مشاركة مميزة

فهرس مقالات مدوّنة مصباح الهداية

الأحد، 20 سبتمبر 2020

نظرة عقائديّة في تأخير دفن النبي (صلى الله عليه وآله)

بسم الله الرحمن الرحيم
نظرة عقائديّة في تأخير دفن النبي (صلى الله عليه وآله)

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، أبي القاسم محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.

أخذت مسألة تأخير دفن النبي (صلى الله عليه وآله) حيّزاً من الاهتمام بين العلماء والمتكلّمين، وقد كان نظر علماء أهل السنة في هذا الحدث إلى إظهار أهميّة الإمامة عند الصحابة، وذلك ببيان تبريرٍ مفاده أنّ حلّ مسألة الإمامة كانَ أكثر ضرورةً من دفن النبيّ فلذلك أُخّرَ؛ لأنّ نظم أمور المسلمين متعلّق بها، ورغم عدم الخلاف بين الفريقين حول أهميّة الإمامة، إلا أنّ هذا الحدث يفتح الباب لتساؤلاتٍ أكبر، وهي حول إغفال النبيّ (صلى الله عليه وآله) لهذه المسألة كما يدّعي علماء أهل السنة والجماعة، وبعبارة أوضح: رغم أهميّة الإمامة وتفوّقها على ضرورة دفن النبي – كما يبررون- إلّا أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يتطرّق لها أبداً - بحسب ما يفترضون -، ولم يصدر عنه شيءٌ يرسمُ ملامح النّظام السياسيّ في الإسلام، مع شدّة اهتمامه بجزئيّات المسائل في كثير من القضايا، وهذا التساؤل يبقى مطروحاً أمام الباحثين عن الحقيقة، ليُعرف: هل أغفلَ النَّبِيُّ أهمَّ مسألة في تاريخ الإسلام أم أنّه تطرّق لذلك الأمر؟ وكيف يُدرك الصحابة أهميّة الإمامة على دفن خير البريّة، في حين أنّه لم يدرك ذلك الأمر المُهمّ في حياته ولا تعرّضَ له من قريبٍ أو بعيد؟!

ومن باب ذكر الشواهد، نورد ما أشار إليه العديد من العلماء والمؤرخين والمحققين حول قضيةِ قيام الصحابة بتأخير دفن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) حتَّى انتهوا من قضية الخلافة في سقيفة بني ساعدة، ومن هؤلاء:
1. الفقيه الشافعيّ الشيخ أبو زكريا النووي
قال(1): (وكان عذرُ أبي بكر وعمر وسائر الصحابة - رضي الله عنهم - واضحاً؛ لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع يترتب عليه مفاسد عظيمة، ولهذا أخَّروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة لكونها كانت أهم الأمور).
2. سعد الدين التفتازاني
قال(2): (...، وهو العمدة إجماع الصحابة حتى جعلوا ذلك أهم الواجبات، واشتغلوا به عن دفن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا عقيب موت كل إمام).
3. الشيخ أبو بكر ابن العربي المالكيّ
قال(3): (فإن قيل فلم أخر دفن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلنا: لثلاثة أوجه:
أحدها: أن الناس لم يتفقوا على موته، فكيف يُدفن رجل قال واحد: مات، وقال آخر: لم يمت.
الثاني: إنه إنما أخر دفنه لأنه لم يُعلم أين يدفن، فقال قوم: يُدفن في البقيع، وقال قوم: في المسجد، وقال قوم: يُحبَس حتى يُحمَل إلى أبيه إبراهيم إذا فُتِحَتْ، حتَّى قال العالِمُ الأكبر: سمعته يقول: ما دُفِنَ قطُّ نبيٌّ إلا حيثُ يموت.
الثالث: أنهم اشتغلوا في الخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة فنظروا فيها حتى استتب الأمر وانتظم الشمل واستوثقت الحال، واستقرت الإمامة في نصابها فرجعوا بعد ذلك إلى النبي، فنظروا في دفنه فغسَّلوه وكفَّنوه ودفنوه).
4. الشيخ محمد رشيد رضا
قال(4): (ومع هذا قال عمر: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها. أي إن الشورى في انتخابه لم تكن تامة، وإنما كان هو الذي عجَّل بالبيعة خوفاً من عاقبة طول أمدِ الخلاف مع إجماعهم على عدم دفن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نصب الخليفة له).
5. الشيخ عبد العزيز بن باز 
قال(5): (تأخير الدفن لحاجة لا بأس به، كما أُخِّرَ دفن النبي للبيعة).
6. الشيخ حسن فرحان المالكي 
قال(6): (وكانت البيعة العامة لأبي بكر قد تمت قبل دفن النبي صلى الله عليه وآله).
7. الشيخ صالح الفوزان
قال(7): (ولهذا لمَّا توفي الرسول - صلى الله عليه وسلّم - بادر الصحابة بتنصيب إمام لهم قبل أن يتجهوا إلى تجهيز الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودفنه؛ لعلمهم بضرورة هذا الأمر، وأنه لا يصلح وقت ولو يسير بدون وجود الإمام للمسلمين، فاجتمعت كلمتهم على أفضل صحابة رسول الله وهو أبو بكر الصديق فبايعوه خليفة لهم، وعند ذلك اتجهوا إلى تجهيز الرسول والصلاة عليه ودفنه).

