بسم الله الرحمن الرحيم
الموروث الروائي بين الحقيقة ووهم النقد العلمي - الحلقة الخامسة
تطرّق السيِّدُ كمال الحيدري في كتابهِ إلى (ملامح عصرِ ما قبل التدوين) وذكر أنَّ الملمح الأوّلَ هو وضعُ الحديث واختلاقه، وتكلَّم في أغلب مساحة البحث حول الوضع في مدرسة المخالفين في ظل قصورٍ واضح في تصوير هذا المطلب عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، حيث إنَّ المسألةَ تختلف تماماً عما يمكن أن يظنَّه الآخرون قياساً لمذهب العترة الطاهرة بمدرسة المخالفين التي لا تنتهي مشاكل تراثها السقيم.
إنَّ الحديث الشريف عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لم يكن مَصُوناً عن الوضع، بمعنى أن الدسّ فيه كان ممكناً بل حاصلاً، وكان الوضاعون على مختلف مآربهم يضعون الحديث ويكذبون على لسان الله ورسوله، ولكن هذا لا يعني أن حركة الوضع وتأثيرها في المدرسة المخالفة كانت بنفس المقدار عند الشيعة الإماميّة، فالظروف مختلفة وآليات التأثر والمواجهة والحدِّ من الآثار أيضاً مغايرة كليَّاً، ولهذا فإنَّ الاختصار المخلّ فيما أورده السيد بخصوص مذهب الإماميّة - في حال اعتبرنا أنه أورد شيئاً يخصهم أيضاً وإلا فالكلام والمصادر والاستنباط كان في بحثه من كتب المخالفين - لا يمكنه أن يخدمَ القارئ الباحث عن الإنصاف والحقيقة في معرفة تراث أهل البيت (عليهم السلام) وقيمته، حيث تحدث المؤلِّفُ طيلة بحثه عن الوضع وأسبابه وآثاره في مدرسة المخالفين واستشهد بكلامهم ثم وضع بين الثنايا ما تيسر من اقتباسات يسيرة تخصُّ التراث الشيعي، ليتحمّل تراثنا العظيم وزر غيره بعنوان جامع وهو (التراث الإسلاميّ)، ولأجل هذا شدَّدنا على مسألة الفصل بين التراثين خلال التفحُّص الدقيق لكل بحثٍ علميٍ يختص بهما، كالبحث حول مرحلة التدوين وحركة التحديث والكتابة والتصنيف والوضع والفهرسة وعلم الرجال وحركته وطرق التنقيح والتصحيح ..إلخ، وهو ما لم يُراعِه السيد الحيدري في بحثه من الأساس، بل كان الخلط هو العنصر المشترك بين جميع أبحاث الكتاب!
إنَّ التراث الشيعي الذي يتمثل قوامه في أصول أصحاب الأئمة (عليهم السلام) قد تعرَّض لمحاولات الدسِّ والإفساد على أيدي الغلاة والوضَّاعين ولا يمكن لمُنصفٍ أن ينكر هذه الحقيقة، وقد كان الأئمة (عليهم السلام) ينبهون لهذه الأمور ويتصدون لها بوسائل علمية ومناهج تحقيقية لا زال العلماء يستفيدون منها إلى زماننا الحاضر، ومن هذه الوسائل:
أولاً: التحذير بالنصِّ على بطلان بعض الأحاديث بعينها، وهذا ذكرنا منه نماذج في الحلقة الثانية، حيث كان الأئمة (عليهم السلام) يبطلون أحاديث شائعة عند محدثي المسلمين ويبينون وجه بطلانها، وهذا المقدار ملحوظٌ في سيرتهم وأحاديثهم بشكل كبير.
ثانياً: تعليم الأصحاب طرق تمييز الرواية والتعامل معها عبر تأسيس قواعد تنقيحية لمضامين الروايات مثل: العرض على القرآن الكريم، الأخذ بالمشهور بين الفقهاء الإماميَّة وترك الشاذّ النادر، ترك ما وافق العامَّة عند الترجيح والتمسُّك بما خالفهم، تفحُّص المتون وفق ضوابط العقل القطعيّ .. إلخ.
وأحياناً عبر الإرشاد إلى مظانِّ الأحاديث المدسوسة كقول الرضا (عليه السلام) (1): (يا ابن أبي محمود، إنَّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلوّ، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، ..إلخ).
