مشاركة مميزة

فهرس مقالات مدوّنة مصباح الهداية

الأربعاء، 15 سبتمبر 2021

نقد مداخلات الشّيخ الألباني في الحديث الشيعيّ

بسم الله الرحمن الرحيم
نقد مداخلات الشّيخ الألباني في الحديث الشيعيّ

الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على سيِّد المُرسَلين، حبيب إلهِ العالمين، أفضل الخلقِ أجمعين محمد بن عبد الله، وعلى أهلِ بيته الطيِّبينَ الطاهرين، واللّعنُ الدائم على أعدائهم من الآن إلى يوم الدين، أما بعد:
تعرّض الشيخ محمد ناصر الدين الألباني خلال بحوثه في روايات التراث السنِّي وتخريجها والحكم عليها لبعض روايات الشيعة الإماميّة وتكلَّم حولها في بعض الموارد مظهراً جهلاً كبيراً بأبجديّات هذه المسائل في تراث الإماميّة، وأنَّه تكلَّف عناء ما لا يجب عليه الدخول فيه، ولعلّه أراد إظهار سعة اطّلاعه وقدرته على النّقد أو التشنيع على الشيعة في هذه المسائل فوقع في شرّ أعماله وأبان عن جهله، وقد سجَّلتُ بعض الملاحظات على بضعة موارد وقفت عليها في كتبه:

الملاحظة الأولى: جهله بألفاظ القرآن الكريم.
قال الشّيخ الألبانيّ: (وأنا إنّما قدّمتُ لك هذا الحديث كمثالٍ على تلك الأحاديث الضعيفة سنداً؛ لتعلم أنّ فيها ما يقطع المبتدئ بهذا العلم الشريف ببطلانها متناً؛ فإنّ الألفاظ التي وردت فيه "الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه" هي كالألفاظ الأخرى التي اصطلح عليها أهل العلم، مثل: "العام والخاص والمطلق والمقيّد" ونحوها مما أُحْدِثَ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- لهي أكبر دليل على أنه حديث باطل موضوع، لم يقله صلى الله عليه وسلم، ولا حدث به جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله عنهما، ولا رواه ابن شبرمة، فإنه ثقة فقيه، وهو أتقى من أن يروي الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من اختلاق بعض من دونه من الشيعة من الضعفاء والمجهولين، وفيهم بعض الغلاة والرافضة كما تقدم)[1].
قلت: هذا ما قد يقوله المبتدئ بهذا العلم الشّريف عند الألبانيّ وأمثاله، أمّا أهل التدبّر في كتاب الله ومن يتلونه بقلوبٍ يقِظةٍ فيعرفون أنّ هذين اللّفظين -أعني النّاسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه- هي ألفاظٌ ذات جذور قرآنيّة، وليست من قبيل الاصطلاحات التي اخترعها أهل العلم في القرون اللّاحقة.
أمّا بالنسبة للنّاسخ والمنسوخ: قال تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[2]، ويُضاف لذلك أنّ الصّحابة كانوا يستعملون هذه المادّة للحديث حول النّسخ في القرآن والأحكام، ومن ذلك ما رواه البخاري عن ابن عبّاس في شأن الآية (68) من سورة الفرقان: (هذه آية مكية نسختها آية مدنية)[3].
وأمّا بالنسبة للمُحكم والمتشابه: قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)[4]. ولو كان الألباني تالياً لكتاب الله بتدبّر وإنعام نظرٍ لما أتى بهذه العجائب!

