مشاركة مميزة

فهرس مقالات مدوّنة مصباح الهداية

الثلاثاء، 13 يوليو 2021

تصحيح حديث الخضر في النصّ على الأئمة (عليهم السلام)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين وأهل بيته الطيبين الطاهرين، أما بعد:

روى ثقة الإسلام الكلينيّ (رحمه الله): (عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفريّ، عن أبي جعفر الثاني عليه السلام، قال: أقبل أمير المؤمنين عليه السلام ومعه الحسن بن علي عليه السلام وهو متكئ على يد سلمان فدخل المسجد الحرام فجلس إذ أقبل رجل حسن الهيئة واللباس فسلم على أمير المؤمنين، فردّ عليه السلام فجلس، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أسألك عن ثلاث مسائل إن أخبرتني بهنّ علمتُ أن القوم ركبوا من أمرك ما قضي عليهم وأن ليسوا بمأمونين في دنياهم وآخرتهم، وإن تكن الأخرى علمتُ أنّك وهم شرع سواء.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: سلني عما بدا لك.
قال: أخبرني عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسى؟ وعن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام والأخوال؟
فالتفت أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الحسن فقال: يا أبا محمد أجبه.
قال: فأجابه الحسن (عليه السلام) فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله ولم أزل أشهد بها، وأشهد أن محمداً رسول الله ولم أزل أشهد بذلك، وأشهد أنّك وصي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والقائم بحجته- وأشار إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) - ولم أزل أشهد بها.
وأشهد أنك وصيه والقائم بحجته - وأشار إلى الحسن (عليه السلام)-.
وأشهد أن الحسين بن علي وصي أخيه والقائم بحجته بعده.
وأشهد على عليّ بن الحسين أنّه القائم بأمر الحسين بعده.
وأشهد على محمد بن علي أنه القائم بأمر علي بن الحسين.
وأشهد على جعفر بن محمد بأنه القائم بأمر محمد.
وأشهد على موسى أنه القائم بأمر جعفر بن محمد.
وأشهد على علي بن موسى أنه القائم بأمر موسى بن جعفر.
وأشهد على محمد بن علي أنه القائم بأمر علي بن موسى.
وأشهد على علي بن محمد بأنه القائم بأمر محمد بن علي.
وأشهد على الحسن بن علي بأنه القائم بأمر علي بن محمد.
وأشهد على رجل من ولد الحسن لا يُكنَّى ولا يُسمَّى حتى يظهر أمره فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
ثم قام فمضى، فقال أمير المؤمنين: يا أبا محمد، اتبعه فانظر أين يقصد، فخرج الحسن بن علي (عليه السلام) فقال: ما كان إلا أن وضع رجله خارجاً من المسجد فما دريت أين أخذ من أرض الله، فرجعت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأعلمته، فقال: يا أبا محمد، أتعرفه؟ قلت: الله ورسوله وأمير المؤمنين أعلم. قال: هو الخضر(عليه السلام)[1].

وقد ذيَّل الشيخ الكليني روايته هذه بمحاورة بين شيخه محمد بن يحيى العطّار وبين الشيخ محمد بن الحسن الصفّار، ولفظها: (وحدثني محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبي هاشم مثله سواء.
قال محمد بن يحيى: فقلت لمحمد بن الحسن: يا أبا جعفر، وددت أن هذا الخبر جاء من غير جهة أحمد بن أبي عبد الله. قال: فقال: لقد حدثني قبل الحيرة بعشر سنين).

وهذه الرواية صحيحة الإسناد، وقد أشار الشيخ محمّد باقر البهبودي خلال تعرّضه لهذه الرواية إلى أمرين:
الأمر الأول: الطّعن في وثاقة الشيخ البرقي صاحب كتاب «المحاسن».
الأمر الثاني: رميه للرواية بالوضع وطعنه في رواية البرقي لها.

أما بالنسبة للأمر الأول، فمن العجيب أنَّ الشيخ البهبودي قد جعل هذه القصّة دليلاً على ضعف الشيخ البرقيّ فقال: (ولكنها تفيدنا أنّ الأصحاب كانوا متسالمين على ضعف الرجل وعدم الاحتجاج بحديثه، حتى أنَّ شيخنا أبا جعفر الصفّار مع كونه متساهلاً في أمر الحديث بنفسه، لا يدّعي أن البرقي ثقة صالح لأن نحتجّ بحديثه، وإنما يتعلق بصحّة الحديث من جهة التاريخ فقط وإن كان في ذلك غير مصيب)[2].