وقول الصادق (عليه السلام) (2): ( .. وإن قوماً كذبوا عليّ، ما لهم أذاقهم الله حر الحديد؟! فوالله ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، ما نقدر على ضرٍ ولا نفعٍ، إنْ رحمنا فبرحمته وإن عذَّبَنا فبذنوبنا، والله ما لنا على الله من حُجَّةٍ، ولا معنا من الله براءة، وإنَّا لميتون ومقبورون ومنشرون ومبعوثون وموقوفون ومسؤولون، ويلهم! ما لهم لعنهم الله؟! فلقد آذوا الله وآذوا رسوله صلى الله عليه وآله في قبره وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي).
فهاتان الروايتان مثلاً تشكلان مدخلاً لمعرفة بعض الروايات الموضوعة، حيث أشارتا إلى مظان الوضع والكذب، وهي الغلو كتأليه الأئمة (عليهم السلام) وأنهم قدماء مستقلون بالقدرة والإرادة، أو التقصير أو ما يسوِّغ إذاعة مثالب أعداء الأئمة (عليهم السلام) عملاً بخلاف التقيِّة.
وكذلك عن طريق إعلام الأئمة (عليهم السلام) بأحوال الرواة مدحاً وقدحاً، والروايات في هذا المجال كثيرة بحيث لا يفي المقام بذكرها.
ثالثاً: الإشارة إلى كتبٍ مدسوس فيها كإشارة الإمام الصادق (عليه السلام) لدس المغيرة بن سعيد في كتب أصحاب الباقر (عليه السلام) وهذا يعني أنَّ الإمام قد بدأ عملية تنقيح جديدة، وهكذا كان يفعلُ كل إمامٍ من الأئمة (عليهم السلام) في حال تطرق الوضع والدس لبعض كتب الأصحاب.
رابعاً: التنقيح عبر منهج عرض الأصول والكتب على الأئمة (عليهم السلام) وقد مارسه العديد من الأصحاب ومن الروايات المشيرة إلى هذا:
1. روى الكشي بسنده عن محمد بن عيسى بن عبيد أن يونس بن عبد الرحمن قد عرض بعض كتب أصحاب الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) على الإمام الرضا (عليه السلام) فأبطل منها أحاديث كثيرة (3): (قال يونس: وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر ووجدت أصحاب أبي عبد الله متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم، فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا عليه السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله عليه السلام).
2. روى الشيخ النجاشي عن أبي هاشم الجعفري أنَّه عرض على العسكري (عليه السلام) كتاب (يوم وليلة) ليونس بن عبد الرحمن فأقرَّه، فقد روى النجاشيّ (4): (وقال شيخنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان في كتاب مصابيح النور: أخبرني الشيخ الصدوق أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه رحمه الله قال: حدثنا علي بن الحسين بن بابويه قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري قال: قال لنا أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري رحمه الله: عرضت على أبي محمد صاحب العسكر عليه السلام كتاب يوم وليلة ليونس فقال لي: تصنيف من هذا؟ فقلت: تصنيف يونس مولى آل يقطين. فقال: أعطاه الله بكل حرف نوراً يوم القيامة).
3. عرض كتاب عبيد الله الحلبي على الإمام الصادق (عليه السلام)، قال الشيخ النجاشي (5): (وكان عبيد الله كبيرهم ووجههم، وصنف الكتاب المنسوب إليه وعرضه على أبي عبد الله عليه السلام وصححه قال عند قراءته: أترى لهؤلاء مثل هذا؟).
4. عرض كتاب سليم على الإمام السجَّاد (عليه السلام) وقد قال فيه (6): (هذا حديثنا نعرفُه).
5. عرض كتاب الديات المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) على الإمام الصادق عليه السلام، ثم على الإمام الرضا عليه السلام مرتين.
أما عرضه على الإمام الصادق (عليه السلام) فقد روى الشيخ الكليني (7): (عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن ظريف، عن أبيه ظريف بن ناصح، عن رجل يقال له: عبد الله بن أيوب، قال: حدثني أبو عمرو المتطبِّبُ، قال: عرضت هذا الكتاب على أبي عبد الله عليه السلام).
