مشاركة مميزة

فهرس مقالات مدوّنة مصباح الهداية

الاثنين، 12 يونيو 2023

دراسة حول حديث الخيط

بسم الله الرّحمن الرحيم
دراسة حول حديث الخيط

الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد الأنبياء والمرسلين، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، واللّعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين، أما بعد:

لا يخفى على من تأمّل في أحاديث الشّيعة الإماميّة في الكتب المعتبرة ما ورد في شأن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام من الفضائل الجليّة والمقامات العليّة، ومن يسرّح نظره في كتاب «بصائر الدّرجات» للشّيخ الثّقة الجليل محمّد بن الحسن الصفّار وكتاب الحجّة من كتاب «الكافي» لثقة الإسلام محمّد بن يعقوب الكلينيّ سوف يقف على مقدارٍ كبيرٍ من الآثار المعتبرة التي تمثّل مذهب الإماميّة في هذه المسألة، فمن أراد أن يعبِّر عن مسلكهم لزمه أن يعرضه من خلال أحاديثهم وكتبهم المعتبرة.
وهناك أمرٌ آخر في غاية الأهميّة وهو أنّ هذه الكتب وأمثالها بما تضمّنته من أخبارٍ معتبرة تبيّن بمجموعها لساناً صريحاً في تبيين الفضائل والمقامات، وبذلك يمكن جعلها معياراً -لما تتّسم به من الضّبط والخلوّ من الشّذوذ والنّكارة والاضطراب- يمكن من خلاله تمييز الأحاديث المشكوكة التي لا تنسجم معها وتنفرد بعباراتٍ غريبةٍ واصطلاحات جديدةٍ غير معهودة في أصول أصحاب الأئمّة الثّقات.
ولذا في مقام بيان العقائد الحقّة وتبليغها يجب الاستناد إلى هذه الكتب المعتبرة والاجتناب عمّا رُوي في كتب المتّهمين والمخلّطين الذين لا ينبغي ائتمانهم على الدِّين ولا أخذه عنهم؛ فإنّ فيما رواه كبار المحدّثين ما يكفي لبيان مقامات أهل البيت عليهم السّلام.
وقد طرأت في الآونة الأخيرة حالةٌ من تداول بعض روايات الفضائل أو المعاجز، وهذه الرّوايات لا أثر لها في الكتب المعتبرة -فضلاً عن ابتلائها بكثيرٍ من جهات الضّعف-، وإنّما رُويت من طرق المتّهمين بالتّخليط والمشكوك في أمرهم من جهة الوثاقة والدّيانة، وهذا الأمر لا يعبّر عن حالةٍ سليمةٍ، وإنّما يشير إلى اختلالٍ في المنهج الذي يُعرض التشيّع من خلاله، فإنّ ما يقتضيه المنهج العلميّ هو عرض التشيّع من خلال كتبه المعتبرة، وبيان عقائده عبر المصادر الموثوقة التي نصّ كبار المحدّثين والفقهاء على اعتبارها وصحّة الاعتماد عليها.
ومن جملة هذه الأخبار التي رُوِّج لها واستُدلَّ بها حديثٌ يُعرَف بـ«حديث الخيط»، وهو حديثٌ في أعلى درجات الضّعف، وتظهر عليه أمارات الوضع، بل هو ممّا جعله الغلاة المخلّطون في كتبهم، وتناقله بعض أهل العلم من دون بيان لحقيقته، وبعضهم قد استدلّ به وغلا في شأنه، وسوف نبيّن حقيقة الحال في عدّة أمور إن شاء الله تعالى.

الأمر الأوّل: مصادر حديث الخيط
رُوي حديث الخيط في عدّة مصادر، فقد رواه كلّ من:
1- الحسين بن حمدان الخصيبيّ في كتابه «الهداية الكبرى» في الباب الخاصّ بسيرة الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام[1].
2- الشيخ الحسين بن عبد الوهاب في كتابه «عيون المعجزات»[2]، ولم يروِه بتمامه، بل اختصره متعمّداً.
3- السيّد محمّد بن عليّ العلويّ في كتاب «المناقب» الذي ينقل عنه المجلسيّ بعنوان: «كتاب عتيق»[3].
4- صاحب كتاب «نوادر المعجزات» المنسوب إلى المسمّى بـ«محمّد بن جرير الطبريّ الصّغير»[4].
5- الشيخ ابن شهرآشوب في كتابه «مناقب آل أبي طالب»، وقد رواه مختصراً[5].

الأمر الثّاني: نظرة في تقييم مصادر الحديث
إنّ المصادر التي نقلت حديث الخيط غير معتبرةٍ، فهي بين مطعونٍ في مؤلِّفها أو لا يُعرَف من هو مؤلّفها أو مدى وثاقته. نعم؛ كتاب «مناقب آل أبي طالب» للشيخ ابن شهرآشوب من الكتب الجيّدة في بابها، ومؤلّفه عالِمٌ جليلٌ ثقةٌ، ولكنّه ينقل عمّن تقدّمه من أصحاب الكتب، ولم يذكر مصدر الحديث الذي نقل منه خلافاً لعادته في مواضع كثيرة، كما أنّه أورد الحديث ملخَّصاً مختصراً، ولا يبعد أن يكون ناظراً إلى إحدى هذه المصادر المتقدّمة، ومن هنا لا نعرف المصدر الذي استند إليه في تلخيص الحديث.
وأمّا سائر المصادر: فإنّ الحسين بن حمدان الخصيبي مطعون عليه بفساد المذهب والكذب والتّخليط[6]، وكتابه المذكور في غاية الفساد والرداءة، وهو شاهدُ صدقٍ على ما قاله ابن الغضائريّ بحقّه: (فاسد المذهب، صاحبُ مقالةٍ ملعونةٍ)[7].