ويُجاب عليه بما يلي:
أولاً: لو سلمنا أن هذه المحاورة تشير إلى تضعيف البرقي (رحمه الله)، فغاية ما تفيده أنّ البرقي ضعيف عند الشيخ العطّار، فمن أين ادّعى الشيخ البهبوديّ دلالتها على تسالم الأصحاب على تضعيفه؟! وكيف يستقيم ذلك وهو بنفسه قد نقل توثيق النجاشي له[3]، وكتابه من الكتب المشهورة عند الأصحاب كما أشار لذلك الشيخ الصدوق في مقدمة «من لا یحضره الفقيه»، وقد اعتمده في الفتوى.
ثانياً: إنّ هذه القصة ليست ظاهرةً في تضعيف البرقي، فالحاصلُ منها أنَّ محمد بن يحيى العطار أراد أن يروي الخبرَ عن شخصٍ لم يُدرك زمن الغيبة الصغرى ليُظْهِرَ صِدْقَ روايته بحصول مطابقتها مع الواقع، وفي الوقت نفسه لا تَرِدُ على الراوي تُهمة الوضع في زمن الحيرة، فأجابه الصفَّارُ أنَّ ما يتطلّع إليه قد حصل؛ لأنَّ هذه الرواية قد أخذها عن البرقيّ قبل أن تقع الحيرة بعشر سنين، ما يعني أنه يمكن تصحيح الرواية والاحتجاج بها ودفع شبهة الاختلاق والجعل عنها؛ لأنها كانت مرويّة قبل وقوع الحيرة بعشر سنين، ومن هُنا تظهر مطابقة الخبر للواقع، وهذا شاهدٌ على عدم وضعه بل على صحّته، وقد ذكر هذا المعنى السيّدُ الخوئي في ترجمة البرقي، فقال: (هذه الرواية قد أشكلت على كثيرين، أولهم فيما نعلم السيد التفريشي (قُدّس سرُّه) فتخيلوا أن فيها ذمّاً على أحمد بن أبي عبد الله، ولكن التأمّل في الرواية يعطي أن معناها ما ذكره بعض الأفاضل، بيان ذلك بتوضيح منّا: أن محمد بن يحيى احتمل أن رواية أحمد بن أبي عبد الله كان بعد وقوع الناس في حيرة من أمر الإمامة، حيث كان جماعة يقولون بأن الحسن العسكري (عليه السلام) لم يكن له ولد، وكانت الشيعة يعتقدون بوجود الحجة سلام الله عليه، وأنّه الإمام بعد أبيه، فودّ محمد بن يحيى أن يكون راوي هذه الرواية شخصاً آخر، أي رجلاً كان من السابقين على زمان الحيرة، ليكون إخباره إخباراً عن المغيَّب قبل وقوعه، فأجابه محمد بن الحسن بأنَّ إخبار أحمد بن أبي عبد الله كان قبل الحيرة بعشر سنين، يعني إنه كان قبل ولادة الحجة بخمس سنين، وعلى ذلك فليس في الرواية ما يدل على ذم أحمد بن أبي عبد الله أصلاً)[4]، انتهى.
وإشكال السيد التفريشي قائم على استدلاله بهذه المحاورة على أنّ البرقي صار متحيّراً في مذهبه [5] وهذا غريبٌ، إذ لم يرد في سيرته ما يدل على هذا القول، ولو كان لبان، والصحيح أنَّ المتبادر من كلمة الحيرة في اصطلاح تلك الطبقة هي حيرة الشيعة في زمن الغيبة، ولذلك سُمِّيَ بـ«زمن الحيرة»، ويُستكشف هذا من تداول اللفظ في عناوين بعض المصنفات والروايات أيضاً، ومن ذلك كتاب الغيبة والحيرة لعبد الله بن جعفر الحميري وكتاب الغيبة وكشف الحيرة للأرزني، وكتاب الإمامة والتبصرة من الحيرة للشيخ عليّ بن بابويه القميّ، وكتاب الغيبة وكشف الحيرة للصفواني، وكل هذه الكتب مذكورة في فهارس الأصحاب.
وقال السيّد بحر العلوم في فوائده: (ورأيتُ جماعةً من الناظرين في الحديث قد تحيّروا في معنى «الحيرة» الواقعة في هذا الخبر، فاحتملوا أن المراد تحيّر أحمد بن محمد في المذهب، أو خرافته وتغيّره في آخر عمره، أو حيرته بعد إخراجه من قم، أو حيرة الناس فيه بعد ذلك، واعتمد أكثرهم على الأول، وضعّفوه بتوقفه في المذهب، وذلك غفلةً عن الاصطلاح المعروف في الحيرة، فإن المراد بها «حيرة الغيبة»، ولذلك يسمى زمان الغيبة «زمان الحيرة» لتحيُّر الناس فيه من جهة غيبة الإمام (عليه السلام) أو لوقوع الاختلاف والشكِّ وتفرُّق الكلمة بعد غيبته)[6].
والحاصل: إنّ المحاورة لا تدلّ على ضعف البرقي ولا على تحيّره في المذهب، والرجل ثقةٌ بالاتّفاق، وإنما أخذوا عليه إكثاره رواية المراسيل والأخذ عن الضعفاء، وإلا فإنّه قد وثقه النجاشيّ[7] والطوسيّ[8] وظاهرُ كلام ابن الغضائريّ أنه لا مطعن في ثقته[9]، وقد صرّح الشيخ الصدوق في مقدمة الفقيه أنّ كتابه من الكتب المشهورة التي عليها المعوّل وإليها المرجع.