وأما عرضه على الإمام الرضا (عليه السلام) فقد روى الشيخ الكليني (8): (علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى، عن يونس؛
وعن أبيه، عن ابن فضال جميعاً، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال يونس: عرضت عليه الكتاب فقال: هو صحيح) وروى أن أبا الجهم قد عرضه على الرضا (عليه السلام) (9) فيكون قد عُرض هذا الكتاب ثلاث مرَّات.
وفي هذا يقول الشيخ آقا بزرگ الطهراني (10): (يظهر من أسانيده المذكورة في الكتب أنه من الكتب المشهورة وقد عُرِضَ على الأئمة عليهم السلام مكرراً).
6. عرض كتاب (اختيار الأيَّام) المنسوب إلى الإمام الصادق (عليه السلام) على الإمام الهادي (عليه السلام)، روى الطبري في (بشارة المصطفى) (11): (أخبرنا الشيخ المفيد أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي (رحمه الله) بقراءتي عليه في شهر رمضان سنة إحدى عشرة وخمسمائة بمشهد مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: حدثنا السعيد الوالد أبو جعفر الطوسي (رحمه الله)، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى الفحام السامري، قال: حدثني أبو الحسن محمد بن أحمد بن عبيد الله المنصوري، قال: حدثنا أبو السري سهل بن يعقوب بن إسحاق الملقب بأبي نؤاس المؤذن في المسجد المعلق في صف شنيف بسامرا، قال المنصوري: وكان يلقب بأبي نؤاس لأنه كان يتخالع ويطيب مع الناس ويظهر التشيع على الطيبة فيأمن على نفسه، فلما سمع الإمام علي بن محمد لقبني بأبي نؤاس، قال: يا أبا السريّ، أنت أبو نؤاس الحق ومن تقدمك أبو نؤاس الباطل.
قال: وقلت له ذات يوم: يا سيدي قد وقع لي اختيارات الأيام عن سيدنا الصادق (عليه السلام)، مما حدثني به الحسن بن عبد الله بن مطهر، عن محمد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، عن سيدنا الصادق (عليه السلام) في كل شهر فأعرضه عليك، فقال لي:افعل. فلما عرضته عليه وصححته قلت : يا سيدي، ...إلخ).
وكذا ما يظهرُ من بعض الروايات اشتهار بعض الكتب بين الأصحاب وإقرار الإمام (عليه السلام) لها كما الحال في كتاب حريز في الصلاة، فقد روى الشيخ الكليني (12): (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) يوماً: يا حماد، تحسن أن تصلي؟ قال: فقلت يا سيدي أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة، فقال: لا عليك يا حماد، قم فصلِّ..إلخ)، وكتاب للفضل بن شاذان، كما في كتاب الكشي عن الإمام العسكري (عليه السلام) أنَّه قال لما رأى أحد مصنفات الفضل (13): (أغبط أهل خراسان بمكان الفضل بن شاذان وكونه بين أظهرهم).
خامساً: يمكننا من خلال فهم مشروع الإمامة الإلهية أن نضع قاعدةً عامة في خصوص هذه المسألة وخلاصتها أن وجود الأئمة (عليهم السلام) بعينه عملية تنقيح مستمرة لدين الإسلام أصولاً وفروعاً عبر ترسيخ معارف الدين وتعليمها لأصحابهم وإحقاق الحق وإعلائه ورد الباطل إلى أهله، ولا يُعقل أن يتصدَّى الإمام لأداء مهمَّته، ثم ينزوي تاركاً حركة الوضع والغلو تتزايد وتنتشر وتفسد التراث الشيعي الذي دوَّنه أصحابهم على مدى عشرات السنين. ولو سلمنا بأن هذا لم يقوموا به لنفينا أحد أهمِّ الأغراض الأساسيَّة من إمامتهم، فلا يصحُّ هذا القولُ بأيّ حال.