وأمّا الشيخ الحسين بن عبد الوهاب والسيّد محمّد بن عليّ العلويّ فمُهملان لم يُذكرا في كتب الرّجال والتّراجم عند المتقدّمين، ولم ينصّوا على وثاقتهما[8]، بل إنّ الظاهر من كتابيهما أنّه لا يجوز الاعتماد عليهما؛ فإنّهما ينقلان أحاديث عديدة مشوبة بألفاظ الغلاة واصطلاحاتهم الخاصّة ومبانيهم الاعتقاديّة ممّا لا أثر له في الكتب المعتبرة عند كبار المحدّثين[9]، وهو ما يؤكّد الارتياب تجاه مصادرهم عند تأليف كتابيهما.
وأمّا «نوادر المعجزات» فإنّه يُنسب إلى محمّد بن جرير الطبريّ الصغير وهو غير معروفٍ أيضاً، فعلى فرض صدق نسبة الكتاب إليه فإنّه لم يُنصّ على وثاقته، وعلى فرض عدم صدق هذه النّسبة -وهذا هو الرّاجح- فإنّ مؤلِّف الكتاب غير معروفٍ.
والحاصل ممّا تقدّم: إنّنا لا نعرف أصلاً معتبراً لهذا الحديث.

الأمر الثّالث: دراسة الأسانيد.
إسناد الخصيبيّ في «الهداية الكبرى»: (حدّثني محمّد بن عليّ القميّ، قال: حدّثني محمّد بن أحمد بن عيسى، عن محمّد بن جعفر البرسيّ، قال: حدّثني إبراهيم بن محمّد الموصليّ، عن أبيه، عن حنان بن سدير الصّيرفيّ، عن جابر بن يزيد الجُعفيّ).
وهذا إسناد أكثر رجاله مجاهيل، وهم: محمّد بن عليّ القميّ، ومحمّد بن أحمد بن عيسى، ومحمّد بن جعفر البرسيّ، وإبراهيم بن محمّد الموصليّ، وأبوه.
وقال الحسين بن عبد الوهّاب: (رواه لي الشّيخ أبو محمّد بن الحسن بن محمّد بن نصر رضي الله عنه يرفع الحديث برجاله إلى محمّد بن جعفر البرسيّ مرفوعاً إلى جابرٍرضي الله عنه).
وضعفه بالإرسال ظاهرٌ، مضافاً إلى جهالة الشّيخ أبو محمد بن الحسن بن محمّد بن نصر ومحمّد بن جعفر البرسيّ.
وقال السيّد محمّد بن عليّ العلويّ: (حدّثني أحمد بن عبد الله، قال: حدّثنا سليمان بن أحمد، قال: حدّثنا محمّد بن جعفر، قال: حدّثنا إبراهيم بن محمّد الموصليّ، قال: أخبرنيّ أبي، عن خالد القميّ، عن جابر بن يزيد الجعفيّ.
وقال: حدّثنا أبو سليمان أحمد، قال: حدّثنا محمّد بن سعيد، عن سهل بن زياد، قال: حدّثنا محمّد بن سنان، عن جابر بن يزيد الجعفيّ).
والإسناد الأوّل كلّه مجاهيل خلا جابر بن يزيد الجعفيّ، والإسناد الثّاني ضعيف بجهالة أبي سليمان -والظّاهر أنّه هو سليمان بن أحمد في السّند السّابق وقد صُحِّف- ومحمّد بن سعيد.
والجدير بالذّكر أنّ رواية محمّد بن سنان عن جابر بن يزيد مرسلة، فإنّ محمّداً قد مات سنة 220 هجريّة[10]، فلو عاش 85 عاماً لكانت ولادته سنة 135 هجريّة، في حين أنّ جابر بن يزيد الجعفيّ قد مات سنة 128 هجريّة، وقيل: سنة 132 هجريّة[11].
وقال صاحب «نوادر المعجزات»: (روى الشّيخ أبو محمّد الحسن بن محمّد بن نصر يرفع الحديث برجاله إلى محمّد بن جعفر البرسيّ، عن إبراهيم بن محمّد الموصليّ، عن جابر الجعفيّ)، وضعفه بالإرسال ظاهر، فضلاً عن جهالة المذكورين في السّند خلا جابر رحمه الله.
وأمّا رواية ابن شهرآشوب فهي مرسلة عن جابر بن يزيد الجعفيّ.
ومن غرائب هذه الأسانيد كلّها دعوى رواية جابر بن يزيد الجعفيّ عن الإمام زين العابدين عليه السّلام؛ فإنّ كلّ من ترجم لجابرٍ قد ذكر لقياه للباقر والصّادق عليهما السّلام، ولم يذكروا ملاقاته لزين العابدين عليه السّلام أو سماعه منه، كما أنّنا لم نجد في تراث الإماميّة أو كتب الحديث عند العامّة ما يفيد ذلك، بل قد رُوي ما يُعارض ذلك -وسيأتي ذكره-.
نعم؛ استُدِلّ لرواية جابر عنه عليه السّلام بما رواه الكلينيّ: (عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن عمرو بن شمر، عن جابر، قال: قال عليُّ بن الحسين عليه السّلام: ما ندري كيف نصنع بالنّاس، إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول الله صلّى الله عليه وآله ضحكوا، وإن سكتنا لم يسعنا..إلخ)[12]، ومع غضّ النّظر عن ضعف إسناده، فإنّه -كما ترى- غير دالٍّ على الاتّصال والسّماع، بل من المحتمل أن يكون قد أخذه عن الباقر عليه السّلام أو أرسله عن غيره، ويقوّي الاحتمال الأوّل ما رواه الكلينيّ عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن أبي جميلة، عن جابرٍ، عن أبي جعفرٍ عليه السّلام، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله[13]. وذكر نحو الرّواية المتقدّمة عن الإمام زين العابدين عليه السّلام.
