بسم الله الرحمن الرحيم
الموروث الروائي بين الحقيقة ووهم النقد العلمي - الحلقة الثالثة
هل اتّهم ابنُ كثير عبدَ الله بن عمرو في نقله؟!
قد ذُكِرَ في كتاب السيد الحيدري - المشار إليه آنفاً - أنَّ الحافظ ابن كثير قد اتّهم عبد الله بن عمرو بن العاص في نقله، والسبب في هذا الاشتباه هو أنَّه قد غُفِلَ عن المبنى الذي كان يتكلّم ابن كثير وفقاً لهُ، فظنّ أنّه يطعن في رواية الصحابيّ عبد الله بن عمرو بن العاص، ولهذا فقد رأيتُ أن أحرر الكلام في هذا المبنى عند العامّة وأبين الفرق الشاسع بين ما يقوله ويعتقده ابن كثير وبين ما أورده المُقرّرُ في كتاب السيد الحيدري، ومن خلال البحث سوف تتشكل الصورة بشكل أوضح عند القارئ المنصف حول قصور إحاطة مشروع السيّد بتلك المباني والقواعد والتي تمسّ أبحاث التراث الإسلامي وكذلك سيعرف القارئ مدى دقّة ما يُطرح في هذه المسائل البسيطة، ليتصوّر ماذا يمكن أن يحصل من اشتباهات بل جناياتٍ بحق تراث أهل البيت (عليهم السلام) إذا ما تم الكلام في ما هو أعمق وأعقد.
جاء في كتابه ما نصُّه (1): (حتَّى أنّ ابن كثير الدمشقيّ الأمويّ الهوى والصنعة كان يتّهم عبد الله بن عمرو في نقله، فيقول في نقله للخبر الإسرائيلي (يهبط الله عزوجل حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجابٍ، منها النور والظلمة، فيضرب الماء في تلك الظلمة صوتاً تنخلع له القلوب فيضرب الماء في تلك الظلمة صوتاً تنخلع له القلوب): «وهذا موقوفٌ على عبد الله بن عمرو من كلامه، ولعلّه من الزاملتين، والله أعلم». تفسير القرآن العظيم، لإسماعيل بن كثير الدمشقيّ، دار المعرفة، بيروت: ج3، ص 328).
والكلام حول موقف العامّة عموماً وابن كثير خصوصاً من رواة الإسرائيليات كعبد الله بن عمرو بن العاص فيه تفصيلٌ دقيق لم يُلْتَفَتْ إليه، ولهذا أُطلقَ هذا الادعاء كالعادة بدون تتبع الأقوال بتمحيص وتفحّص، وفي مقام الإيضاح نقول - بعون الله وتوفيقه -:
إنَّ موقف العامة من الصحابة معلوم، فهم قائلون بعدالتهم وقبول رواياتهم المرفوعة (2) جميعاً، بمن فيهم الذين اشتهروا برواية الإسرائيليات كأبي هريرة وعبد الله بن عمرو، ولكن في خصوص أحاديثهم الموقوفة (3)، فهناك تفصيل على النحو التالي:
أولاً: إذا جاء الحديث موقوفاً على صحابي، وهذا الصحابي ليس من المشتهرين برواية الإسرائيليات كأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأبي ذر الغفاري (رضي الله عنه)، ومتن الرواية مما لا يُقال فيه بالرأي والاجتهاد، فهذه الرواية تأخذُ حكم الحديث المرفوع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ويمكن ترتيب الآثار التي تُرتب على الحديث النبويّ، فله الحجيّة نفسها.
ثانياً: إذا جاء الحديث موقوفاً على صحابي، وهذا الصحابي من المشتهرين برواية الإسرائيليات كأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص، فيُتوقف في الرواية لا طعناً في الصحابي ولا اتّهاماً له، بل للشك في مصدرها، أهي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أم عن رواة الإسرائيليات مثل كعب الأحبار وكتب أهل الكتاب، وهذا ما دفع بابن كثير للتوقف في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص التي ذكرها السيّد ونقل بعدها قول ابن كثير: (ولعلّه من الزاملتين) أي الصحيفة اليرموكيّة التي تقدّم ذكرها في المقالة الأولى.
وبذلك يظهر جلياً أن علماءَ العامَّة يفرقون بين مرفوعات الصحابةِ وموقوفاتهم فلو جاء راوٍ من الصحابة وقد اشتهر بنقل الإسرائيليات كأبي هريرة مثلاً ونقل رواية مرفوعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فإنّهم لا يتهمونه في النقل مطلقاً إذا ثبتت تلك الرواية عنه، بل يصححون نقله ولا يتهمونه، أما إذا ثبت عنه كلامٌ موقوفٌ في خصوص الغيبيات التي لا يُقال فيها بالرأي والاجتهاد فإنَّهم لا يتهمونه أيضاً، بل غاية ما في الأمر يتوقفون في ذلك النقل خشيةَ أن يكون أخذه عن الإسرائيليات لا سماعاً عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبالتالي لا يأخذ قوله حكم الحديث المرفوع، وإليك بعض أقوال علمائهم في هذا الشأن:
1. الحافظ ابن حجر العسقلاني.