يبقى الكلام في ما آل إليه التراث الشيعي بعد غيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام) وهي مرحلة زمنيَّة لا تقلُّ تأميناً وضبطاً عن سابقتها، حيثُ كان للسفراء الأربعة دورٌ في متابعة الجانب العلميّ في المجتمع الشيعي بحسب الأهميَّة ووفق ما تتيحه الظروف التي كانت تحيط بهم آنذاك، ويمكن أن يدل على هذا ما يلي من الأخبار:
1. روى الشيخ الطوسي في (الغيبة) (14): (وأخبرني الحسين بن إبراهيم، عن أحمد بن علي بن نوح، عن أبي نصر هبة الله بن محمد بن أحمد، قال: حدثني أبو عبد الله الحسين بن أحمد الحامدي البزاز المعروف بغلام أبي علي بن جعفر المعروف بابن زهومة النوبختي وكان شيخاً مستوراً، قال: سمعت روح بن أبي القاسم بن روح يقول: لما عمل محمد بن علي الشلمغاني كتاب التكليف، قال [الشيخ] يعني أبا القاسم رضي الله عنه: اطلبوه إليَّ لأنظره، فجاؤوا به فقرأه من أوله إلى آخره، فقال: ما فيه شيء إلا وقد روي عن الأئمة إلا موضعين أو ثلاثة، فإنه كذب عليهم في روايتها لعنه الله).
2. روى الشيخ الطوسي في (الغيبة) (15): (وقال أبو الحسين بن تمام : حدثني عبد الله الكوفي خادم الشيخ الحسين بن روح رضي الله عنه ، قال: سئل الشيخ - يعني أبا القاسم رضي الله عنه - عن كتب ابن أبي العزاقر بعدما ذم وخرجت فيه اللعنة، فقيل له: فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها ملاء؟ فقال: أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي صلوات الله عليهما وقد سُئل عن كتب بني فضال، فقالوا: كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ فقال صلوات الله عليه: خذوا بما رووا وذروا ما رأوا).
3. وروى أيضاً (16): (وأخبرني الحسين بن عبيد الله، عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن داود القمي، قال: حدثني سلامة بن محمد قال: أنفذ الشيخ الحسين بن روح رضي الله عنه كتاب التأديب إلى قم، وكتب إلى جماعة الفقهاء بها وقال لهم: انظروا في هذا الكتاب وانظروا فيه شيء يخالفكم؟ فكتبوا إليه: إنه كله صحيح، وما فيه شيء يخالف إلا قوله: في الصاع في الفطرة نصف صاع من طعام، والطعام عندنا مثل الشعير من كل واحد صاع).
وهكذا كان الحال في زمن السفراء الأربعة، حيث كان لهم اعتناء بمسألة الكتب، إلا أنَّه بسبب ظروف التقيَّة، لم يكن هذا الأمر متاحاً بشكل دائم، فكان العلماء الكبار والفقهاء الأجلاء في قم وبغداد لهم دورٌ واسع في هذا المجال، وبقي هذا الأمر إلى ما بعد انتهاء زمن الغيبة الصغرى حيث تضافرت جهود العلماء الفقهاء والمحدثين الأجلاء على تنقيح أصول الأصحاب وضبطها وتصنيفها والاعتناء الشديد بها، فكانت كتبهم من أضبط المصنَّفات الحاوية لمعظم ما في أصول أصحاب الأئمة (رضوان الله عليهم)، والكلام في متانة مصنَّفات الأصحاب يأتي في موضعه، وإنما نقتصر الآن على بيان أن حركة الوضع والدسّ كانت ضعيفةً أمام الجهود العلمية الضخمة التي بذلها الأئمة (عليهم السلام) والسفراء الأربعة (رضي الله عنهم) وعلماء الطائفة العظام (قدست أسرارهم)، بفضل المتابعة والتنبيه والتحرير والتنقيح الذي كان شغلهم الشاغل وعملهم المتواصل من قديم الزمان وإلى الآن، وفوق هذا كلّه لو سلَّمنا بوجود تأثير لحركة الوضع على كتبنا الأصيلة وبورود بعض الأحاديث المدسوسة، فإنه لم يكن لها تأثير عظيم في الجانب العقائدي أو الجانب الفقهي، وأبحاث العلماء هي الفيصل في هذه المسألة، حيث نراهم ينقحون ويردون ما يتعارض مع مسلَّمات القرآن والعقائد والفقه والعقل القطعي فلم يُبتلَ جمهور الإماميَّة في كتب العقائد بالتجسيم أو انتقاص عصمة النبي (صلى الله عليه وآله) ..إلخ من الانحرافات العقائديّة، أما على نحو أفراد العلماء فإنَّ العصمةَ لأهلها وما من خطأ إلا وقد تتبعه أهل التحقيق، وبهذا يتضح أن جهود الوضاعين قد ذهبت أدراج الرياح، وعلى النقيض تماماً ما عند العامة، فهم قد ابتلوا بالوضَّاعين وعجزوا عن مواجهة ذلك حتَّى صنفوا في الأحاديث الموضوعة ما لم يصنفه أحد من المسلمين، ومع ذلك بقيت هذه الموضوعات تخدعهم وتضرب جذور عقائدهم حتى ابتلوا بروايات التجسيم والقدح في الذات الإلهيَّة والتعريض بالنبوّة والأنبياء عليهم السلام والخرافات المعارضة للعقل القطعيّ والأساطير الإسرائيلية، فضلاً عن عجزهم إلى الآن عن تنقيح التفاسير من روايات الإسرائيليات، بمن فيهم من سعى لذلك العمل ولم يوفق بشكلٍ تام لعموم البليَّة واتساع مداها.