وهنا يمكن للمتأمل المنصف أن يتساءل: إذا كانت الحاجة إلى تنصيب إمامٍ للأمة بهذه المكانة من الأهمية بحيث لا تحتمل التأخير لعدَّة أيام ريثما ينتهي تغسيل النبيّ (صلى الله عليه وآله) والصلاة عليه وإنهاء عزائه، فكيف يتجاهلها الله عزوجل وكذلك النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وهو الذي قيل فيه على لسان بعض المشركين حينما كانوا يخاطبون أصحابه(8): (إني لأرى صاحبَكم يُعلِّمُكم حتى الخراءة)، فهل كان النبي (صلى الله عليه وآله) مهتماً بدقائق الأمور الصغيرة وتاركاً لأعظمها، والتي قد يفسد نظام المجتمع الإسلامي بتأخيرها ليومين بحيث نالت أهميّة أكبر من أهمية دفن سيد الأنبياء والمرسلين؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شرح النووي على مسلم، ج10، ص 370، تحقيق: مازن بن محمّد السرساويّ، الناشر: دار المنهاج القويم - دمشق، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1441هـ/2020م.
(2) شرح المقاصد ج5، ص 236، تحقيق: عبد الرحمن عميرة، الناشر: دار عالم الكتب - بيروت، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1419هـ/1998م.
(3) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس، ج2، ص448 (كتاب الجنائز)، تحقيق: محمد عبد الله ولد كريم، الناشر: دار الغرب الإسلامي، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1992م.
(4) تفسير المنار، ج2، ص493، عند تفسير الآية 252 من سورة البقرة، الناشر: دار المنار - مصر، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1350هـ.
(5) الحلل الإبريزية من التعليقات البازية على صحيح البخاري، ج1، ص383، تأليف: عبد الله بن مانع الروقي، الناشر: دار التدمرية للنشر والتوزيع - الرياض، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1428 هـ/2007م.
(6) قراءة في كتب العقائد..المذهب الحنبلي نموذجاً، ص 43، الناشر: مركز الدراسات التاريخية - عَمَّان، الطبعة: الثالثة، سنة النشر: 1430هـ/2009م.
(7) الإعلام بكيفية تنصيب الإمام في الإسلام، ص6، الناشر: مؤسسة الدعوة الخيريّة، سنة النشر: 1434هـ.
(8) مسند أحمد، ج 39، ص 107، رقم الحديث 23703، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، الناشر: مؤسسة دار الرسالة - بيروت، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1429هـ/2008م.