وقد روى ابن أبي الدّنيا نحو هذه الرّواية مع اختلافٍ وتفاوتٍ بهذا الإسناد: (حدّثني عبد الله بن محمّد بن يحيى الرازيّ، حدّثني أبي، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن [أبي] جعفرٍ، عن جابر بن عبد الله)[14]، ونقل السّيوطي عن ابن أبي الدّنيا نحو هذا الحديث مع اختلافٍ في لفظه، قال: (ويؤيد ما ذكرناه أن هذه الأمور إذا صدرت من التابعين تحمل على الرّفع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- ما أخرجه ابن أبي الدنيا بسنده عن أبي جعفر محمد بن عليٍّ، قال: كان عليُّ بن حسين يذكر..إلخ) وذكر في ذيل الرّوايةِ القصّةَ الواردة في رواية الكلينيّ من حديث الإمام مع ضمرة بن معبد[15]، وهذا يؤيّد احتمال كون رواية جابر بن يزيد الجعفيّ عن الإمام زين العابدين عليه السّلام بواسطة الإمام الباقر عليه السّلام.
ويعارض دعوى اللّقاء بالإمام زين العابدين عليه السّلام وأخذه عنه ما رواه الكشيّ بإسنادٍ ضعيفٍ: (جبرئيل بن أحمد، حدّثني الشجاعيّ، عن محمّد بن الحسين، عن أحمد بن النّضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، قال: دخلت على أبي جعفر عليه السّلام وأنا شابٌّ فقال: من أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: ممّن؟ قلت: من جُعفيّ. قال: ما أقدمك إلى هاهنا؟ قلت: طلب العلم. قال: ممن؟ قلت: منك. قال: فإذا سألك أحدٌ من أين أنت فقل: من أهل المدينة. قال: قلت: أسألك قبل كلِّ شيءٍ عن هذا، أيحلُّ لي أن أكذب؟ قال: ليس هذا بكذبٍ، مَنْ كان في المدينة فهو من أهلها حتّى يخرج...)[16]، وهذه الرّواية تتنافى مع أخذ جابر العلم عن زين العابدين عليه السّلام؛ إذ لو كان من رواته وخصيصاً به -كما هو الظّاهر من حديث الخيط- لعرفه الإمام الباقر عليه السّلام. كما أنّ حديث الخيط ينصّ على معرفة الباقر عليه السّلام بجابرٍ في زمان أبيه، في حين أنّ هذه الرّواية تنافيها؛ إذ تبيّن أنّ تعرّفه عليه كان في زمان إمامته.
والحاصل ممّا تقدّم: إنّ الرواية تعاني من إشكالٍ تاريخيّ وهو عدم تناسبها مع تاريخ جابر بن يزيد الجعفيّ وما هو معلومٌ من عدم لقياه للإمام زين العابدين عليه السّلام وسماعه منه، وقد انفردت بخلافه.

الأمر الرّابع: قراءة نقديّة في متن الحديث
وفضلاً عن ضعف الإسناد وغرابته، فإنّ متن حديث الخيط يعاني من إشكالاتٍ عديدةٍ، وحيث إنّ نسخ الحديث متفاوتةٌ بين المصادر النّاقلة له، فينبغي البيان بأنّ بعض الفقرات المشكلة انفردت بها بعض المصادر، كما أنّ بعضها محلّ اتّفاقٍ بينها، وسنشير إلى هذا الأمر في كلّ موردٍ إن شاء الله تعالى.
الإشكال الأوّل: ما ورد في الرّواية على لسان جابر بن يزيد: (لمّا [أفضت][17] الخلافة إلى بني أميّة، سفكوا في أيّامهم الدّم الحرام، ولعنوا أمير المؤمنين -صلوات الله عليه- على منابرهم ألف شهرٍ..).
وهذه العبارة وردت في رواية «عيون المعجزات»، ونسخة المجلسيّ من الكتاب العتيق[18]، ولم ترد في غيرها من المصادر، وهي لا تتلاءم مع وقائع التّاريخ؛ فإنّ الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام قد مات سنة 95 هجريّة كما نصّ عليه الكلينيّ[19]، والمفيد[20]، والطوسيّ[21]، والطبرسيّ[22]، ولم تكن دولة بني أميّة قد امتدّ بها الزّمان إلى ألف شهر، حيث إنّ دولتهم سقطت سنة 132 هجريّة.
الإشكال الثّاني: ما ورد في الرّواية على لسان جابر بن يزيد في وصف حالة الزّلزال الذي أصاب المدينة المنوّرة بعد أن حرّك الباقر عليه السّلام الخيط تحريكاً خفيفاً، قال -واللّفظ لرواية الخصيبيّ-: (فخرجت من المسجد وإذا بصياحٍ وولولةٍ من كلّ ناحيةٍ، وإذا زلزلة شديدة وهزّة ورجفة قد أخربت عامّة دور المدينة، وهلك تحتها أكثر من ثلاثين ألف رجل وامرأة وصبيّاً، وإذا بالخلق باكين يخرجون من السّكك..).
وفي رواية «عيون المعجزات»: (فخرجتُ من المسجد وإذا النّاس في صياحٍ واحدٍ والصّائحة من كلّ جانبٍ، فإذا بالمدينة قد زُلزِلت زلزلةً شديدةً، وأخذتهم الرّجفة والهدمة، وقد خُرِّبت أكثر دور المدينة، وهلك منها أكثر من ثلاثين ألفاً رجالاً ونساءً دون الولدان).
وفي رواية «المناقب»: (فخرجت من المسجد وإذا صياحٌ وولولةٌ من كلّ ناحيةٍ وزاويةٍ، وإذا زلزلة وهدّة ورجفة، وإذا الهدّةُ قد أخربت عامّة دور المدينة، وهلك تحتها أكثر من ثلاثين ألف رجلٍ وامرأة).
وفي رواية «نوادر المعجزات»: (فخرجتُ من المسجد فإذا النّاس في صياحٍ من كلّ جانب، فإذا المدينة [قد] زلزلت زلزلة شديدة، وأخذتهم الرّجفة، وقد خُرّبت أكثر دور المدينة وهلك فيها أكثر من ثلاثين ألفاً رجالاً ونساءً).