أما ما يتعلق بالأمر الثاني وهو طعن الشيخ البهبودي في هذا الحديث الشريف بسبب رواية الشيخ البرقيّ فقد قال في تضعيفها ما نصه: (وإنِّي بعدما تتبَّعتُ رواياته وجدتُه يروي عن النُّسخ المجعولة الموضوعة على الثقات الأثبات كثيراً، ومنها ما كان يرويها عن داود بن القاسم الجعفري أبي هاشم عن أبي جعفرٍ الجواد في النص على الأئمة الاثني عشر ووقوع الغيبة بالإمام الثاني عشر من لسان الخضر عليه السلام)[10]، ويجاب عنه بما يلي:

أمّا من جهة السّند: فإنّه صحيح بالاتّفاق، ودعوى الشيخ البهبودي أنه تتبّع روايات البرقي فوجده ينقل عن نسخ مجعولة ليست إلا دعوى زائفة لا أساس لها من الصحّة، ولو كان متتبعاً بحقٍّ لكفاه أن ينظر في رواية الشيخ البرقي عن أبي هاشم الجعفري في كتب المتقدمين، فإنّه لم ينقل خبر الخضر (عليه السلام) عن نسخةٍ مجعولةٍ، وإنّما صرّح بالسماع من أبي هاشم الجعفريّ نفسه، ولكن للتقصير في التتبّع اغترّ بلفظ الإسناد عند الكلينيّ وهو: (عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، عن أبي جعفر الثاني عليه السلام)، فظنّ أن عنعنة الشيخ البرقي ثغرة يمكن من خلالها القدحُ في اتصال إسناد الرواية، ورجّح بذلك -بلا برهانٍ ولا بينةٍ- أن إسنادها ليس متصلاً بل ناشئاً عن الوجادة فاتهم البرقيّ أنه يروي الحديث عن نسخةٍ موضوعة على أبي هاشم الجعفريّ، والصحيحُ أنّ البرقيَّ صرّح بالسماع وبيّن أنه أخذ الرواية من أبي هاشم الجعفري نفسه مباشرة، ويكشف عن هذا ما رواه الشيخ النعماني: (أخبرنا عبد الواحد بن عبد الله بن يونس الموصلي، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن خالد، قال: حدثنا أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري، عن أبي جعفرٍ محمد بن عليّ عليه السلام)[11]، وكذلك وما رواه الشيخ الصدوق في كتابيه «كمال الدين وتمام النعمة» و«عيون أخبار الرضا» بأسانيد صحيحة: (حدثنا أبي ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما، قالا: حدثنا سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر الحميري ومحمد بن يحيى العطار وأحمد بن إدريس جميعاً، قالوا: حدثنا أحمد بن أبي عبد الله البرقي، قال: حدثنا أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري، عن أبي جعفرٍ الثاني محمد بن عليّ عليه السلام)[12].
والأمر واضحٌ في كون رواية البرقي بالسّماع المباشر لا عن نسخةٍ موضوعةٍ كما ادّعى الشيخ البهبودي وفقاً لتتبعه المزعوم لروايات البرقيّ، وليت شعري أيّ تتبّع هذا وهو لم يحسن تعقّب أسانيد حديثٍ واحدٍ طعن فيه بلا رويّة، ولا أجاد الوقوف على ألفاظ أدائه المصرّح فيها بالسّماع، بل قدح فيه من دون فحص سائر طرقه، فكيف بباقي ما ادّعاه وزعمه؟!
وقد نصّ العلماء في بحوث الدّراية أنّ التّحديث بصيغة (حدّثنا) من أعلى صيغ التحمّل والأداء وأوثقها، ومن ذلك:
