق بها، كما هو الحال بالنّسبة لروايات البرقيّ في «المحاسن» والحميريّ في «قرب الإسناد»، فإنّ جملةً منها مرويٌّ من طريقهما في كتب الكليني والصدوق وغيرهما.
القسم الثاني: الشواهد الروائية المنقولة بنفس الإسناد من غير طريق المصنّف صاحب النسخة، وهذه تعضد اعتبار النسخة كما تضعّف احتمال الاختلاق.
ومن أمثلته ما رواه الحميريّ في «قرب الإسناد» عن كتاب مسعدة بن صدقة وكتاب حمّاد بن عيسى وكتاب عبد الله بن ميمون القدّاح وكتاب بكر بن محمّد الأزديّ، ورواه الكلينيّ أو الصّدوق أو الطوسيّ بأسانيد أخرى عن هذه الكتب.
وأمّا بالنّسبة للنّحو الثّاني، فإنّه يُلحظ فيه المتن مفرداً، حيث يتمّ النّظر في مضامينها وتقييم مدى ملاءمتها لما نعرفه من مزايا وخصائص حول المؤلّف الذي نُسب إليه الكتاب، فتارة يكون النّظر في كتابٍ منسوبٍ إلى أحد كبار المحدّثين والفقهاء، وحينئذٍ لا بدّ أن تكون الصّبغة الغالبة على الكتاب منسجمةً مع ثوابت الإسلام أصولاً وفروعاً، وإلّا فمن المحتمل أن يتم تركيب الأسانيد على متونٍ فاسدةٍ تتضمّن شيئاً من أفكار المنحرفين عن الإسلام كالغلاة.
فعلى سبيل المثال: لو نُسبت نسخةٌ فيها شيء من التفويض أو التّناسخ إلى عالم من كبار الفقهاء كالشيخ الصّدوق أو الشيخ المفيد فإنّ هذه النّسبة تكون مشكوكةً، كما هو الحال في نسبة كتاب عيون المعجزات للسيّد المرتضى.
وتارة قد يكون المؤلّف مجهولاً عندنا، أو يتّصف بالشّذوذ عن جملة المبادئ الثّابتة في الإسلام، أو لديه بعض الانحرافات العقائديّة، أو يكون متساهلاً في الرواية ومتصفاً بقلّة الدراية، فحينئذٍ يُنظر إلى متون الرّوايات، فإن كانت فاسدةً فإنّ ذلك لا يضرّ بانتساب الكتاب إليه لعلمنا بأنّ ذلك الشّأن يلائمه، ومن ذلك نسبة كتاب الهداية الكبرى إلى الحسين بن حمدان الخصيبيّ.
وفي هذا السياق اهتمّ العلماء بملاحظة مدى موافقة متون روايات النسخة للجوّ العامّ لروايات المحدِّثين الثّقات، فإنَّ شذوذ المضامين وغرابتها الظّاهرة من شأنه أن يبعث الريب في صحة نسبة بعض النّسخ إلى بعض الأئمّة أو ثقات المحدّثين والرّواة، وقد جرى بعض العلماء النقّاد على هذا المسلك، ومن ذلك ما تقدّم ذكره عن ابن الغضائري في تنزيه محمّد بن أورمة حيث قال: (اتّهمه القميّون بالغلوّ، وحديثه نقيٌّ لا فساد فيه، وما رأيتُ شيئاً يُنسب إليه تضطرب فيه النّفس، إلّا أوراقاً في تفسير الباطن، وما يليقُ بحديثه، وأظنُّها موضوعةً عليه)[22]، فإنّ حكمه بعدم لياقة تلك الأوراق في الباطن بحديثه ناشئة من معرفة الصّبغة العامّة المعتدلة في رواياته، وأنّ ما أُلحق به ونُسب إليه لا يتلاءم مع المعروف من حديثه.
وهذا المسلك يفتحُ باباً عظيماً لنقد المتون وما يتفرّع من ذلك من نتائج مهمّة تصلح للتوظيف في البحث حول صحّة نسبة الكتاب، فإنّ كثرة الشذوذ والغرابة تمنع من التّصديق بصحّة النّسبة إلى المحدّثين الثّقات والرّواة المنضبطين في روايتهم.

والشذوذ والغرابة يمكن تصوّرهما على مستويين:
1. الغرابة والشذوذ على المستوى الدلاليّ: وذلك بأن تكون المداليل العامّة في الكتاب منافيةً لأركان الإسلام أو أصول المذهب وضروراته، ومثال ذلك: كتاب «الهفت والأظلّة» المنسوب للإمام الصادق برواية المفضل بن عمر الجعفيّ، ففيه من الغلوّ والتهافت ما يوجب الجزم بكذب نسبة هذه النّسخة إلى الإمام عليه السّلام، وهذا الكتب ليس من تراث الإمامية، وإنّما حاول الغلاة إلصاقه بالتشيّع.