وفيما نقله ابن شهرآشوب: (فخرجت من المسجد فإذا صياح وصراخ وولولة من كلّ ناحية، وإذا زلزلة شديدة وهدّة ورجفةٌ قد أخربت عامّة دور المدينة، وهلك تحتها أكثر من ثلاثين ألف إنسانٍ).
والحاصل: إنّ جميع مصادر حديث الخيط قد اتّفقت على أنّ عدد القتلى في حادثة الزّلزال يزيد على ثلاثين ألف نفسٍ، كما أنّ أكثر الدّور في المدينة المنوّرة قد دُمِّرت، وهذه الحادثة العظمى بخطورتها ليس لها أثرٌ في كتب الحديث والتّاريخ والسِّير في التّراث الإسلاميّ كلّه، فلا تجد لها ذِكراً في روايات الشّيعة والعامّة والزيديّة والإسماعيليّة وغيرهم، ولا يخفى أنّها تحظى بوجود دواعي النّقل بنحو كبير، فقد دوّن المؤرِّخون ما هو أقلّ من هذا، حيث امتلأت كتب التّاريخ بذكر طاعون عمواس -الذي وقع سنة 18 هجريّة في خلافة عمر بن الخطّاب- وقد مات بسبب هذا الطّاعون خمسة وعشرون ألفاً من الصّحابة وغيرهم[23]، كما تعرّضوا لذكر أخبار عام الرّمادة، وهو عام القحط والمجاعة الشديدة في المدينة المنوّرة، وذلك لما في هذين الحدثين من دواعي النّقل والاشتهار عند الخاصّ والعامّ، وأمّا موت ثلاثين ألفاً في زلزلة دمّرت معظم المدينة المنوّرة في وقت قياسيّ فلا تجد له أثراً في مكانٍ سوى حديث الخيط.
ومن الجدير بالذّكر أنّ عدد القتلى المزعوم بلحاظ عدد السّكان في ذلك الوقت هو عدد ضخم جدّاً، وهو يُقارب عدد ضحايا حربٍ ضروسٍ كمعركة الجمل أو معركة صفِّين، فكيف يمكن للمرء أن يتعقّل خفاءها على جميع المؤرّخين والمحدّثين؟! أو يتوقّع أن يتّفق الجميع -سنّة وشيعةً- على إخفائها وكتمها؟!
ثُمّ إنّني بعد أن قرّرتُ هذا الإشكال وبيّنتُه أطلعني بعض الأصدقاء على دراسةٍ لبعض الباحثين، عمل فيها على إحصاء الزّلازل التي أصابت منطقة الجزيرة العربيّة منذ القرن الأوّل إلى القرن الحادي عشر الهجريّ، وأشار فيها إلى وقوع زلازل قليلة في القرن الأوّل، وهي زلزال في المدينة في السّنة الخامسة الهجريّة، وآخر في السّنة العشرين، وزلزالٌ في سنة 108 هجريّة قُتل فيه بعض المحدّثين -منهم محمّد بن كعبٍ القرظيّ- بسبب انهدام المسجد الذي كانوا فيه عليهم[24].
وهذا الأمر يؤكّد الإشكال، فإنّ المؤرّخين قد اهتمّوا بنقل هذه الزّلازل ذات الأضرار البسيطة والتي لم تتسبب بهلاك كثيرٍ من النّاس، فكيف يمكن أن يتصوّر إهمالهم لزلزالٍ كبيرٍ قتل عشرات الآلاف؟!
الإشكال الثّالث: ما ورد في رواية الخصيبيّ: (فقال: يا جابر، أتدري ما المعرفة؟ قلت: لا أدري. قال: إثبات التّوحيد أوّلاً، ثم معرفة المعاني ثانياً، ثم معرفة الأبواب ثالثاً، ثمّ معرفة الأيتام رابعاً، ثمّ معرفة النّقباء خامساً، ثمّ معرفة النّجباء سادساً، ثمّ معرفة المختصّين سابعاً، ثم معرفة المخلصين ثامناً، ثمّ معرفة الممتحنين تاسعاً).
وفي رواية الكتاب العتيق «المناقب»: (قال: يا جابر، أوتدري ما المعرفة؟ المعرفة إثبات التّوحيد أوّلاً، ثمّ معرفة المعنى ثانياً، ثمّ معرفة الأبواب ثالثاً، ثمّ معرفة الإمام رابعاً، ثمّ معرفة الأركان خامساً، ثمّ معرفة النّقباء سادساً، ثمّ معرفة النّجباء سابعاً).
وهذا النّمط من البناء العقديّ في مسألة التّوحيد مطابقٌ لمباني الغلاة النّصيريّة، فإنّ هذه المراتب مذكورة بتفاصيلها في كتبهم، كما في الرّسالة الرستباشية للحسين بن حمدان الخصيبيّ[25] وغيرها.
قال الخصيبيّ في رسالته المذكورة: (وقد بقي الآن ما لا بُدّ من إيضاح معرفته من الأيتام والنّقباء والنّجباء والمختصين والمخلصين والممتحنين وأشخاص الصّلاة وأسماء المنبّئين وأسماء التّسعة الرّهط المفسدين في الأرض وأشخاص المحمودين في حال المذمومين وأشخاص المذمومين في حال المحمودين ..إلخ)[26].
وقال ابن شعبة الحرّاني في كتابه «حقائق أسرار الدّين» -وهو من الكتب الخاصّة عند النصيريّة-: (أخبرني الحسين بن حمدان، قال: أخبرنا أبو محمّد عبد الله بن أيّوب القميّ، قال: أخبرني أبو المثنّى عمر بن المختار الخزاعيّ، عن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عن أبي عبد الله الصّادق بجميع كتاب المراتب والدّرج -ذكرنا منه موضع الحاجة- قال: إنّ الله خلق الخلق روحانيّين.. -إلى قوله-:فجعل السّابقين الذين أجابوا في أوّل الدّعوة هم الأبواب، ثم يليهم الأيتام، ثم يليهم النّقباء، ثمّ يليهم النّجباء، ثمّ يليهم المختصّون، ثمّ يليهم المخلصون، ثم يليهم الممتحنون، فهذه سبع مراتب للمؤمنين على قدر الأيام السّبعة)[27].