[1] قال الشهيد الثاني (ت:965هـ) في مقام تعداد طرق التحمّل: (أوّلها السماع من لفظ الشيخ سواء كان من حفظه أم من كتابه، وهو أرفعُ الطّرق عند جمهور المُحدِّثين، فيقول راوياً لغيره: «سمعتُ» وهي أعلاها، ثم «حدّثني» و«حدّثنا»، وقيل: هُما أعلى، ثم «أخبرنا» ثم «أنبأنا» و«نبّأنا»، وهو قليل هنا)[13].
[2] قال الشّيخ البهائيّ (ت: 1030هـ): (أنحاء تحمّل الحديث سبعة، أوّلها: السّماع من الشيخ وهو أعلاها، فيقول المُتحمِّل: «سمعتُ فلاناً» أو «حدّثنا» أو «أخبرنا» أو «نبّأنا»)[14].
[3] قال الشيخ أحمد بن عبد الرّضا البصريّ -المعاصر للحرّ العامليّ-: (أنحاء تحمّل الحديث سبعة، أوّلها: السّماع من الشيخ إمّا بقراءة من كتابه أو بإملاءٍ من حِفْظه، وهي أعلى مراتب التحمّل اتّفاقاً، فيقول المُتحمِّل: «سمعتُ فلاناً»، أو «حدّثنا» أو «أخبرنا» أو «أنبّأنا»)[15].
[4] قال المولى علي الخليليّ الرازيّ النجفيّ (ت: 1297هـ): (فإذا عرفت ذلك فاعلم أنّ للتحمّل طرقاً ثمانية، الأوّل: السماع من الشيخ من لفظٍ أو من كتابٍ، وهذا الطّريقُ أرفعُ طرق التحمّل؛ لأنّ الشيخ أعرفُ بالتأدية، والسّامع أفرغ قلباً وأجمع حواسّ، ولعلّ الثاني منه وهو القراءة من الكتاب أضبط، فيرجح على غيره عند التعارض، والذي يظهر منه السّماع قول الراوي: «حدّثنا» و«أخبرنا» و«أنبأنا» و«نبّأنا» «وقال لنا» و«سمعته يقول» و«ذكر لنا»)[16].
[5] قال الشيخ عبد الرحيم بن عبد الحسين الأصبهانيّ الحائريّ (ت: 1367هـ):
سبعةُ أنحاءٍ تحمُّل الخبر ** وهي على مَنْعِ الخُلُوِّ تُعتبَر
أوّلُها: السّماع من الشيخ وهُوْ ** أعلى أو العَرْض عليه أوْجَهُ
يقول مَنْ يَسمعُ منه الخبرا: ** «سمعتُ» أو «حدّثنا» أو «أخْبرَا»
ونحوها «نبّأنا» وإنْ يَقُل: ** قال كذا بَغيرِ «لي» فلا يَدُلّ[17]
ومثلهم الشيخ المامقانيّ (ت:1351هـ) حيث عدّ لفظ «حدّثنا» دالّاً على قراءة الشيخ على تلميذه[18].

وبناءً على ما تقدّم: فإنّ تصريح البرقيّ بالسّماع من أبي هاشم الجعفريّ بلفظ «حدّثنا» يعتبر من أوثق طرق التحمّل والأداء ودالّاً على سماعه المباشر منه وقراءة الجعفريّ عليه، وقد أقرّ البهبوديّ بأنّ الأداء عن سماع أو مناولة صحيحة معتبرٌ، قال: (فعندي أنّ الرجل[19] كان يروي عن الضعفاء كثيراً، ويروي بالوجادة عن النُّسخ مرسلاً من دون مناولةٍ وسماعٍ ومن دون تحرّز واستيثاق بصحّة النسخة وإحراز نسبتها إلى مؤلِّفها فيكون حديثه مردوداً إلا إذا كان حديثه عن سماعٍ أو مناولةٍ صحيحةٍ، فليتحرَّر أحاديثه بدقَّة، والله المستعان)[20]، وقد تحرّينا حديث البرقيّ عن أبي هاشم الجعفريّ فوجدناه منقولاً مع التصريح بالسّماع بصيغة من أوثق صيغ التحمّل والأداء كما اتّضح من خلال أسانيد الصدوق الصحيحة، فتدبّر.