2. الغرابة والشذوذ على المستوى اللفظيّ: وذلك بأن يكون نمطُ الحديث ولحنه اللفظيّ غريباً عن نهج أهل البيت ݜ في البيان، ومثال ذلك: كتاب «مصباح الشريعة» المنسوب للإمام الصادق، حيثُ إنَّ سَبْكَه وطريقته ليست مقاربةً للحن أئمتنا في الحديث أو التّصنيف، وإنما هو أقرب إلى لسان الصوفيّة كما أشار إلى ذلك جملةٌ من الأعلام وحقّقناه مفصّلاً في رسالة بعنوان: «دراسة حول كتاب مصباح الشريعة».
نعم؛ قد لا تمثّل هذه المسألة إشكالاً في تصحيح نسبة بعض الكتب إلى بعض المؤلّفين؛ وذلك لتقاربها مع ميولهم العقديّة -ولو كانت فاسدةً-، ولكنّها تنفع في نقد نسبة بعض الكتب الفاسدة المنسوبة إلى الأئمّة أو ثقات المحدّثين ذوي الاعتقاد الصحيح، فيختلف الأمر بحسب طبيعة المؤلف ومسلكه الحديثيّ والعقائديّ، وبناءً على هذا الأمر لا يمكن أن يستنكر صدور كتابٍ معتبرٍ مثل «عيون أخبار الرّضا» عن الشيخ الصّدوق؛ لانسجامه مع مسلكه الحديثيّ ومبانيه الاعتقاديّة، وكذلك لا يمكن أن يُستغرب صدور كتابٍ تالفٍ مثل «الهداية الكبرى» عن الحسين بن حمدان الخصيبيّ؛ لتطابق طابعه العامّ مع ما ذُكر في حقّ هذا الرّجل من التضعيف والتكذيب وفساد المذهب.

إشكاليّة الدّور
وفي هذا المقام قد تطرح إشكاليّة على هذا المنهج في دراسة نسبة الكتب وحاصلها: إنّ الباحث في مقام إثبات نسبة كتابٍ معيّن يحاول الاستناد إلى جملةٍ من القرائن الفهرستيّة والإسناديّة والمتنيّة، ويستخرج هذه القرائن من كتبٍ أخرى، في حين أنّ هذه الكتب المعتمد عليها قد يلزم البحث عن صحّة نسبتها أيضاً، وهنا نشهد قفزةً غير منطقيّة في الاستدلال، فكيف يصحّ مثلاً أن نبرهن على صحّة نسبة كتاب «الغيبة» للطوسيّ بما ورد في «الفهرست» وغيره، في حين أنّه ينبغي الكلام في صحّة نسبة كتاب «الفهرست» إلى الشّيخ رحمه الله، وعلى هذا المنوال يبقى الباحث يدور في حلقةٍ مفرغةٍ حيث يحاول تصحيح نسبة بعض الكتب بالاعتماد على كتب هي بحاجة إلى إثبات صحّة نسبتها، وليقوم بذلك يلزمه أن يتكلّم في صحّة نسبتها أيضاً، وهكذا يدور الأمر إلى ما لا نهاية مثمرة له.

الجواب على إشكاليّة الدور
إنّ البرهنة على صحّة نسبة الكتب إلى أصحابها لا تواجه هذه الإشكاليّة، ويمكن بيان ذلك من خلال الكلام في جهتين:
الجهة الأولى: إنّ الباحث في صحّة نسبة الكتب ينطلقُ من الثوابت العلميّة، حيث يستند إلى كتبٍ ثابتة النسبة من جهة التواتر أو الشهرة أو قيام القرائن القطعيّة على ثبوتها، ولا شكّ في أنّ جملةً من كتب التراث متّصفةٌ بهذه الصّفة؛ لأنّها كانت مورد حاجة المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين، فإنّ التّاريخ يشهد بأنّ الحركة العلميّة داخل المذهب لم تنقطع، وهذا يعني احتياج العلماء إلى جملة من الكتب طبقةً فطبقة، ما يعني تناقلها يداً بيدٍ مع مرور القرون، مع كثرة استنساخها وتداولها بين أهل العلم، وهذا الأمر كان منشأ لتواترها واشتهارها بين الشّيعة في كافّة الأعصار.
ومن جملة هذه الكتب: الكتب الأربعة، وبعض كتب الفهارس والرّجال ككتاب النجاشيّ وكتابَي الطوسيّ وغيرهما، وما اشتهر في الآفاق من كتب المحدّثين كجملة وافرة من كتب الكلينيّ والصدوق والطوسيّ -رضوان الله عليهم-، وحينئذٍ لا يعاني الاستناد إلى هذه الكتب التي عُلِمت صحّة نسبتها من هذه الإشكالية؛ وذلك لأنّ أصل البناء في استخراج القرائن مؤسَّسٌ على الانطلاق من الثوابت التي أُحرزت صحّتها من خلال الأدلة المورثة لليقين أو الاطمئنان.