وقال أبو سعيد الطبرانيّ: (وصلواته على سيّدنا محمّد وآله، وعلى بابه الدّاعي إليه، وسبيله الدالّ عليه، باب النّجاة وعين الحياة، وعلى من آل إليه من أهل المراتب العلويّة: الأيتام والنّقباء والنّجباء والمختصّين والمخلصين والممتحنين الختام، مصابيح الظّلام، وعلى أهل المراتب السفليّة، ذوي الأنوار المضيئة..)[28].
وهذا كلّه -لفظاً ومعنىً- لا أثر له في الكتب الحديثيّة المعتبرة عند الإماميّة، ولا رواه أو تناقله أحدٌ من كبار المحدّثين الثّقات، وإنّما هو شيء يتداوله الغُلاة والمخلّطون في كتبهم الرّديئة.
ولمّا كان هذا المعنى شاذّا مستنكراً عند جمهور الإماميّة قطع الحسين بن عبد الوهاب حديث الخيط حينما وصل إلى هذا الموضع، وهذا لفظ ما في كتابه: (فقال عليه السّلام: يا جابر، أتدري ما المعرفة؟ فسكت جابر. فأورد عليه الخبر بطوله. وقد أوردتُ أنا المُعجِزَ الذي أظهرَهُ من هذا الخبر فقط؛ إذ ليس كلُّ كتابٍ يحتملُ شرح الأشياء بحقائقها)[29]، ولحن القول هذا ممّا أدمن عليه أهل الغلوّ والارتفاع، إذ يرون أنّ عامّة الإماميّة من المقصِّرة الذين لا يحتملون هذه الحقائق العالية التي لا ترقى إليها عقولهم، وهذا من الكذب الصّريح والبهتان العظيم، فإنّ علّة عدم قبول مثل هذه الأخبار هو ما فيها من التّهافت والرّكاكة، وإلّا فإنّ مصنّفات الإماميّة مملوءة بالأحاديث الشّريفة المبيّنة لمقامات الأئمّة -صلوات الله عليهم-.
وعلى أيّة حالٍ، فإنّ عبارته واضحةٌ في تحاشيه ذكر تلك الفقرة من الحديث؛ لما قد تثيره من استهجانٍ ونقدٍ عند جمهور الإماميّة، وهو يدلّ على أنّهم ما كانوا يأنسون بهذا النّوع من المضامين الشاذّة والغريبة.
وممّا يشير إلى خروج هذا الحديث عن نمط أحاديث الإماميّة ما قاله العلّامة المجلسيّ بعد نقله عن الكتاب العتيق: (أقول: إنّما أفردتُ لهذه الأخبار باباً لعدم صحّة أسانيدها وغرابة مضامينها، فلا نحكم بصحّتها ولا ببطلانها، ونردُّ علمها إليهم عليهم السّلام)[30]، فتأمّل.
الإشكال الرّابع: ورد في رواية الخصيبيّ: (قال جابر: فاغتممتُ غمّاً شديداً، وقلتُ: يا ابن رسول الله، ما حقُّ المؤمن على أخيه؟ قال: يفرح بفرحه ويحزن لحزنه، ويتفقّد أموره كلَّها فيصلحها، ولا يغتنم بشيء من حطام الدّنيا إلّا واساهُ به، حتّى يكونا في الخير والشرّ قرناً واحداً. قلت: سيّدي ومولاي، كيف فرض الله هذا للأخ على أخيه المؤمن؟ قال: لأنّ المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمِّه، يرثه ويعتقد منه، وهو أحقّ بملكه من ابنه إذا كان على مذهبه).
وفي رواية الكتاب العتيق «المناقب»: (قال جابر: فاغتممتُ والله غمّاً شديداً، وقلت: يا ابن رسول الله، ما حقّ المؤمن على أخيه المؤمن؟ قال -صلّى الله عليه-: يفرح لفرحه إذا فرح، ويحزن لحزنه إذا حزن، ويتفقّد أموره كلَّها فيصلحها، ولا [يغتنم][31] بشيءٍ من حطام الدّنيا الفانية إلّا واساه حتّى يجريا في الخير والشرّ في قرنٍ واحدٍ. قلتُ: سيّدي، كيف أوجب الله كلّ هذا للمؤمن على أخيه المؤمن؟ قال -صلّى الله عليه-: لأنّ المؤمن أخو المؤمن من أمِّه وأبيه على هذا الأمر، لا يكون أخاه إلّا وهو أحقّ بما يملكه، فإذا كان من أمِّه وأبيه وليس يعرف هذا الأمر فليس له أن يملّكه شيئاً ولا يورّثه ولا يرثه).
والنصّ على أنّ المؤمن يرث المؤمن ولو لم يكن بينهما علاقة سببية أو نسبيّة، وأنّ المخالف -ولو كان أخاً للمؤمن من أبيه وأمّه- لا يرث المؤمن يخالف القرآن الكريم، فقوله: (فإذا كان من أمِّه وأبيه وليس يعرف هذا الأمر فليس له أن يملّكه شيئاً ولا يورّثه ولا يرثه) يُسقِط الآثار المترتّبة على القرابة والنّسب في أحكام الإرث، وهذا ما يخالف آيات القرآن الكريم التي بيّنت أحكام الإرث ونصّت على أنّها من حدود الله التي توعّد على تعدّيها بالخلود في النّار والعذاب المهين[32].
كما أنّه يخالف الآثار الصّحيحة المرويّة عن أئمّة الهدى عليهم السّلام التي تبيّن كفاية الإسلام لجريان أحكام النّكاح والإرث وغيرها، فقد روى الكلينيّ بسندٍ صحيحٍ: (عليٌّ، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن درّاج، عن فضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إنّ الإيمان يشارك الإسلام، ولا يشاركه الإسلام، إنّ الإيمان ما وقر في القلوب، والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدّماء..)[33].