والحديث من طريق الشيخ الكليني أو الشيخ الصدوق صحيح الإسناد عند العلماء قاطبةً، وليس في إسناده من يُخدَشُ أو يُضَعَّفُ، كما أنَّ الإسناد خالٍ من العلل الموهنة، وقد صحَّحَ الشيخ أبو الفتح الكراجكي (ت: 449هـ) هذا الحديث وأشار إلى شهرته والإجماع على صحّته، فقال: (والحديث مشهور بين الشيعة، مجمعٌ على صحّته عند الطائفة الإماميّة)[21]، والحقّ ما قاله، إذ لا خلاف بين علماء الطائفة في وثاقة الرجال الناقلين لهذا الحديث الشريف، كما أنّه لم يُؤثر عنهم طعنٌ في سنده أو متنه.

وأما قوله عن تصحيح الشيخ الصفّار للحديث المذكور: (وإنما يتعلق بصحّة الحديث من جهة التاريخ فقط وإن كان في ذلك غير مصيب) فهو خطأ محض، إذ إنّ التعلق بصحّة الحديث من جهة التّاريخ وتقدُّمه على زمن الغيبة أمرٌ يعتمدُ على استدلال عقلائيّ حاصله أنَّ تطابق الإخبارات المتعددة من قبل العديد من الرواة من دون اختلاف وتباين، ثم تحققها في الخارج بنفس ما وُصِف في هذه الإخبارات لا يكون إلا بتدبيرٍ إلهيٍّ، وإلا فلو كان من اختلاقات الرواة فإنّ أهواءهم لا تتطابق على أمر واحد اتفاقاً {ولَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيراً}[22]، ولا سيّما أنّ المخالفين للتشيع قد اتّهموا رواة الشيعة بأنّهم قد اختلقوا هذه النصوص بعد وفاة الإمام الحادي عشر، فاضطروا إلى اختراع أحاديث النص على اثني عشر إماماً، ولكنّه قد ثبت بما لا يُرتاب فيه أنّ رواة الشيعة قد حدّثوا بأحاديث النصّ على اثني عشر إماماً وغيبة الثاني عشر منهم قبل وفاة الإمام العسكريّ (عليه السّلام) ووقوع الغيبة بسنوات طويلة جداً، وهنا تظهر فائدة الاستناد إلى التعلّق بصحة هذا النوع من الأحاديث من جهة التاريخ، فهذا دالٌّ على أنّ تلك الأحاديث لم تكن مخترعةً بل إنّها رُويت قبل زمان الغيبة بسنوات طويلة ثم ظهر صدقها ومطابقتها للواقع بعد وفاة الإمام الحادي عشر سنة 260 هجريّة، وقد جرت سيرة العلماء على تصحيح أحاديث النصّ بهذه الطريقة، وقد وقفنا على نصوص متعددة لهم في هذا الباب، نذكر منهم:
1. الشيخ ابن قبة الرازيّ، قال: (ثُمّ ما زالت الأخبار تَرِدُ بنصِّ واحدٍ على آخر حتى بلغ الحسن بن عليٍّ عليه السلام، فلمَّا مات ولم يظهر النصُّ والخلفُ بعده رجعنا إلى الكتب التي كان أسلافنا رووها قبل الغيبة، فوجدنا فيها ما يدلُّ على أمر الخلف من بعد الحسن عليه السلام وأنّه يغيبُ عن الناس ويخفى شخصه، وأنّ الشيعة تختلف وأنّ النّاس يقعون في حيرة من أمره، فعلمنا أنّ أسلافنا لم يعلموا الغيب وأن الأئمة أعلموهم ذلك بخبر الرَّسُول، فصحَّ عندنا من هذا الوجه بهذه الدلالة كونه ووجوده وغيبته)[23].
2. الشيخ الصدوق، قال: (وذلك أنَّ الأئمة عليهم السلام قد أخبروا بغيبته عليه السلام ووصفوا كونها لشيعتهم فيما نُقل عنهم واستُحفِظَ في الصُّحُف ودُوِّنَ في الكتب المؤلَّفة من قبل أن تقعَ الغيبة بمئتي سنة أو أقل أو أكثر، فليس أحد من أتباع الأئمة إلا وقد ذكر ذلك في كثير من كتبه ورواياته ودوَّنهُ في مصنفاته، وهي الكتب التي تعرف بـ«الأصول» مدوَّنة مستحفظة عند شيعة آل محمد عليهم من قبل الغيبة بما ذكرنا من السنين)[24].
فالحاصل: إنّ الاستدلال بهذه الطريقة صحيح لا غبار عليه، وهي طريقة عقلائية معتبرة تفيد العلم بالصدور، وقد اعتمد عليها العلماء قديماً.