وهذا الذي ذكرناه لا ينحصر في الشّيعة الإماميّة، وإنّما يجري في المذاهب الأخرى، فإنّها أيضاً لم تتوقف فيها الحركة العلميّة عند المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين، فثبتت لديهم أيضاً جملة كبيرة من الكتب بالتواتر والشّهرة والقرائن المفيدة للعلم بسبب كثرة تداولها بين أهل العلم.
الجهة الثّانية: إنّ الكتب الروائية والرّجاليّة والتّاريخيّة عند المذاهب الإسلامية تحظى بنوعٍ من «الترابط الشبكيّ»، وذلك أنّ اختلاط المحدثين من مُختلف الفرق والبلدان وتناقلهم الأحاديث فيما بينهم خلق نوعاً من الارتباط والتشابك بين مصّنفاتهم في عملية عشوائيّة غير منظّمة ولا مقصودة، فإذا أعملنا النظر في دراسة الأحاديث بشكل جادّ فسوف نقفُ على قرائن متناثرة في كتب سائر المذاهب كأهل السنّة والزيديّة والإسماعيليّة والنصيريّة وغيرهم، وسوف نذكر بعض الأمثلة التطبيقيّة -إن شاء الله تعالى- في ذيل الجواب.
والأصل في الرّكون إلى هذه النكتة يرجعُ إلى أنّ بناء شبكة مترابطة عشوائيّاً تتألف من آلاف المؤلّفات المتوزعة على مذاهب مختلفة تنتشر في بلادٍ مترامية الأطراف أمرٌ يصعبُ تحققه خارجاً؛ إذ إنّ افتعال آلاف النسخ لآلاف الكتب المختلفة في مذاهب متعددة وبلدان كثيرة لا يمكن القيام به بسهولةٍ لا سيّما مع رقابة العلماء المهتمين بالتراث وتداولهم كثيراً من هذه الكتب يداً بيدٍ.
ويتحصّل مما ذكرناه أنّ هذه الأمارة يمكن أن تساعد بقوّة في تقييم اعتبار النسخ الواصلة إلينا، وذلك من خلال متابعة أحاديث الكتاب في كتب المذاهب الأخرى، وهذه قرينةٌ مهمَّةٌ جداً، وتحتاجُ إلى بذل جهدٍ كبيرٍ لملاحظة كثيرٍ من الجزئيات وتتبّعها.
وفي هذا المقام، نشير إلى جملة من الأمثلة التي تزيد هذه الفكرة وضوحاً وتثري البحث بالفائدة:
المثال الأوّل: روى الشّيخ الصّدوق في كتابه «من لا يحضره الفقيه» عن الصّادق عليه السّلام: (من عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت)[23]، ومن المعلوم أنّ الشيخ الصّدوق قد دخل مدينة بغداد وحدّث فيها[24]، وأنّ الخطيب البغداديّ قد ترجم لكثيرٍ ممّن دخل هذه المدينة ومنهم الشيخ الصّدوق، وفي ترجمته للشيخ قال ما نصّه: (كان من شيوخ الشيعة، ومشهوري الرافضة. حدّثنا عنه محمّد بن طلحة النعاليّ.
أخبرنا محمّد بن طلحة بن محمّد، قال: حدّثنا أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمي إملاءً، قال: حدثني أبي، قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن إسماعيل بن مسلم، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «من عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت»)[25].
ثمّ إنّ محمّد بن طلحة النّعاليّ قد دوّن مسموعاته في جزءٍ حديثيٍّ، ونسخته محفوظةٌ في المكتبة الظّاهريّة، وقد رأيتُ مصوّرةً عنها -وهي من مصوّرات مكتبة المحقّق الطباطبائيّ رحمه الله- وفيها هذا الحديث بإسناده ومتنه، وهذا شاهدٌ على صدق ودقّة ما أورده الخطيب البغداديّ، وشاهدٌ لوجود هذا الحديث ضمن مرويّات الصدوق (رحمه الله).
المثال الثّاني: روى الشيخ الصّدوق رحمه الله في أماليه: (حدّثنا محمّد بن موسى بن المتوكل رحمه الله، قال: حدّثنا محمّد بن يحيى العطار، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن حماد بن عيسى، قال: حدّثنا الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهما السّلام، قال: قال جابر بن عبد الله: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول لعلي بن أبي طالب عليه السّلام قبل موته بثلاثٍ: سلام الله عليك أبا الريحانتين، أوصيك بريحانتي من الدنيا، فعن قليلٍ ينهدُّ ركناك، واللهُ خليفتي عليك. فلما قُبِضَ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال عليٌّ عليه السّلام: هذا أحد ركنيّ الذي قال لي رسول الله صلّى الله عليه وآله. فلمّا ماتت فاطمة عليها السّلام قال علي عليه السّلام: هذا الركن الثاني الذي قال رسول صلّى الله عليه وآله)[26].
ثم رواه في معاني الأخبار بإسنادٍ آخر عن حمّاد بن عيسى وهو: (أبي رحمه الله، قال: حدّثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، قال: حدّثنا محمّد بن يونس، قال: حدّثنا حماد بن عيسى)[27].