إنَّ ما تقدم نقدٌ إجمالي لما ذكره السيِّد الحيدري في الملمح الأول من ملامح عصر ما قبل التدوين، وكافٍ لإيضاح مدى الخلط والتغرير الحاصل في هذا المبحث، أما على نحو التفصيل فنذكر بعض الملاحظات على ما أورده:
حول المنحرفين من أصحاب الحديث عند المسلمين
تكلّم السيد الحيدري في هذا الجانب حول وجود المنحرفين في أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحاب الأئمة (عليهم السلام)، ومما توصّل إليه أنَّ كثيراً من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) كانوا يكذبون وكذلك كثير من أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، إلا أنَّ هذه النتيجة لا تحقق مطلوب السيّد الحيدري في بيان تأثير ذلك على الموروث الروائيّ؛ لأنّ طريقة تعامل علماء السنة مع الصحابة تختلف تماماً عن تعامل الشيعة مع أصحاب الأئمة المنحرفين، فإنَّ وجود المنحرفين بين الصحابة قد ألقى بظلاله على الجانب الروائي وهذا يأتي تبعاً لقبولهم كل أحاديث الصحابة، أما الإماميّة فإنّ حديث الأصحاب المنحرفين الضّالين لم يؤثّر على صورة الروايات بشكل عامّ؛ لأنهم كانوا يتعاملون وفقاً لتفصيلٍ سنذكره قريباً.
قال السيِّد الحيدري (17): (إذن، كثيرٌ من صحابة النبي صلى الله عليه وآله تنكروا للإسلام ومبادئه، وانقادوا لشهواتهم وأهوائهم، كما أنَّ هنالك من ينتمي لمدرسة أهل البيت أعني من أصحاب الأئمة أنكر إمامة الإمام علي الرضا وصار واقفياً لأجل ثلاثين ألف دينار، وأوجدوا مذهب الواقفية حتى يحبسوا عندهم الأموال التي وصلت إليهم بصفتهم وكلاء وكان بعضهم من خواص الإمام الكاظم كالبطائني الذي ادّعى أن الإمام لم يمت لتبقى الأموال بيده).
وهذه المقارنة فيها نوع من الإجحاف بحق تراث أهل البيت (عليهم السلام) فإنَّ مدرسة المخالفين قد أخذت عن جميع الصحابة في كل الأحوال، أمَّا بخصوص بعض أصحاب الأئمة (عليهم السلام) فقد كان هناك نوعٌ من الانقطاع عنهم بعد إعلانهم الانحراف ويدلُّ عليه الموقف الشديد الذي اتخذه الإمام الرضا (عليه السلام) تجاههم، وبهذا نعلم أن الأصحاب كانوا يحترزون عن رواياتهم بعد انحرافهم، وأمَّا في حال استقامتهم فكانوا يأخذون عنهم ويروون كتبهم وأصولهم، وهذه الخطوة المهمة في التفريق بينهم كانت مهمَّة في صيانة التراث عن أن يكون ألعوبة بيد أصحاب المآرب الدنيوية. هذا بشكلٍ عام، أما ما يخص البطائني وزياد بن مروان القندي اللذين ذكرهما السيِّدُ فالكلام فيهما على هذا النحو:
علي بن أبي حمزة البطائني هو رأس الوقف وكان وكيلاً للكاظم (عليه السلام)، ثم جحد إمامة الرضا (عليه السلام) بعد وفاة أبيه، وقد امتنع الأصحاب بعد وقفه عن الرواية عنه، أما رواياته قبل انحرافه فهي مورد اعتماد الطائفة وفي هذا يقول الشيخ الطوسيّ (18): (ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحية مثل عبد الله بن بكير وغيره، وأخبار الواقفة مثل سماعة بن مهران وعلي بن أبي حمزة وعثمان بن عيسى) ونفس الأمر فيما يخص الغلاة والمتهمين فإنَّ الشيخ قد أشار إلى التفريق بين أحوالهم قبل الانحراف وبعده، قال (19): (وأما ما ترويه الغلاة والمتهمون والمضعفون وغير هؤلاء، فما يختص الغلاة بروايته، فإن كانوا ممن عرف لهم حال استقامة وحال غلو، عُمِلَ بما رووه في حال الاستقامة وترك ما رووه في حال خطئهم).