الملاحظة الثانية: جهله باللّغة العربية وسوء فهمه للحديث.
قال الشيخ الألبانيّ: (ومن ذلك: أنني رأيت الكليني في كتابه الكافي - الذي يعتبره الشيعة كصحيح البخاري عندنا- روى فيه بإسناده (1/ 32) عن أبي عبد الله (هو جعفر ابن محمد الصادق رحمه الله) قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء، لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها، فقد أخذ حظاً وافراً» فهذا يؤيد حديث الصديق الأكبر رضي الله عنه، ويؤكد ما تقدم من تحاملهم عليه)[5].
قلت: الحديث الذي رواه أبو بكر هو: (لا نورِّث، ما تركنا صدقة)، والفرق بينه وبين حديث الصّادق (عليه السّلام) واضحٌ عند أهل المعرفة بلسان العرب، وبيان ذلك بالكلام في ثلاث جهات:
الجهة الأولى: إنّ (لَمْ) إذا دخلت على الفعل المضارع أفادت معنى الماضي، وأمّا (لا) إذا دخلت على الفعل المضارع فإنّها تفيد معنى النفي في المستقبل، وبناءً على ذلك فقول الإمام الصّادق (عليه السّلام) أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً يعني أنّه لم يقع منهم هذا في الماضي -مع غضّ النظر عن تفسير المراد به-، ولكن هذا لا يعني أنّ إمكان التّوريث مُنتَفٍ عنهم، كما لا يعني أنّ النبي صلى الله عليه وآله ليس له توريث أهله، فالأنبياء لهم التوريث شأناً، ولكنّهم لم يورّثوا فعلاً، وبالتالي فهذا ينافي حديث أبي بكر الذي ينفي التوريث عن الأنبياء شأناً فضلاً عن وقوعه فعلاً، وهو ما ردّته السيّدة الزهراء عليها السلام وقالت برفضه حتّى وفاتها، فهل كانت متحاملةً أيضاً؟
الجهة الثّانية: أنّ حديث الصّادق (عليه السّلام) ناظرٌ إلى توريث الأمّة لا إلى توريث الأهل، فمراده أنّ شأن الأنبياء هو توريث العلم لأمّتهم، وليس توريث الذهب والفضّة. وأمّا حديث أبي بكر فهو ناظرٌ إلى إرث النبيّ الماديّ وأنّه يصبح بعد موته صدقةً.
الجهة الثّالثة: أنّ حديث الصّادق (عليه السّلام) ينفي أنّ الأنبياء ورّثوا لأممهم المالَ، وهو يتنافى مع حديث أبي بكر الذي يفترض وجود تركةٍ تتحوّل إلى صدقةٍ للأمّة، فيلزم منه أنّ الأنبياء ورّثوا المال لأمتهم بهذا النحو.

الملاحظة الثّالثة: جهله بالكُنى في أسانيد الشيعة.
قال الشيخ الألبانيّ: (ثُمّ رأيت الحديث في كتاب الأصول من الكافي للكليني من علماء الشيعة رواه (1/ 377) عن محمد بن عبد الجبّار، عن صفوان، عن الفضيل، عن الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد الله مرفوعاً، وأبو عبد الله هو الحسين بن علي رضي الله عنهما)[6].
ومن الواضح البديهيّ عند العارف بأسانيد الشّيعة الإماميّة أنّ المقصود بـ(أبي عبد الله) في هذا الإسناد وغيره هو الإمام الصّادق جعفر بن محمّد (عليه السّلام)، بل هو الأصل في كافّة الأسانيد.

الملاحظة الرّابعة: جهله بالاصطلاح الشيعيّ في تصنيف الحديث.
قال الشيخ الألبانيّ: (وذكر أيضاً في المقدّمة المذكورة أنّ أحاديثه بلغت زهاء سبعة عشر ألف حديث! وفي هذا العدد من المبالغة والتهويل على من درس أحاديث الكتاب وأمعن النظر في متونها، فقد تتبّعتُ أحاديثَ الجزأين المذكورين البالغ عددها (211) فوجدت غالباً موقوفاً على علي رضي الله عنه وبعض أهل بيته كأبي عبد الله زين العابدين وأبي جعفر الباقر رضي الله عنهم أجمعين، والمرفوع منها نحو ثلاثة وعشرين حديثاً خمسة منها في الجزء الأول، والباقي في الثاني، أي بنسبة عشرة في المائة تقريباً)[7].
ومن الواضح في علم الدّراية عند الشيعة أنّ هذه الأحاديث المرويّة عن أمير المؤمنين وأولاده (عليهم السّلام) هي أحاديث مرفوعة، وأنّها وفقاً للاصطلاح السنيّ هي أحاديث موقوفة، فكيف يخطّئ شيعياً في وصفه لهذه الأحاديث بناءً على اصطلاح أهل السنّة في علوم الحديث؟! ولِمَ يتّهم غيره بالمبالغة والتهويل من دون دراية ومراعاة للفرق بين الاصطلاحين؟!