يُلاحظ: أنّ الإسناد الأوّل من طريق ابن أبي الخطّاب عن حمّاد بن عيسى، والإسناد الثاني من طريق محمّد بن يونس عن حمّاد، وقد روى بعضُ المحدّثين من العامّة والزيديّة هذا الحديث من الطريق الثاني.
روى أبو بكر القطيعيّ في زياداته على كتاب «فضائل الصّحابة» لابن حنبل: (حدّثنا محمّد بن يونس، قثنا حمّاد بن عيسى الجهنيّ، قثنا جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لعلي بن أبي طالب: «سلام عليك أبا الريحانتين من الدنيا، فعن قليل يذهب ركناك والله خليفتي عليك» ، فلما قبض النبي صلّى الله عليه وآله قال علي: هذا أحد الركنين الذي قال رسول الله صلّى الله عليه وآله، فلما ماتت فاطمة قال: هو الركن الآخر الذي قال رسول الله صلّى الله عليه وآله)[28].
وكذلك رواه ابن الأعرابيّ في معجمه عن محمّد بن يونس عن حمّاد بهذا الإسناد[29].
ورواه -من الزيديّة- أبو طالب الهارونيّ في أماليه، قال: (حدّثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه الله تعالى إملاءً، قال: أخبرنا أبو أحمد محمّد بن جعفر الأنماطي، قال: حدّثنا محمّد بن يونس البساميّ[30]، قال: حدّثنا حماد بن عيسى)[31].
وهذا المثال يبيّن لنا كيفية ورود حديثٍ من جهة واحدة بمتن متقارب جدّاً برواية ثلاثة محدّثين من ثلاثة مذاهب مختلفة.
المثال الثالث: روى الكلينيّ: (محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إنّ عند كلّ بدعةٍ تكون من بعدي يُكاد بها الإيمان وليّاً من أهل بيتي موكّلاً به، يذبُّ عنه، ينطقُ بإلهامٍ من الله، ويُعلن الحقّ وينوّره، ويردُّ كيد الكائدين، يعبِّر عن الضّعفاء، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكّلوا على الله)[32].
وروى أبو طالب الهارونيّ الزّيديّ في أماليه: (أخبرنا أبي، قال: أخبرنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قال: أخبرنا محمّد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن الحسن بن محبوب، عن معاوية بن وهب، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جده، عن عليّ عليه السّلام، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إن عند كل بدعة تكون بعدي يُكاد بها الإيمان ولياً من أهل بيتي موكلاً يذب عنه، يعلن الحقّ وينوره، ويردُّ كيد الكائدين، فاعتبروا يا أولي الأبصار وتوكّلوا على الله»)[33].
المثال الرّابع: روى النّعمانيّ في الغيبة: (أخبرنا أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة الكوفيّ، قال: حدّثنا القاسم بن محمّد بن الحسن بن حازم، قال: حدّثنا عبيس بن هشام النّاشريّ، قال: حدّثنا عبد الله بن جبلة، عن سلام بن أبي عمرة، عن معروف بن خَرَّبُوذ، عن أبي الطّفيل عامر بن واثلة، قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أتحبُّون أن يُكذَّب الله ورسوله؟! حدّثوا النّاس بما يعرفون، وأمسكوا عمّا ينكرون)[34].
وإذا تتبّعنا هذا الحديث بملاحظة هذا السّند نجد أنّه ورد في كتاب سلام بن أبي عمرة -وهو مصنّفات قدماء الشيعة، مطبوعٌ ضمن الأصول الستّة عشر- وقد رواه عن معروف بن خرّبوذ عن أبي الطّفيل عن أمير المؤمنين عليه السّلام[35].
وأمّا من رواية العامّة فقد رواه البخاري عن عبيد الله بن موسى عن معروف بن خَرّبوذ عن أبي الطفيل عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، ولفظه: (حدِّثوا النّاس بما يعرفون، أتحبُّون أن يُكذَّب الله ورسوله؟!)[36].
وروى الخطيب البغداديّ: (أنا أبو نعيم الحافظ، نا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن علي الأزدي الكوفيّ، نا أحمد بن حازم بن أبي غرزة، نا عبيد الله -يعني ابن موسى-، عن معروف بن خَرَّبوذ، عن أبي الطفيل، قال: سمعت عليّاً يقول: «أيّها النّاس، تحبُّون أن يُكذَّب الله ورسوله؟! حدِّثوا النَّاس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون»)[37].
أقول: وهناك مقدار كبير جدّاً من هذه النّماذج التي تشير إلى مثل هذا التطابق، وهي مبثوثةٌ بكثرة في كتب التراث الإسلاميّ، فإنّها تشمل رواية أصحابنا عن كتب العامّة والزيديّة، وروايتهم لأحاديثنا في كتبهم، وقد أوردتُ كثيراً مما وقفت عليه في مسوّدة كتاب «المستخرج من أحاديث الإماميّة في التراث الإسلامي».
