مشاركة مميزة

فهرس مقالات مدوّنة مصباح الهداية

الأحد، 2 أبريل 2023

علم الغيب عند النبيِّ والوصيِّ (عليهما السلام) - الحلقة الخامسة

بسم الله الرحمن الرحيم
علم الغيب عند النبيِّ والوصيِّ (عليهما السلام) - الحلقة الخامسة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار الفاضلين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

بعد التأمل في الأخبار المعتبرة التي تشيرُ إلى علم النبيِّ (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) يمكن أن نشير إلى عدد من الملاحظات لرفع الإشكال الموجَّه إلى الشيعة الإمامية لاعتقادهم بمعرفة الإمام للغيب.
الملاحظة الأولى: إنَّ علم الغيب يحصل للنبي أو الإمام من خلال تعريف الله تعالى، فالعالمُ بالغيب استقلالاً هو الله تعالى، وكُلُّ غيبٍ منكشفٍ لأي بشرٍ لا يكون إلا بتعليمٍ من الله تبارك وتعالى، فقول القائل بإمكان معرفة الإمام للغيب ليس غلواً؛ لأنه يُرجع ذلك العلم إلى الله، ويحصر العلم الغيبي بالتعليم والكشف الإلهيِّ.
الملاحظة الثانية: إنَّ معرفة أمير المؤمنين عليه السلام بما يكون إلى يوم القيامة، وعلمه بكيفية قتله وإشارته لشخصِ قاتله يثبت معرفته بالأمور الغيبية وفقاً للأحاديث المعتبرة في كتب أهل السنّة والجماعة، وهذا يدحض قول من يزعم أن الشيعة الإمامية من أهل الغلو إذ يقولون إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام عالم بالمغيَّبات.
فإن قيل: قد أخذ ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قلنا: وهذا ما نعتقده في علوم أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ أنَّه قد ورث عن النبي الأكرم (صلوات الله عليه وآله) علوماً جمَّة، فلماذا يتهمون الإماميَّة بالغلو؟
فإن قيل : نسلم بإخباره بالغيبيات في أمور محدودة لا مطلقاً كما تزعمون.
قلنا: إن قصدتم بالإطلاق هو أننا نقول إنَّ علمه يشمل جميع علوم الله الغيبية فهذا باطل ولا نقول به، إذ إنَّ هناك علوماً اختصَّ الله بها نفسه ولم يطلع عليها أحداً من خلقه، وأما إن أردتم منه سعة علومه في المغيَّبات وغيرها، فإنَّ الخلاف يبقى بيننا وبينكم في السعة لا في أصل المسألة، والسعة تابعة للدليل لا للاستحسانات الذوقيَّة، وقد قال الله تعالى: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب).
وكيف تكون سعة علوم أمير المؤمنين (عليه السلام) في معرفة الغيب مقتصرة على عدَّة مواضع وقد رويتم في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان (1): («أخبرني رسول الله بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة») فإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أخبر حذيفة بهذا المقدار، فما مقدار ما أخبر علياً (عليه السلام) به وهو الذي لازمه منذ أول لحظة بدعوة الإسلام حتى وفاته؟!
الملاحظة الثالثة: تدفع هذه الأخبار الشبهة حول انتحار الأئمة (عليهم السلام) إذ إنّهم يعلمون الغيب ويُقدمون على أكل الطعام المسموم دون أن يفعلوا ما يحول بينهم وبينه، وهذا المقال فيه الجواب النقضي عليهم، فإنَّ الأخبار واضحة في معرفة الإمام (عليه السلام) بقاتله ولم يُقدِم على قتله أو مراقبته أو سجنه ليحول بينه وبين قتله. ونفس الكلام يُقال في إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) بمقتل الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، ومع ذلك أقدم الحسين (عليه السلام) على الخروج من مكة إلى العراق، والسببُ في ذلك أنّ علم الإمام بالغيب لا أثر له في جانب التكليف، وقد أوضحَ ذلك بنحوٍ كافٍ السيِّدُ العلامة محمد حسين الطباطبائي (رحمه الله) في كتابه (علم الإمام)، فقال (2): (مثل هذا العلم الثابت بموجب الأدلة العقلية والنقلية غيرُ قابلٍ لأيِّ تخلُفٍّ أو تغيُّرٍ، وبالاصطلاح: هو علمٌ بما ثبت في اللوح المحفوظ، وخبرٌ عما تعلَّقَ في قضاء الله. وضرورة بيان ما سبق أنه ليس هناك أية علاقة بين أي نوعٍ من التكليف بمتعلقات هذا النوع من العلم، وذلك من جهة كون متعلقات هذا العلم حتميَّة الوقوع).

تنبيهٌ:
ورد في الأخبار المتقدمة أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما سُئل عن الاستخلاف، قد قال: (ولكن أكلكم إلى ما وكلكم إليه رسول الله) وقد استدلَّ بعضُ علماء أهل السنة والجماعة بأنَّ هذا دليل على تركه للاستخلاف وهو نابع من تصوّرهم أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله) ترك الاستخلاف، ولكن هذا متوقف على فهم وإدراك ما وكلَ رسول الله أمتَّه إليه، فنحن نقول: إنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد وكل أمور الدين والدنيا الخاصَّة بالأمة الإسلامية إلى أهل البيت (عليهم السلام) بدءً بالأمير والحسنين (عليهما السلام)، فإنَّ الإمام علي (عليه السلام) قد أحال سائليه إلى النصَّ الذي صدر عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وعلى أيّ حال، فقد سُقنا هذه الأخبار للاحتجاج على من يتعبَّد بالحديث السُّني، فهو مُلزِمٌ على المعتقد به.

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة، ج7، ص278، رقم الحديث 3000، الناشر: دار التأصيل، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1435 هـ/2014م.
(2) علم الإمام، ص57، الناشر: دار المحجّة البيضاء، الطبعة: الأولى، 1431 هـ/2010م.