الملاحظة الخامسة: إساءة تفسير كلام بعض الرّجاليّين.
قال الشيخ الألبانيّ: (وقد حسَّن أحدَ إسناديه المعلِّقُ عليه عبد الحسين، وهو غيرُ حسنٍ؛ لأنّ الكلينيّ رواه عن شيخه عليّ بن إبراهيم -وهو القميّ- الذي روى حديث تحريم لحم البعير الذي حكم الطوسيّ الشيعي عليه بأنه محال كما سبق في ترجمته)[8].
ومن الواضح أنّ نقل عليّ بن إبراهيم القميّ حديثاً باطلاً لا يخدش وثاقته أو ينفي الاعتماد عليه ولا سيّما مع النصّ على وثاقته، ويكفي في بيان ذلك أن نستحضر أقوال الألبانيّ وهو يقوم بتقييم رواة أحاديث مذهبه، فهل كان يتعامل بالميزان نفسه؟!
قال في كتابه (أصل صفة صلاة النبيّ) في مقام الدّفاع عن بعض الرّواة: (وهذا لا يكفي في إهدار حديث الثقة، فغاية ذلك أنه أخطأ أحياناً، ومَنِ الذي لا يخطئ؟!)[9]، وكذا كلام الحافظ ابن حبّان: (وهل في الدنيا محدّث لم يخالف الأقرانَ في بعض ما روى؟! فإنِ استحقّ إنسانٌ مجانبة جميع ما روى بمخالفته الأقران في بعض ما يروي لاستحقّ كل محدّث من الأئمة المرضيّين أن يُترك حديثه لمخالفتهم أقرانهم في بعض ما رووا)[10].

والحاصل ممّا تقدّم: إنّ أكثر مداخلات الشّيخ الألباني في شأن الحديث الشيعيّ خلال بحوثه الحديثيّة تكشفُ عن قلّة درايته ومعرفته وعدم تبصّره بخصوصيّات الحديث الإماميّ وشؤونه، فضلاً عن ضعف مناقشاته بلحاظ التوجّه إلى كتاب الله والنّكات المهمّة في اللّسان العربيّ، وفي المقام نختم بنموذجٍ آخر يبيّن تسرّعه في النقد والاتّهام.
قال الشيخ الألبانيّ في ردّه على السيّد عبد الحسين شرف الدّين الموسوي (رحمه الله): (لقد ساق الحديث الشيعي المذكور في حاشية الكتاب (ص 166) بلفظ: "كما قوتلتم على تنزيله"، فحرَّفَ قوله صلى الله عليه وسلم: "قاتلت" إلى قوله: "قوتلتم"؛ غمزاً في الصحابة وطعناً فيهم، عامله الله بما يستحق)[11].
أقول: صرّح السيّد (رحمه الله) بنقل الحديث عن كتاب (كنز العمّال)، وقد ورد فيه بهذا اللّفظ، وهذا نصّ ما في هذا الكتاب: (مسند أبي سعيد: قال كُنّا جُلوساً في المسجد فخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجلس إلينا ولكأنّ على رؤسنا الطير لا يتكلم منّا أحد، فقال: إنّ منكم رجلاً يقاتل الناس على تأويل القرآن كما قوتلتم على تنزيله. فقام أبو بكر فقال: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا. فقام عمر فقال: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنّه خاصف النعل في الحُجرة، فخرج علينا عليٌّ ومعه نعل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يُصلح منها)[12]، وقد رواه بهذا اللّفظ (قوتلتم) الحافظُ أبو بكر بن أبي شيبة في مصنّفه، وقال فيه المحقّق محمد عوّامة: (إسناده صحيح)[13].
ومن المهمّ في المقام تصريح الشيخ الألبانيّ بدلالة كلمة (قوتلتم) على التّعريض بالصّحابة الحاضرين آنذاك، وليس هذا إلّا لأنّه في مقام الاتّهام لغيره، ولو كان في مقام تبرير تلك الرّواية لتكلّف في دفع هذا المعنى، ورُبّ غافلٍ لا بصر له أزرى بنفسه من حيث لا يدري. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] سلسلة الأحاديث الضعيفة، ج3، ص200.
[2] سورة البقرة، الآية 106.
[3] صحيح مسلم، ج7، ص441، رقم الحديث 3135/4.
[4] سورة آل عمران، الآية 7.
[5] سلسلة الأحاديث الضعيفة، ج10، ص630.
[6] سلسلة الأحاديث الضعيفة، ج1، ص525.
[7] سلسلة الأحاديث الضعيفة، ج3، ص199.
[8] سلسلة الأحاديث الضعيفة، ج3، ص200.
[9] أصل صفة صلاة النبيّ، ج1، ص253.
[10] الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ج1، ص153.
[11] سلسلة الأحاديث الصّحيحة، ج5، ص641-642.
[12] كنز العمال، ج13، ص107-108، 36351. (ط. مؤسسة الرسالة).
[13] مصنف ابن أبي شيبة، ج17، ص105، رقم الحديث 32745.