المثال الخامس: في هذا النموذج نتطرّق إلى مسألة التّطابق الفهرستيّ بين روايات المذاهب الإسلاميّة، فقد يذكر أصحاب الفهارس من أصحابنا الإماميّة أسانيدهم إلى بعض الكتب، وينعكس هذا على أحاديث وفهارس غيرهم، ومن النماذج لذلك ما قاله الشيخ النجاشيّ: (موسى بن إبراهيم المروزي، أبو حمران [ظ:عمران] روى عن موسى بن جعفر عليه السّلام. له كتاب ذكر أنه سمعه وأبو الحسن عليه السّلام محبوس عند السندي بن شاهك، وهو معلم ولد السندي بن شاهك.
أخبرنا الحسين بن عبيد الله، قال: حدّثنا إسماعيل بن يحيى بن أحمد العبسيّ، قال: حدّثنا محمّد بن أحمد بن أبي سهل الحربي أبو الحسين، قال: حدّثنا محمّد بن خلف بن عبد السلام أبو عبد الله يوم الجمعة بعد الصلاة لستٍّ بقين من المحرم سنة ثمان وسبعين ومائتين في جامع المدينة، قال: حدّثنا موسى بن إبراهيم بالكتاب)[38]، وقال الشيخ الطوسيّ: (موسى بن إبراهيم المروزيّ. له روايات يرويها عن موسى بن جعفر عليهما السلام. أخبرنا بها أحمد بن عبدون، عن أبي بكر الدوريّ، عن أبي الحسن محمّد بن أحمد الجرمي[39]، قال: حدّثنا محمّد بن خلف بن عبد السلام، قال: حدّثنا موسى بن إبراهيم المروزي، قال: حدّثنا موسى بن جعفر عليهما السّلام)[40].
وهذا الكتاب قد رواه بعض حفّاظ العامّة، وله نسخةٌ يتيمةٌ في المكتبة الظاهريّة بعنوان (جزءٌ فيه مسند موسى بن جعفر) وهو برواية محمّد بن خلف بن عبد السّلام المروزيّ عن موسى بن إبراهيم المروزيّ.
كما أنّ بعضهم قد ذكره في إجازاته، ومنهم: الحافظ عمر بن علي بن عمر القزوينيّ (ت:750هـ) في مشيخته، قال: (وكتاب فيه مسند الإمام الكاظم موسى بن جعفرٍ الصادق بن محمّد الباقر بن زين العابدين علي ابن الشهيد الحسين ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ، رضي الله عنهم أجمعين، عن أبيه، عن جده. رواية أبي بكر محمّد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، عن أبي عبد الله محمّد بن خلف بن إبراهيم بن عبد السلام المروزي، عن موسى بن إبراهيم، عن موسى بن جعفرٍ، عن أبيه، عن جده، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله)، ثمّ ذكر طرقه إليه وهي تنتهي إلى رواية محمّد بن خلف المروزيّ عن موسى بن إبراهيم المروزيّ عن الإمام الكاظم عليه السّلام [41].
وقد روى عن هذه النسخة من طريق المروزيَّيْنِ كلٌّ من:
1- اللالكائيّ (ت: 418هـ) في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)[42].
2- الشهاب القضاعيّ (ت: 454هـ) في مسنده[43].
3- الخطيب البغداديّ (ت:463هـ) في (تاريخ بغداد)[44].
4- ابن عساكر (ت: 571هـ) في (تاريخ دمشق)[45].
ومن الجدير بالذّكر أنّ كتب الفهارس والرّجال والتّراجم غنيّة بكثيرٍ من المعلومات حول الرواة ومصنّفاتهم ورحلاتهم وسيرتهم ووفياتهم، وإذا تمّ التدقيق في دراسة أيّ متنٍ من هذه المتون فسوف نجدُ مقداراً كبيراً من التطابق مع مصنّفاتٍ كثيرةٍ في التراث الإسلاميّ، وهذا ينبئ عن الدّقة والضّبط والإتقان، ويؤكّد ما أشرنا إليه من أنّ التراث الإسلاميّ يشهد حالة من الترابط الشبكيّ بين أجزائه المختلفة على المستوى الجغرافي والمذهبيّ، وهو ما يجعل الحكم باختلاق هذه الكتب المترابطة عشوائياً شيئاً أقرب إلى المجازفة والعبث.
ومن آثار ملاحظة هذه الأمارة أنّ الكتابَ الذي يتّسم بالشّذوذ عن سائر التراث المحيط سواءً بلحاظ المذهب أو بلحاظ مجموع التراث الإسلاميّ سيفتقرُ إلى كثيرٍ من الشواهد المعزّزة للنسبة، وهو ما سيسبّب ضعفاً في دلائل إثبات نسبته.