خلاصة البحث:
1. لم يثبت ضعف الشيخ أحمد بن محمد بن خالد البرقيّ عند علماء الطائفة، بل إنّهم نصّوا على وثاقته واعتمدوا على كتابه «المحاسن».
2. إنّ حديث الخضر في النصّ على الأئمة (عليهم السلام) متّصل الإسناد برواية الثقات، وهو من الأحاديث المتّفق على صحّتها عند علماء الإمامية، وقد تبيّن بطلان شبهة أخذه من نسخةٍ مجعولةٍ على أبي هاشم الجعفريّ بل هو من تحديثه وروايته للبرقيّ سماعاً.
3. تصحيح أحاديث النصّ على الأئمة الاثني عشر من جهة تقدّمها على زمن الغيبة يستند إلى نكتة عقلائيّة موجبة للعلم، فإنّ مطابقة المضمون للواقع مع كون الإخبار غيبياً توجب العلم بالصدور، وهذه الطريقة لم ينفرد بها الشيخ محمد بن الحسن الصفّار بل قد طبّقها جملةٌ من العلماء، وقد ذكرنا منهم ابن قبة الرازيّ والصدوق.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الكافي، ج2، ص677-680، رقم الحديث 1388، كتاب الحجة، باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم، ح1.
[2] معرفة الحديث، ص109-110.
[3] نقل ترجمة النجاشي للبرقي في معرفة الحديث، ص105، وفيها قول النجاشي: وكان ثقةً في نفسه.
[4] معجم رجال الحديث، ج3، ص53-54، رقم الترجمة 861.
[5] قاله السيد التفريشي في هامش كتابه نقد الرجال، ج1، هامش ص156، باب الهمزة/أحمد.
[6] الفوائد الرجاليّة، ج1، ص342.
[7] رجال النجاشي، ص76، رقم الترجمة 182.
[8] الفهرست، ص51-52، رقم الترجمة 65.
[9] رجال ابن الغضائري، ص39، رقم الترجمة 10.
[10] معرفة الحديث، ص109.
[11] الغيبة، ص58، الباب4: ما روي في أن الأئمة اثنا عشر وأنّهم من الله وباختياره، ح2.
[12] كمال الدين وتمام النعمة، ج2، ص346، باب: ما أخبر به الحسن بن علي بن أبي طالب من وقوع الغيبة بالقائم وأنّه الثاني عشر من الأئمة، ح1/عيون أخبار الرضا، ج1، ص87، رقم الحديث 76، الباب6: باب النصوص على الرضا عليه السلام بالإمامة في جملة الأئمة الاثني عشر عليهم السلام، ح35.
[13] رسائل في دراية الحديث كتاب: البداية في علم الدراية، ج1، ص137-138.
[14] أي أحمد بن محمد بن خالد البرقي.
[15] رسائل في دراية الحديث كتاب: المقنعة الأنيسة والمغنية النّفيسة، ج2، ص39.
[16] سبيل الهداية في علم الدراية، ص170.
[17] رسائل في دراية الحديث كتاب: موجز المقال في مقاصد علم الدراية، ج2، ص502.
[18] مقباس الدراية، ج2، ص183-185.
[19] يقصد به الشيخ أحمد بن محمد بن خالد البرقيّ.
[20] معرفة الحديث، ص110.
[21] الاستبصار في النص على الأئمة الأطهار، ص103. ونصّ على صحّة سنده أيضاً كلٌّ من: السيّد الميرداماد في شرعة التسمية، ص25، والعلّامة المجلسي في مرآة العقول، ج6، ص203.
[22] سورة النساء، الآية 82.
[23] نقله من كتابه الشيخ الصدوق في: كمال الدين وتمام النعمة، ج1، ص144.
[24] كمال الدين وتمام النعمة، ج1، ص49-50.