وفي صحيحة حمران بن أعين عن الباقر عليه السّلام: (والإسلام ما ظهر من قولٍ أو فعلٍ، وهو الذي عليه جماعة النّاس من الفِرق كلِّها، وبه حُقِنت الدّماء، وعليه جرت المواريث)[34].
وورد في مقطعٍ آخر من رواية الخصيبيّ ما هو أزيد من ذلك، فقد جاء فيه عن زين العابدين عليه السّلام: (فمن كان مقصِّراً فليس يلزمك حقّه، ومن كان بالغاً فهو أخوك لأبيك وأمّك، ترثُه ويرثك)، وهو أشنع ممّا سبق؛ فإنّه قد أسقط حقوق المؤمنين عن الشّيعة المقصّرة -ويريد الغلاةُ به عامّة الشيعة ممن ليس على طريقتهم- وألحقهم بأهل الخلاف في حكم سقوط التوارث وعدم وجوب الحقوق المذكورة لهم، وأثبت التوارث بين المؤمنين -وهم من عبّر عنهم بالبالغين-[35].
وهذا الغلوّ في حقوق المؤمنين المعبَّر عنه بـ«مواساة الإخوان» من سِمات حديث الغلاة، فقد ذكر الكشيّ في ترجمة محمّد بن بشير الكوفيّ -وهو من رؤوس الغلاة- شيئاً من عقائدهم وسماتهم فقال: (وقالوا بالتّناسخ. والأئمّة عندهم واحداً واحداً، إنّما هم منتقلون من قرنٍ إلى قرنٍ، والمواساةُ بينهم واجبةٌ في كلِّ ما ملكوه من مالٍ أو خراجٍ أو غير ذلك)[36]، وليست المواساة المشار إليها في هذا الكلام من قبيل ما أُمر به المؤمنون في الكتاب والسنّة، وإنّما ما امتاز به الغلاة من الإفراط في هذا الباب بنحو يتعارض مع ما ورد في القرآن الكريم وأحاديث الأئمّة عليهم السّلام، وإلّا فلا ينكر فقيهٌ أنّ أصل المواساة ثابت في الإسلام، وإنّما الكلام في هذا المقدار الشاذّ المخالف لأحكام القرآن والسنّة.
الإشكال الخامس: ورد في رواية الخصيبيّ: (يا جابر، فإذا عرفت الله بهذه الصّفة، ثمّ عرفت معانيه، وأنّهم من نور ذاته، اختصّهم الله بالفضل، وأعزّهم بالرّوح التي هي منه، لم يُطفأ بتلك الرّوح والنّور الذي هو منه عزُّنا، وأنت عارفٌ خبيرٌ مستبصرٌ كاملٌ بالغٌ)، وفي موضعٍ آخر: (فمن كان مقصِّراً فليس يلزمك حقّه، ومن كان بالغاً فهو أخوك لأبيك وأمّك، ترثُه ويرثك)، وفي موضعٍ آخر: (وإيّاك يا جابر أن تُطلِعَ على سرِّ الله مُقصِّراً حتّى تعلم أنّه قد استبصر، قال الله تعالى: فإنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فادْفَعُوا إليْهِمْ أمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافاً وبِدَاراً[37]، يعني إذا بلغوا التّفويض).
وورد في رواية الكتاب العتيق «المناقب» عن جابر بن يزيد الجعفيّ: (قلتُ: إن فلان بن فلان وأصحابه من أهل هذه الصّفة إن شاء الله تعالى، وذلك أنِّي سمعتُ منهم سرّاً من أسراركم وباطناً من علومكم، ولا أظنُّ إلا وقد كملوا وبلغوا.
قال: يا جابر، ادعهم غداً وأحضرهم معك.
قال: فأحضرتهم من الغد، فسلّموا على الإمام عليه السّلام وبجّلوه ووقّروه ووقفوا بين يديه.
فقال عليه السّلام: يا جابر، أما إنّهم من إخوانك، ألا وقد بقيت عليهم بقيّة، أتقرُّون أيّها النّفر أن الله عزّ وجلّ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون؟
قالوا: إي والله، والله إنّ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
قلت: الحمد لله، قد استبصروا وعرفوا وبلغوا.
قال عليه السّلام: يا جابر، لا تعجل بما لا تعلم. فبقيتُ متحيِّراً.
فقال عليه السّلام: يا جابر، سلهم هل يقدر عليّ بن الحسين أن يظهر بصورة محمّدٍ ابنه ؟
قال جابر: فسألتهم فأمسكوا وسكتوا.
قال عليه السّلام: يا جابر، سلهم هل يقدر محمّد ابني أن يظهر بصورتي؟
قال جابر: فسألتهم فأمسكوا وسكتوا.
قال: فنظر إليَّ وقال: يا جابر، هذا ما أخبرتك به، أما إنّهم قد بقي عليهم بقيّة.
فقلت لهم: ما لكم لا تجيبون إمامكم؟! فسكتوا وسكتُّ.
فنظر إليّ وقال عليه السّلام: يا جابر، هذا ما أخبرتك به، قد بقي عليهم بقيّة.
قال الباقر عليه السّلام: ما لكم لا تنطقون؟ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون[38].
قالوا: يا ابن رسول الله لا علم لنا فعلّمنا.
قال: فنظر الإمام زين العابدين ابنه محمد الباقر وقال لهم: من هذا؟ قالوا: ابنك محمّد. فقال لهم: من أنا؟ قال: ابن رسول الله عليّ بن الحسين.
قال: فتكلّم الإمام بكلام لم نفهمه، فإذا محمّدٌ بصورة أبيه عليّ وإذا عليٌّ بصورة ابنه محمّد الباقر.
قالوا: سبحان الله، لا إله إلّا الله.
فقال الإمام: لا تعجبوا من قدرة الله، أنا محمّد ومحمّد أنا.
وقال محمّد: يا قوم، لا تعجبوا من أمر الله، أنا عليٌّ وعليٌّ أنا، وكلُّنا واحدٌ من نورٍ واحدٍ، وروحنا من أمر الله، أوّلُنا محمّد وأوسطنا محمّد وآخرنا محمّد وكلُّنا محمّد.