أقول: ما تقدّم ذكره آنفاً هو مقايسة بين روايات بعض المحدّثين من مذاهب مختلفة، وقد أُخذت ملاحظةُ السّند والمتن بعين الاعتبار، أمّا لو قمنا بالمقارنة مقتصرين على ملاحظة المتن دون اعتبار وحدة الإسناد عند طرفي المقارنة فإنّ ما رواه المحدّثون من أصحابنا الإماميّة قد ثبتت ألفاظه أو مضامينه من طرق أخرى عند غيرهم من أصحاب المذاهب الأخرى، وقد نقلوا ذلك في مصنّفاتهم المعتبرة، وهنا نذكر بعض الأمثلة:
المثال الأوّل: روى الحميريّ في «قرب الإسناد»: (محمّد بن عيسى والحسن بن ظريف وعليّ بن إسماعيل كلُّهم عن حمّاد بن عيسى البصريّ الجهنيّ، قال: سألتُ أبا عبد الله جعفر بن محمّد -وليس معه إلّا غلامه- قلت: جُعلت فداك، خبّرني عن العبد كم يتزوّج؟ قال: «قال أبي: قال عليٌّ عليه السّلام: لا يزيد على امرأتين»)[46]، وهذا الحديث مأخوذٌ من كتاب حمّاد بن عيسى الجهنيّ رحمه الله، وقد روى العامّة عن الصّادق عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام ما يطابق هذا الحديث، فقد روى عبد الرزاق الصنعانيّ: (عن ابن جريج والثوري، قالا: أخبرنا جعفر بن محمّد، عن أبيه أنّ عليّاً قال: «ينكح العبد اثنتين»)[47].
المثال الثاني: روى الحميريّ في «قرب الإسناد» عن حمّاد بن عيسى: (سمعت أبا عبد الله يقول: قال أبي: قال عليٌّ عليه السّلام: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله لصلاة الصبح وبلال يقيم، وإذا عبد الله بن القشب يصلي ركعتي الفجر، فقال له النبي صلى الله عليه وآله: يا ابن القشب، أتصلّي الصبح أربعاً؟! قال ذلك له مرّتين أو ثلاثة)[48]. وهذا الحديث مأخوذٌ من كتاب حمّاد بن عيسى الجهنيّ أيضاً، وروى العامّة عن الصّادق عن الباقر عليهما السّلام مثله، فقد روى أبو بكر بن أبي شيبة: (حدّثنا حفص، عن جعفر، عن أبيه، قال: دخل النبي صلّى الله عليه وآله المسجد وأخذ بلال في الإقامة، فقام ابن بُحينة يصلي ركعتين، فضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم منكبه، وقال: «يا ابن القشب، تصلي الصبح أربعاً؟!»)[49].
المثال الثّالث: روى الكلينيّ في «الكافي»: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول: حدّثني أبي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قضى بشاهد ويمين)[50]، وهذا الحديث مأخوذٌ أيضاً من كتابٍ لحمّاد بن عيسى، وقد روى العامّة عن الصّادق عليه السّلام مثله، فقد روى أبو بكر بن أبي شيبة: (حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بشهادة شاهدٍ ويمين. قال: وقضى به عليٌّ رضي الله عنه بين أظهركم)[51].
المثال الرّابع: روى الكلينيّ في «الكافي»: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله عليه السّلام، قال: سمعتُه يقول: قال أبي: ما زوّج رسول الله صلّى الله عليه وآله سائر بناته ولا تزوّج شيئاً من نسائه على أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش، الأوقية أربعون والنشّ عشرون درهماً)[52]، وهذا الحديث مأخوذٌ أيضاً من كتابٍ لحمّاد بن عيسى، وقد روى حفّاظ أهل السنة هذا الحديث بأسانيدهم عن عائشة بنت أبي بكر، ومنهم: إسحاق بن راهويه في مسنده، قال: (أخبرنا عبد العزيز بن محمّد، أخبرني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، حدّثنا محمّد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، قال: سألت عائشة كم كان صداق نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: «اثنتا عشرة أوقية ونش» ثم قالت: أتدري كم النشّ؟ فقلت: لا، فقالت: نصف أوقية، وذلك خمسمائة درهم)[53]، ورواه أبو داود السجستانيّ في سننه[54]، وأبو عوانة في مستخرجه[55].
المثال الخامس: روى الكلينيّ: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد، قال: سألتُ أبا عبد الله عليه السّلام عن الحيتان التي يصيدها المجوسي فقال: إنّ عليّاً عليه السّلام كان يقول: الحيتان والجراد ذكيٌّ)[56].
وقد روى العامّة هذا عن جعفر بن محمّد الصّادق عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد روى عبد الرزّاق الصنعانيّ: (أخبرنا الثوريّ، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن عليٍّ، قال: الحيتان والجراد ذكيٌّ كلُّه)[57].
وروى أيضاً: (عن ابن عيينة، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، قال: في ‌كتاب ‌عليٍّ: الجرادُ والحيتان ‌ذكيٌّ)[58].