وزياد بن مروان القنديّ حاله كحال البطائنيّ، وقد كان في حياة الكاظم (عليه السلام) مستقيماً بل وروى النصَّ على الرضا (عليه السلام) في زمن الكاظم (عليه السلام)، إلا أنَّه جحد ذلك فيما بعد.
قال الشيخ الصدوق بعدما ذكر خبر النصِّ على الرضا (عليه السلام) برواية القندي (20): (إن زياد بن مروان القندي روى هذا الحديث ثم أنكره بعد مضي موسى عليه السلام وقال بالوقف وحبس ما كان عنده من مال موسى بن جعفر عليه السلام)، وقد كان مقدار المال الذي لديه سبعون ألف دينار، فيظهر أنَّ زياداً كان وكيلاً للكاظم (عليه السلام) ومعتمداً عنده، ثم سقط من جملة الأعاظم بعد وقفه.
أما العامة فقد ابتلوا بالأخذ عن جميع الصحابة في كافة أحوالهم حتَّى اجتمعت في كتبهم أحاديث كثيرة تشير إلى أهواء الصحابة ومسالكهم، فضلاً عن ظهور أثر السلطة على المحدثين والرواة بل على بعض الصحابة والتحكم بهم، مع تعدد الوضع على لسان بعض الصحابة حتى أنَّه يوجد الحديث ونقيضه مروياً عنه بطرقٍ معتبرة، والكلام في البليَّة التي حلَّت بأحاديث العامَّة جراء الأخذ العشوائي عن جميع الصحابة وتعرضهم لضغوط السلطة طويل جداً ليس هاهنا محلّه، والخلاصة أن جعل الحديث عند علمائنا متأثراً بالمنحرفين على نفس السياق كما هو الحال عند العامّة ليس دقيقاً؛ لأن كلاً من الطرفين قد اختلف في التعاطي مع تلك الجهة، وجعلُ المدرستين على قدم المساواة في التعامل مع هذه القضيَّة ليس من الإنصاف.
حول الأحاديث الموضوعة في مسند أحمد بن حنبل
ومن جملة المؤاخذات على ما قرره السيد الحيدري في كتابه أنّه يُطلق دعاوىً ضخمةً وينسبها للآخرين دون تحقيق وتثبُّتٍ، ومن ذلك ما قاله في كتابه (21): (ومع هذا الكم الكبير من الروايات لم يستطع أن يستخرج ابن حنبل منها إلا زهاء ثلاثين ألف رواية. ومع هذا الفارق الهائل نجد أنَّ بعض المعاصرين عندما جاؤوا إلى التراث الحديثي للإمام أحمد بن حنبل، المنقَّح من قِبَله، لم يسلِّموا به، فأخرجوا الكثير من الروايات الموضوعة والمدسوسة بحسب مبانيهم من قبيل العلامة محمد ناصر الدين الألباني والعلامة شعيب الأرناؤوط، والعلامة أحمد محمد شاكر والملَّا علي القاري وغيرهم من الباحثين والمحققين، حيث وجدوا فيه أحاديث ضعيفة كثيرة، بل إنَّ بعضها أشد في الضعف من الآخر مما دعا ابن الجوزي إلى إدخال الكثير في موضوعاته).
ومن باب الفحص عن دقّة هذه الدعوى بحقّ هؤلاء فسوف نتطرّق إلى أربعة ذكرهم، اثنان منهم عملا على دراسة وتحقيق مسند أحمد:
1. الحافظ ابن الجوزيّ.
2. الشيخ أحمد شاكر.
3. الشيخ محمد ناصر الدّين الألبانيّ.
4. الشيخ شعيب الأرناؤوط.
والدّعوى هُنا: أنّهم أخرجوا الكثير من مسند أحمد - الذي تبلغ أحاديثه 28.000 حديثٍ تقريباً - وجعلوه في الأحاديث الموضوعة.