قال (4): (ومثال المرفوع من القول حُكماً لا تصريحاً: أن يقول الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات ما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا له تعلق ببيان لغة أو شرح غريب، كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وأخبار الأنبياء أو الآتية كالملاحم والفتن وأحوال يوم القيامة، وكذا الإخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص. وإنما كان له حكم المرفوع؛ لأن إخباره بذلك يقتضي مخبراً له، وما لا مجال للاجتهاد فيه يقتضي موقفاً للقائل به، ولا مُوقِفَ للصحابة إلا النبيّ، أو بعض من يخبر عن الكتب القديمة، فلهذا وقع الاحتراز عن القسم الثاني).
2. إبراهيم بن محمد الحلبيّ القادري المعروف بـ«ابن الحنبلي».
قال (5): (وأما مثال المرفوع حكماً فمن القول أن يقول الصحابي الذي لم يأخذ عن الكتب القديمة قولاً لا مجال للاجتهاد فيه .. وهُما حُجَّةٌ عندنا).
3. الشيخ عبد الحقّ الدهلويّ.
قال في حديثه عن الموقوف الذي له حكم الرفع(6): (وأما حكماً، فكإخبار الصحابي الذي لم يخبر عن الكتب المتقدمة ما لا مجال للاجتهاد فيه).
4. الشيخ محمد بن صالح العثيمين.
قال (7): (وأيضاً لو أخبر أحدٌ من الصحابة عن الجنة والنار لقلنا: هذا مرفوعٌ حكماً، إلا أنه يُشترط في هذا النوع أن لا يكون الصحابي ممن عُرف بكثرة الأخذ عن بني إسرائيل، فإن كان ممن عُرفوا بذلك، فإنه لا يُعتبر له حكم الرفع؛ لاحتمال أن يكون ما نقله عن بني إسرائيل، وهؤلاء كثيرون أمثال: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فإنه أخذ جملة كبيرة عن كتب أهل الكتاب في غزوة اليرموك).
5. الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
قال (8): (حاصل تحرير هذه المسألة أنّ قول الصحابي الموقوف عليه له حالتان:
الأولى: أن يكون مما لا مجال للرأي فيه.
الثانية: أن يكون مما له فيه مجال.
فإن كان مما لا مجال للرأي فيه فهو في حكم المرفوع كما تقرّر في علم الحديث، فيقدّم على القياس ويخصّ به النّصّ إن لم يعرف الصحابيّ بالأخذ عن الإسرائيليّات).
6. الدكتور محمد أبو شهبة.
قال (9): (إن أئمة الحديث نصُّوا على أن كلام الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه له حكم المرفوع إذا لم يكن الصحابي معروفاً بالأخذ عن الإسرائيليات كعبد الله بن عمرو بن العاص مثلاً، فهذا ليس له حكم المرفوع قطعاً)، وصرّح بهذا المعنى في كتابه (الوسيط في علوم ومصطلح الحديث) (10).
ويتبيّن مما تقدّم: أن بحث علماء العامّة وموضع نقدهم منحصر في (موقوفات الصحابة) الذين عُرفوا برواية الإسرائيليات لا في خصوص وثاقتهم مطلقاً، فهم غير متهمين أبداً رغم روايتهم للإسرائيليات، بل الكلام منحصر في قبول روايتهم الموقوفة من عدمه، ولعلّ هذا الرأي هو المشهور. نعم؛ قد يخالف بعضهم في تفاصيل القيد على الروايات الموقوفة إلا أن هذا الخلاف لا يفضي للطعن في وثاقة الصحابي أو نقله لا سيَّما عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله).
ولأجل هذا المبنى الذي اتّضح بشكلٍ تام، توقَّف ابن كثير في الخبر الموقوف عن عبد الله بن عمرو، لا أنَّه كان يتهمه أو يطعن أو يشكُّ في نقله أو وثاقته، فتأمّل.
يبقى الكلام في إيضاح موقف ابن كثير من عبد الله بن عمرو بن العاص، فهل يصح الادعاء بأنّه متهمٌ لديه؟ هذا ما يمكن أن نراه في كلماته الأخرى من بعض كتبه:
قال في (البداية والنهاية) (11): (وأحسن ما يستدل به في هذه المسألة ما رواه عثمان بن سعيد الدارمي عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً وهو أصحُّ ...إلخ).