فهذه المتون المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام قد دوّنها ورواها قدماء الشيعة في القرون الأولى، ورواها حُفّاظ أهل السنّة من طرقهم الخاصّة بهم عن أئمّتنا -صلوات الله عليهم- بدرجة تطابق كبيرة جداً، مع كون المحدثين الناقلين لهذه الأخبار من مذاهب مختلفة ومسالك متنافرة وبلدان متباعدة، وهذا ما يوجب استبعاد دعوى إمكانية اختلاق هذه المصنّفات المترابطة بشكل معقد وواسع وخفاء ذلك على كثير من العلماء من كافّة المذاهب الإسلاميّة.

رابعاً: الأمارات المتعلّقة بالنُّسخ.
الأمارة الأولى: أن تكون النّسخة قد حظيت بعناية علمائيَّة، كأن تكون قديمة ومتداولة بينهم وقد دُوِّنَتْ عَليْها مقابلات وإنهاءات بعض العلماء المعتنين بهذا العلم.
الأمارة الثانية: وصول نسخ قديمة جدّاً تعود إلى قرونٍ متقدّمةٍ.
الأمارة الثالثة: تكثّر نسخ الكتاب، والأفضل في ذلك أن يكون منشأ التعدد عن نسخ متفرقة لا ترجع إلى أصلٍ واحدٍ في زمن بعيدٍ ومتأخرٍ، وهذا قد يساهم في إثبات شهرة الكتاب.
الأمارة الرابعة: تطابق المنقول عن الكتاب في القرون السّابقة مع ما في النسخ الواصلة، ويرتفع احتمال الصّدق كلّما زادت النقول عن الكتاب من مذاهب شتّى وقرون مختلفة؛ ليثبت بذلك انتشار الكتاب وتداوله قرناً بعد آخر.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رجال النجاشي، ص97، رقم الترجمة 241.
[2] رجال النجاشيّ، ص377، رقم الترجمة 1026. وذكر الطوسيّ نحوه، انظر: الفهرست، ص73، رقم الترجمة 92.
[3] رجال النجاشيّ، ص126، رقم الترجمة 327.
[4] رجال النجاشيّ، ص377، رقم الترجمة 300.
[5] رجال النجاشيّ، ص129، رقم الترجمة 332.
[6] رجال النجاشيّ، ص258، رقم الترجمة 676.
[7] الفهرست، ص201، رقم الترجمة 299-300.
[8] رجال ابن الغضائريّ، ص62، رقم الترجمة 53.
[9] رجال ابن الغضائريّ، ص87، رقم الترجمة 117.
[10] رجال ابن الغضائريّ، ص93، رقم الترجمة 133.
[11] رجال النجاشيّ، ص219-220، رقم الترجمة 573.
[12] الفهرست، ص294، رقم الترجمة 440.
[13] من لا يحضره الفقيه، ج1، ص215.
[14] من لا يحضره الفقيه، ج4، ص180.
[15] من لا يحضره الفقيه، ج2، ص92.
[16] من لا يحضره الفقيه، ج2، ص94.
[17] من لا يحضره الفقيه، ج2، ص100.
[18] رجال النجاشيّ، ص3.
[19] انظر: أصول علم الرّجال بين النظريّة والتطبيق، ص164-165/كلّيات في علم الرجال، ص313-316/ أطيب المقال في بيان كلّيات علم الرّجال، ص100-103.
[20] قد ورد في بعض الروايات أنّ من ديدن هذين الراويين الاجتنابُ عن الرواية في أخذ علم الدّين عن العامّة وأضرابهم، ومن ذلك ما رواه الكشيّ: (علي بن محمد القتيبيّ، قال: قال أبو محمّد الفضل بن شاذان: سأل أبي رضي الله عنه محمد بن أبي عمير فقال له: إنّك قد لقيت مشايخ العامّة، فكيف لم تسمع منهم؟ فقال: قد سمعتُ منهم، غير أنِّي رأيت كثيراً من أصحابنا قد سمعوا علم العامّة وعلم الخاصّة فاختلط عليهم، حتّى كانوا يروون حديث العامّة عن الخاصّة وحديث الخاصّة عن العامّة، فكرهتُ أن يختلط عليَّ، فتركتُ ذلك وأقبلتُ على هذا)، انظر: اختيار معرفة الرجال، ص629، رقم الحديث 1105. وروى بإسناده عن صفوان: (كان يجلس حمران مع أصحابه فلا يزال معهم في الرواية عن آل محمد عليهم السّلام فإن خلطوا في ذلك بغيره ردَّهُم إليه، فإنْ صنعوا ذلك عدل ثلاث مرات قام عنهم وتركهم)، انظر: اختيار معرفة الرجال، ص253-254، رقم الحديث 310. ومن هنا يُعلم أن دراسة خصوصيات الرواة والمؤلفين قد تكون دخيلةً في تمييز النسبة والتحقيق فيها.