فهل ما نسبه إلى هؤلاء خصوصاً صحيح؟! بل وأكثر من ذلك: هل ينسجم ما ادّعاه مع الاتّجاه السنيّ في النظرة التقييمية للمسند؟
أما بالنسبة للأوّل - وهو ابن الجوزيّ -، فما نسبه إليه غير دقيق، وقد وقع في ذلك اغتراراً بما نقلَهُ في هامش الصفحة عن الملّا علي القاري في (مرقاة المفاتيح)، وعلى أيّ حالٍ، فإنّ الإحصاء العدديّ هو الحاسمُ في المقام، وقد جمع الحافظ جلال الدّين السيوطيّ أحاديث المُسند التي حكم عليها ابن الجوزيّ وغيرُه بالوضع وردّ عليهم فبلغ العدد (38 حديثاً) (22).
وأمّا الثاني - وهو الشيخ أحمد شاكر - ، فلم يحقّق المسند كاملاً إذ وافته المنيّة قبل إتمامه، وفي المقدار الذي أنجزه - وهو 8782 حديثاً - كان عدد الأحاديث التي حكم عليها بالكذب والوضع (صفر).
وأمّا الثالث - وهو الشيخ الألباني -، فقد قال في مقام ردّ دعوى كثرة الموضوعات في المسند: (والذي يهمّنا ذكره الآن أنّ الذين تتبّعوا ما قِيل بوضعه من أحاديث المُسند لم يستطيعوا أن يصلوا بها إلى ما دُونَ الخمسين) (23).
وأمّا الرّابعُ - وهو الشيخ الأرناؤوط -، فقد حقّق المسند كاملاً، وما جزم بأنّه مكذوب موضوع (حديث واحد فقط)، بينما علّق على ثمانية أحاديث أخرى بقوله: (شِبه موضوع)، فلو قلنا إنّها كلها تسعة أحاديث، فنسبتها في غاية الضآلة والندرة الشديدة.
هذا ما يخصُّ الإحصائيّات بعد الفحص والنظر فيما نُسِبَ إلى هؤلاء الأربعة، أمّا الاتّجاه العامّ عند أهل الحديث والفقهاء بمن فيهم هؤلاء وغيرهم فهو أنّ الأحاديث الموضوعة المكذوبة في (مسند أحمد) نادرةٌ جداً، فهذا الحافظُ العراقيّ يُعبّر عنها بأنّها (ذوات عددٍ، ليست بالكثيرة)(24)، بينما يصفُها الحافظ الذهبيّ بأنّها (قطرة في بحر) (25)، ويقول الحافظ ابن حجر العسقلانيّ في حديثه عن مسند أحمد: (وقد ادّعى قومٌ أنّ فيه أحاديث موضوعة، وتتبّع شيخُنا إمام الحُفّاظ أبو الفضل من كلام ابن الجوزيّ في الموضوعات تسعة أحاديث أخرجها من المسند وحكم عليها بالوضع، وكنتُ قرأتُ ذلك الجزء عليه، ثم تتبّعتُ بعده من كلام ابن الجوزيّ في الموضوعات ما يلتحقُ به فكملت نحو العشرين، ثم تعقّبتُ كلام ابن الجوزيّ فيها حديثاً حديثاً، وظهر من ذلك أنّ غالبها جِيادٌ، وأنّه لا يتأتّى القطعُ بالوضع في شيء منها، بل ولا الحكم بكون واحدٍ منها موضوعاً إلّا الفرد النادر مع الاحتمال القويّ في دفع ذلك، وسمّيتُه: القول المُسدَّد في الذبِّ عن مُسند أحمد)(26).
ويتّضح مما تقدّم: أنّ ما نسبه إلى هؤلاء الأربعة غير دقيق ولا يُطابق الواقع، ولم يكن عن فحصٍ ونظرٍ في نتاجهم العلميّ، وإنّما كان مبنيّاً على الطَبْع والعادة بتكرار إطلاق النسب المئويّة دون تثبُّتٍ أو مراجعةٍ دقيقة، وهذا يدعونا إلى التوقف طويلاً بتأملٍ عند الادّعاءات والاحصاءات التي يُطلقها السيّد الحيدري في كتبه ودروسه، فإنّ جملةً عريضةً منها يظهرُ بطلانه بعد التتبع والتفحّص، لا سيّما وأنّ دراسته خالية من الترويّ والنظر المتأنّي.