قال: فلمّا سمعوا ذلك خرُّوا لوجوههم سُجّداً وهم يقولون: آمنّا بولايتكم وبسرِّكم وبعلانيتكم، وأقررنا بخصائصكم.
فقال الإمام زين العابدين: ارفعوا رؤوسكم، فأنتم الآن العارفون الفائزون المستبصرون، وأنتم الكاملون البالغون، الله الله لا تُطلِعوا أحداً من المقصِّرين المستضعفين على ما رأيتم منِّي ومن محمّدٍ فيُشنِّعوا عليكم ويكذّبوكم).
وفي هذه المقاطع ترى تقسيم الشّيعة إلى قسمين، حيثُ وُصِفَ القسم الأوّل بـ«المقصِّرة»، والقسم الثّاني بـ«المستبصرين» و«الكاملين» و«البالغين»، وهذه الأوصاف ممّا درج الغلاة النّصيرية وغيرهم على استعمالها في مصنّفاتهم، وذكروها في رواياتهم، وليس لهذا التّقسيم -بهذا النحو- أثرٌ في الأحاديث المعتبرة عند الإماميّة، وإنّما هو شيء اخترعه الغلاة للقدح في عامّة الشّيعة -الذين يتّهمونهم بالتّقصير-، وإعلاءً لشأنهم ورفعاً لمكانتهم وترويجاً لاعتقادهم.
نعم؛ ورد في روايات أهل البيت عليهم السّلام تقسيمٌ بنحوٍ آخر وهو المقابلة بين «المقصِّر» و«الغالي» و«النّمط الأوسط»، ولم يرد في حقّ «النَّمط الأوسط» وصفٌ من هذه الأوصاف، فلم يوصَفوا باصطلاحاتٍ من قبيل: «المستبصرين» و«الكاملين» و«البالغين». نعم؛ يوصفُ المؤمن بالمستبصر كما في بعض الزّيارات[39]، ولكنّ الوصف الوارد في تلك الرّوايات ليس ناظراً إلى فئةٍ خاصّةٍ من الشّيعة ترى لنفسها مكانةً بارتفاعها في الاعتقاد، ولم يُسَق هذا الوصف لتمييز جماعةٍ من الشّيعة عن غيرها، ولم يُطلق في حقّ فئةٍ من الشيعة مقابل فئة أخرى، وإنّما هو وصف لمن يؤمن بإمامة الإمام المفترض الطّاعة. ومن هنا يظهرُ الفرق بين الاصطلاح الروائيّ والاصطلاح النّصيريّ في استعمال الوصف بالاستبصار، وأمّا الوصف بالكمال والبلوغ فليس له في الأحاديث المعتبرة أثرٌ يُذكر، وإنّما هو ممّا اختصّ به الغلاة، وهو مبثوث في مصنّفات النصيريّة[40].
وفي متن الحديث إشكالات أخرى ذكرها بعض الباحثين[41]، بل فيه إشكالات أكثر مما ذُكر، ولكن نقتصر في المقام على ما أوردناه، والحمد لله ربّ العالمين.

نتيجة البحث
1- ليس لحديث الخيط أصلٌ معتبرٌ في تراث الشّيعة الإماميّة، وإنّما رواه مؤلّفون مجهولون لم يُنصّ على وثاقتهم، وقد نُصّ على كذب بعضهم وتخليطه. وأمّا رواية ابن شهرآشوب فمرسلة لا يُعرف أصلها.
2- إسناد حديث الخيط ضعيفٌ جدّاً، فضلاً عن غرابته من جهة رواية جابر بن يزيد الجعفيّ عن الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام، ولم يثبت لقاء جابر للإمام وسماعه منه من وجهٍ معتبرٍ، وإنّما انفردت رواية حديث الخيط بذلك.
3- نصّ بعض نقّاد الحديث كالعلّامة المجلسيّ على غرابة مضامين حديث الخيط وعدم انسجامها مع سائر أحاديث الإمامية، وهذه شهادة مؤيّدة للحكم بالغرابة والشذوذ، ومع ظهور الإشكالات التي بيّنت مقدار التّهافت والشّذوذ في متن الحديث لا يبعد الحكم بكونه من موضوعات الغلاة.
4- تعاني رواية حديث الخيط من عدّة إشكالات متنيّة، تتلخّص في التّنافي مع وقائع التّاريخ القطعيّة، ومعارضة الضّرورات الفقهيّة في باب الإرث، والانسجام مع أحاديث الغلاة لفظاً ودلالةً حيث وردت بعض اصطلاحاتهم الخاصّة الدّالّة على نظرتهم إلى مفهوم التّوحيد والمواساة بين المؤمنين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر: الهداية الكبرى، ص273-280 «طبعة مصطفى الحمصيّ».
[2] عيون المعجزات، ص155-160، رقم الحديث 95.
[3] المناقب، ص117-132، رقم الحديث 32. وقال العلّامة المجلسيّ: (ذكر والدي رحمه الله أنه رأى في كتاب عتيق جمعه بعض محدِّثي أصحابنا في فضائل أمير المؤمنين عليه السّلام هذا الخبر، ووجدتُه أيضاً في كتاب عتيق مشتمل على أخبار كثيرة)، وذكر حديث المعرفة بالنورانيّة، ثم قال عند نقل خبر الخيط: (وحدّثني والدي من الكتاب المذكور، قال: ..إلخ)، انظر: بحار الأنوار، ج26، ص8.
[4] نوادر المعجزات، ص262-268، رقم الحديث 94، الباب الخامس: في معجزات وأعلام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام، ح12.
[5] مناقب آل أبي طالب، ج4، ص199.
[6] رجال النجاشي، ص67، رقم الترجمة 159/ رجال ابن الغضائريّ، ص54، رقم الترجمة 40.
[7] رجال ابن الغضائريّ، ص54، رقم الترجمة 40.