[21] رواية ابن قولويه عن سعد بن عبد الله نادرةٌ جدّاً، وقد نقل النجاشيّ عنه أنه قال: (ما سمعتُ من سعدٍ إلّا أربعة أحاديث)، انظر: رجال النجاشي، ص123، رقم الترجمة 318. وقال النّجاشيّ في موضعٍ آخر: (قال الحسين بن عبيد الله رحمه الله: جئتُ بالمنتخبات إلى أبي القاسم بن قولويه رحمه الله أقرؤها عليها، فقلتُ: حدَّثَك سعد؟ فقال: لا، بل حدّثني عنه أبي وأخي عنه، وأنا لم أسمع من سعدٍ إلّا حديثين)، انظر: رجال النجاشيّ، ص178، رقم الترجمة 467. وقد انعكس هذا على تراث ابن قولويه في الكتب المعتبرة؛ إذ قلّما نجد له رواية عن سعد الأشعريّ.
[22] رجال ابن الغضائريّ، ص93، رقم الترجمة 133.
[23] من لا يحضره الفقيه، ج1، ص139، رقم الحديث 382.
[24] قال النجاشيّ في ترجمة الصدوق: (وكان ورد بغداد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة)، انظر: رجال النجاشي، ص389، رقم الترجمة 1049.
[25] تاريخ بغداد، ج4، ص150، رقم الترجمة 1342.
[26] الأمالي، ص198، رقم الحديث 210، المجلس 28، ح4.
[27] معاني الأخبار، ص524-525، باب نوادر المعاني، ح69.
[28] فضائل الصحابة، ج2، ص773، رقم الحديث 1067.
[29] المعجم، ج1، ص241-242، رقم الحديث 444.
[30] كذا ضُبط في المطبوع، وفي رواية أبي نعيم الأصفهانيّ: (الشّاميّ)، وقد عرّفه الحافظ الذهبيّ بقوله: (محمد بن يونس بن موسى القرشي السامي الكديميّ البصريّ) وطعن عليه وأورد هذا الخبر من كتاب أبي نعيم الأصفهانيّ بإسناده عن حمّاد بن عيسى، انظر: ميزان الاعتدال،ج4، ص74-76، رقم الترجمة 8353.
[31] تيسير المطالب في أمالي أبي طالب، ص138، رقم الحديث 105.
[32] الكافي، ج1، ص136-137، رقم الحديث 165، كتاب فضل العلم، باب البدع والرأي والمقاييس، ح5.
[33] تيسير المطالب في أمالي أبي طالب، ص178، رقم الحديث 128.
[34] الغيبة، ص33-34، الباب الأوّل: ما روي في صون سرّ آل محمّد عليهم السّلام عمّن ليس من أهله والنّهي عن إذاعته لهم وإطلاعهم، ح1.
[35] الأصول الستة عشر، ص331-332، رقم الحديث 549، كتاب سلام بن أبي عمرة، ح2.
[36] صحيح البخاري، ج1، ص227، رقم الحديث 131، كتاب العلم، باب [49]: من خصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا.
[37] الجامع لأخلاق الرّاوي وآداب السّامع، ج2، ص108، رقم الحديث 1318.
[38] رجال النجاشي، ص407-408، رقم الترجمة 1082.
[39] كذا في فهرست الشّيخ، ويحتمل أن يكون هو الرّاوي عن محمد بن خلف الوارد في سند النجاشي، فيكون الصحيح: (أبي الحسين محمّد بن أحمد الحربيّ)، وقد ضبطت في بعض نسخ الفهرست: (الحربيّ).
[40] الفهرست، ص454-455، رقم الترجمة 722.
[41] مشيخة القزويني، ص231-233، رقم الكتاب 73.
[42] شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، المجلّد الأوّل، ص118، رقم الحديث 203.
[43] مسند الشهاب، ج1، ص75، رقم الحديث 68.
[44] تاريخ بغداد، ج6، ص566-567، رقم الترجمة 3041/تاريخ بغداد، ج15، ص28-29، رقم الترجمة 6947.
[45] تاريخ دمشق، ج59، ص194.
[46] قرب الإسناد، ص15، رقم الحديث 48.
[47] المصنف، ج6، ص194، رقم الحديث 13923.
[48] قرب الإسناد، ص18، رقم الحديث 59.
[49] المصنف، ج4، ص395-396، رقم الحديث 6491.
[50] الكافي، ج14، ص577، رقم الحديث 14503، كتاب الشّهادات، باب شهادة الواحد ويمين المُدّعي، ح2.
[51] المصنّف، ج11، ص610، رقم الحديث 23451.
[52] الكافي، ج10، ص707-708، رقم الحديث 9627، كتاب النّكاح، باب السُّنّة في المهور، ح5.
[53] مسند إسحاق بن راهويه، ج1، ص574، رقم الحديث 1075.
[54] سنن أبي داود، ج4، ص139، رقم الحديث 2094.
[55] مستخرج أبي عوانة، ج11، ص289، رقم الحديث 4583.
[56] الكافي، ج12، ص125-126، رقم الحديث 11325، كتاب الصّيد، باب السّمك، ح6.
[57] المصنف، ج4، ص250، رقم الحديث 8828.
[58] المصنّف، ج5، ص224، رقم الحديث 9040.