إبراهيم جواد
قُم المقدَّسة (زادها الله شرفاً)
الخميس، 25 ذي القعدة 1436هـ/ 10 سبتمبر 2015.
-----------------------------
(1) عيون أخبار الرضا، ج1، ص 304، تحقيق: مهدي الحسيني اللاجورديّ، الناشر: انتشارات جهان - طهران.
(2) رجال الكشي، ص299، رقم الحديث403، تحقيق: محمد تقي فاضل الميبدي وأبو الفضل موسويان، الناشر: وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي - مؤسسة الطباعة والنشر - طهران، سنة النشر: 1382هـ.ش.
(3) المصدر السابق، 297 – 298، رقم الحديث 401.
(4) رجال النجاشي، ص447، رقم الترجمة 1208، تحقيق : السيد موسى الشبيري الزنجاني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة: العاشرة، سنة النشر: 1432 هـ.
(5) المصدر السابق، ص 231، رقم الترجمة 612.
(6) كتاب سليم بن قيس، ج2، ص 559. ورواه عنه الحلي في مختصر البصائر (انظر: بحار الأنوار، ج53، ص 86 نقلاً عن مختصر البصائر عن كتاب سليم، وقال العلامة المجلسي: (أقول: رأيت في أصل كتاب سليم بن قيس مثله).
(7) الكافي، ج14، ص 416، تحقيق: قسم إحياء التراث في مركز بحوث دار الحديث، الناشر: مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية – قم المقدسة، الطبعة: الثالثة، سنة النشر: 1434هـ/1392هـ.ش.
(8) المصدر السابق، ج14، ص 414.
(9) المصدر السابق، ج14، ص 416 - 417.
(10) الذريعة، ج2، ص 160، الناشر: دار الأضواء - بيروت، الطبعة: الثانية.
(11) بشارة المصطفى، ص207، رقم الحديث 32، تحقيق: جواد القيومي الاصفهاني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة الثالثة 1425 هـ ، والخبر مروي عن الشيخ الطوسي وهو في أماليه.
(12) الكافي، ج6، ص 141، رقم الحديث 4978.
(13) رجال الكشي، ص 586، رقم الحديث 1027.
(14) الغيبة، ص 408-409، رقم الحديث 382، تحقيق: عباد الله الطهراني - علي أحمد ناصح، الناشر: مؤسسة المعارف الإسلامية - قم المقدسة، الطبعة: الرابعة، سنة النشر: 1429هـ.
(15) المصدر السابق، ص389-390، رقم الحديث 350.
(16) المصدر السابق، ص390، رقم الحديث357.
(17) الموروث الروائي بين النشأة والتأثير، ص 52.
(18) العدة في أصول الفقه، ج1، ص 150، تحقيق: محمد رضا الأنصاريّ القميّ، الناشر: مطبعه ستاره، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1417 هـ .
(19) المصدر السابق، ج1، ص 151.
(20) عيون أخبار الرضا، ج1، ص31، تحقيق: مهدي الحسيني اللاجورديّ، الناشر: انتشارات جهان - طهران.
(21) الموروث الروائي بين النشأة والتأثير، ص57.
(22) انظر: تدريب الراوي، ج1، ص188، تحقيق: نظر محمد الفاريابي، الناشر: مكتبة الكوثر - الرياض، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1415هـ. وراجع أيضاً: النكت البديعات، ص360، تحقيق: عبد الله شعبان، الناشر: دار مكة المكرمة للنشر والتوزيع - المنصورة-مصر، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1425هـ/2004م.
(23) انظر: الذبُّ الأحمد عن مسند الإمام أحمد، ص40، الناشر: دار الصدّيق-المملكة العربية السعوديّة، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1420هـ/1999م.
(24) انظر: القول المسدد في الذبّ عن مسند أحمد، ص4، الناشر: مكتبة ابن تيميّة- القاهرة، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1401هـ.
(25) سير أعلام النبلاء، ج 11، ص 329، تحقيق: شعيب الأرناؤوط الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1402هـ/1982.
(26) تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمّة الأربعة، ج1، ص241، تحقيق: إكرام الله إمداد الحق، الناشر: مكتبة البشائر الإسلامية - بيروت، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1416هـ/1996م.