وقال أيضاً (12): (قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن الصقعب بن زهير، عن زيد بن أسلم قال: حماد أظنه عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من أهل البادية ...إلخ» وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه).
بل ويستدلُّ بحديثه في التفسير، قال (13): (وفي صحيح مسلم من حديث كعب بن علقمة عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي ..إلخ).
بل وبشكل أصرح من هذا بما لا يقبل الشكّ في موقف ابن كثير من عبد الله بن عمرو بن العاص، نذكر ما قاله في (اختصار علوم الحديث) (14): (والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم، وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل والجزاء الجميل).
وبهذا قد ظهر أنّ ابن كثير لا يتهمُ عبد الله بن عمرو في نقله أبداً، بل هو عنده صحابي عدلٌ ثقةٌ لا مجال لاتهامه والطعن فيه، وأنَّ من ادَّعى هذه الدعوى لم يحسن تقرير مذهب العامّة في هذه المسألة، حيث لم يفهم الوجه في تصريحهم بمثل تلك العبارات، وهذا لأنّه لم يكن عارفاً بحقيقة هذا التفصيل حول روايات الصحابة رواة الإسرائيليات، ولولا ذلك لما نسب إلى ابن كثير ما لا يقبله، وإذا كانت هذه المسألة قد خفيت على من يدّعي القدرة على نقد التراث وتمحيصه مع اشتهارها بين صغار الطلاب فكيف بما هو أكثر حاجةً إلى التدقيق والتحقيق؟! نسألُ الله أن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفةَ عين أبداً (15).
إبراهيم جواد
قم المقدَّسة - (زادها الله شرفاً).
السبت، 14 ذو القعدة 1436 هـ / 29 أغسطس 2015.
----------------------------
(1) الموروث الروائي بين النشأة والتأثير، هامش ص26 -27.
(2) الحديث المرفوع: ما أضيف إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) خاصَّةً دون غيره.
(3) الحديث الموقوف: وهو ما يروى عن الصحابة من أقوالهم أو أفعالهم ونحوها فيُوقَفُ عليهم.
(4) نزهة النظر في توضيح نخبة أهل الفكر، ص 127-130، تحقيق: عبد الله الرحيلي، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1429هـ.
(5) قفو الأثر في صفو علوم الأثر، ص 92، تحقيق: عبد الفتّاح أبو غدة، الناشر: مكتب المطبوعات الإسلاميّة بحلب – سوريا، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1408هـ.
(6) مقدمة في أصول الحديث، ص 38، تقديم وتعليق: سليمان الندوي، الناشر: دار البشائر الإسلاميّة، بيروت – لبنان، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1406هـ/1986م.
(7) شرح المنظومة البيقونيّة في مصطلح الحديث، ص 52-53، تحقيق: فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، الناشر: دار الثريا للنشر- الرياض، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1423هـ - 2003م.
(8) مذكرة أصول الفقه، ص 256، بإشراف : بكر أبو زيد، الناشر: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع - مكة المكرّمة، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1426 هـ.
(9) دفاع عن السنة، ص 183، الناشر: مكتبة السنّة - جمهورية مصر العربية، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1989م.
(10) الوسيط في علوم ومصطلح الحديث، ص 210-211، الناشر: عالم المعرفة للنشر والتوزيع.
(11) البداية والنهاية، ج1، ص 127، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع - الجيزة / جمهورية مصر العربيّة، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1418 هـ / 1997م.
(12) المصدر السابق، ج1، ص 279-280.
(13) تفسير القرآن العظيم، ج4، ص 176، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع – الرياض، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1420 هـ/1999م.
(14) اختصار علوم الحديث، ص 277، تحقيق: ماهر ياسين الفحل، الناشر: دار الميمان للنشر والتوزيع - الرياض، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1434 هـ / 2013 م.
(15) ربّما يُعترض على محاكمة ما ورد في كتاب السيّد بأنّ ما في هذه العبارة من كلام المقرر تلميذه الشيخ طلال الحسن، ولكن يُقال في ردّ الاعتراض: إنَّ هذا التقرير تمّ بنظر السيد وهو بحسب المُدّعى يقود مشروع نقد التراث الشيعيّ، ولو كان السيّد عارفاً بحقيقة هذا الاشتباه لحذف هذا الكلام وردّه، إلا أن يُقال إنَّ السيد لا ينظر في كتبه المقررة والتي تُطبع باسمه. وأياً كان فمن أراد اعتبار الكلام مناقشةً للدكتور طلال الحسن وحده فليعتبره، فالهدف هو مناقشة أطروحات هذا المشروع المزعوم حول التراث الشيعي وبيان مغالطاته وأوهامه بغض النظر عن الشخصيّات سواء أكان السيّد الحيدري أم شريكه فيه الشيخ طلال الحسن.