[8] قال السيّد محمّد حسين الجلاليّ في ترجمة الحسين بن عبد الوهاب: (لا نعرف عنه سوى اسمه وكتابه عيون المعجزات)، انظر: فهرس التراث، ص297. وأما السيّد محمّد بن عليّ العلويّ فلم نجد له ترجمةً ولا توثيقاً.
[9] من جملة الأحاديث المشوبة بلحن الغلاة في كتاب «عيون المعجزات»: روايةٌ عُبِّر فيها عن النبيِّ صلّى الله عليه وآله بـ«السيّد محمّد» وهذا من التّعابير الخاصّة بالغلاة وليس له أثرٌ في كتبنا المعتبرة (ص13-ص21)/رواية عودة عبد الله بن سبأ إلى الحياة بعد إحراق أمير المؤمنين له (ص27)/دعوى ولادة الزّهراء عليها السّلام للحسنين عليهما السّلام من فخذها الأيسر (ص112)، وأنّ الأوصياء يُحملون في الجُنُوب لا البُطون (ص279)/رواية تدلّ على عقيدة التقمّص وأنّ الكافر بعد موته يعيش في بدن حيوان آخر (ص34).
وأمّا كتاب «المناقب» فمثله في رواية الغرائب والمنكرات، من قبيل حديث المعرفة بالنّورانيّة (ص67-77)، وحديث الحمل بمحمّد بن الحنفية وولادته في طرفة عين (ص53)، وحديث رواية أبي ذر الغفاريّ عن الحارث الأعور الهمداني وذكره وفاته! (ص59)، وغيرها مما بحثناه مفصّلاً في محلّه.
[10] رجال النّجاشيّ، ص328، رقم الترجمة 888.
[11]) رجال النّجاشيّ، ص128، رقم الترجمة 332/رجال الطوسيّ، ص129، رقم الترجمة 1316. وقال ابن سعد في طبقاته: (أخبرنا الفضل بن دكين قال: توفي جابر بن يزيد سنة ثمان وعشرين ومائة)، انظر: الطبقات الكبير، ج8، ص464، رقم الترجمة 3360.
[12] الكافي، ج5، ص579، رقم الحديث 4694، كتاب الجنائز، باب أنّ الميت يمثّل له ماله وولده وعمله قبل موته، ح4.
[13] الكافي، ج5، ص577، رقم الحديث 4692، كتاب الجنائز، باب أنّ الميت يمثّل له ماله وولده وعمله قبل موته، ح2. وانظر أيضاً: المجموعة الحديثية «مختصر بصائر الدرجات»، ص309-310، رقم الحديث 258، باب ما جاء في التّسليم لما جاء عنهم عليهم السّلام وفي من ردّه وأنكره، ح1.
[14] انظر: موسوعة ابن أبي الدّنيا (كتاب القُبور)، ج4، ص522-523، رقم الحديث 26.
[15] الحاوي للفتاوي، ج2، ص172-173.
[16] اختيار معرفة الرّجال، ص265، رقم الحديث 339.
[17] في المطبوع من «عيون المعجزات»: (أفضلت) بدلاً من (أفضت)، وما أثبتناه هو الصّحيح.
[18] بحار الأنوار، ج26، ص8.
[19] الكافي، ج2، ص512، كتاب الحجّة، باب مولد عليّ بن الحسين عليه السّلام.
[20] الإرشاد، ج2، ص137.
[21] تهذيب الأحكام، ج6، ص88.
[22] إعلام الورى بأعلام الهُدى، ج1، ص481.
[23] قال ابن الجوزيّ: (ثم دخلت سنة ثمان عشرة، فمن الحوادث فيها طاعون عمواس، تفانى فيه النّاس، ومات فيه خمسة وعشرون ألفاً)، انظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ج4، ص247.
[24] انظر: زلازل جزيرة العرب في المصادر الإسلاميّة منذ القرن الأوّل الهجريّ حتّى القرن الحادي عشر الهجريّ، د. خالد يونس الخالديّ.
[25] هي الرّسالة التي وصفها النجاشي في ترجمة الخصيبيّ بأنّها تخليط. انظر: رجال النجاشي، ص67، رقم الترجمة 159.
[26] انظر: سلسلة التراث العلوي (كتاب: الرّسالة الرستباشيّة)، ج2، ص69-70.
[27] انظر: سلسلة التراث العلويّ (كتاب: حقائق أسرار الدّين)، ج4، ص82-83.
[28] انظر: سلسلة التراث العلويّ (كتاب الحاوي في علم الفتاوي)، ج3، ص45.
[29] عيون المعجزات، ص164.
[30] بحار الأنوار، ج26، ص17.
[31] في المطبوع: (يغتمّ) بدلاً من (يغتنم)، وما أثبتناه هو الصّحيح.
[32] سورة النساء، الآية 11-14.
[33] الكافي، ج3، ص73، رقم الحديث 1513، كتاب الإيمان والكفر، باب أنّ الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان، ح3.
[34] الكافي، ج3، ص74، رقم الحديث 1515، كتاب الإيمان والكفر، باب أنّ الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان، ح5.
[35] انظر: على عادل‌زاده، انگاره وراثت بر پایه برادری ایمانی، پس از ظهور امام مهدی عليه السّلام.
[36] اختيار معرفة الرّجال، ص534، رقم الحديث 907.
[37] سورة النّساء، الآية 6.
[38] سورة الصّافّات، الآية 27.
[39] كامل الزّيارات، ص396، رقم الحديث 616، الباب 79: باب زيارات الحسين بن عليّ عليه السّلام، ح3.
[40] لاحظ بعض الأمثلة: سلسلة التراث العلويّ (كتاب: حقائق أسرار الدّين)، ج4، ص68.
[41] انظر: عميد رضا اكبرى، على عادل‌زاده، رمزوارهاى نصيرى در كتاب الهدايه الكبرى، ص178-179. وقد طُبعت في مجلّة: مطالعات تاريخى قرآن و حديث، شماره 71، سال 28، تابستان 1401هـ.ش.