بسم الله الرّحمن الرّحيم
قراءة نقدية في رواية دعاء الجوشن الكبير
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد الأنبياء والمرسلين، محمّد بن عبد الله الصّادق الأمين، وعلى أهل بيته الطيّبين الطّاهرين، واللّعن الدّائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
فقد بيّنتُ في المقالة الموجزة (كلمةٌ حول دعاء الجوشن الكبير) أنّ هذا الدّعاء لا أصل له في تراث الإماميّة القدماء، وأنّ أوّل من رواه هو الشّيخ الكفعميّ المتوفّى أوائل القرن العاشر الهجريّ، وأنّ ما أشير إليه في «مهج الدّعوات» لم يكن من السيّد ابن طاوس، وإنّما من إضافات غيره على الكتاب، وذكرنا دلائل ذلك.
وحيث كان البناء في تلك المقالة على الإيجاز، فقد آثرتُ الاستفصال لمزيدٍ من البيان ولا سيّما مع ما ظهر في بعض المناقشات الأخيرة من الخلط بين الأبحاث وعدم التدقيق في جهة كلّ مطلبٍ، فإنّ الدّعوى أنّ الدّعاء شديد الضّعف، ولا قرائن تورث الوثوق بصدوره عن أهل البيت عليهم السّلام أوّلاً، وأنّه مأخوذٌ من متصوّفة العامّة ثانياً، ولا يخفى أنّ كلا البحثين منفصلان، فإنّ نفيَ كونه من المتصوّفة لا يُوجبُ بالضّرورة وثوقاً بصدوره، بل يبقى البحث في قرائن الوثوق قائماً على حدةٍ، فهو بحث مستقلّ.
كما أنّه قد وقع خلطٌ آخر من جهة سوء فهم كلمات الفقهاء (رضوان الله عليهم)، فإنّ تجويزهم وقبولهم للتعبّد بالدّعاء مبنيٌّ على التّسامح في أدلّة السّنن أو البناء على رجاء المطلوبيّة أو من باب الدّخول في عمومات الحثّ على الدّعاء، وهذه مسألةٌ عمليّةٌ لا تفيد شيئاً في البحث المتعلّق بالصّنعة الحديثيّة التي تهتم بالنّظر في أدلّة الوثوق؛ فإنّ غاية ما يُستفاد من روايات «من بلغه» أو سائر أدلّة التّسامح هو تسويغ العمل بالرّواية الضّعيفة، وهذا الأمر أجنبيٌّ عن البحث في قرائن الوثوق، فلا ينبغي الخلط بين ضوابط الصّنعة الحديثيّة وقواعد الصّناعة الفقهيّة.
وبعبارةٍ أخرى: غاية ما تفيده ضوابط الصّناعة الفقهيّة هو بيان جواز تلاوة الدّعاء المنسوب لأهل البيت عليهم السّلام، وأمّا كون الجواز قرينة من قرائن الوثوق فهذا لا تتكفّل به تلك القواعد، ولم يدّعِه أحدٌ من الفقهاء.
وكذلك فالأمر هنا لا يتعلّق بوثاقة الشّيخ الكفعميّ وغيره ليُصار إلى الاستدلال عليها، فوثاقته وعلمه وجلالته ممّا لا نقاش فيه بين أهل العلم، كما أنّ وثاقة مصنّف الكتاب لا توجب إغماض النّظر عن الفحص في أسانيده أو مصادره، فإنّ الكلينيّ أجلّ وأوثق وأضبط من الكفعميّ، وهو من كبار الأعلام المتقدّمين، ومع ذلك نرى العلماء يدقّقون في رواياته، وينقدون جملةً منها، ويتوقّفون في بعضها، ومناقشاتهم وافرةٌ في هذا الباب. هذا، والكلينيّ كتابه مسندٌ، ومصادره أوثق وأضبط، وأصوله بتراث أصحاب الأئمّة ألصق، ومع ذلك نرى هذا النّقد والتأمّل فيما رواه، فكيف تكون وثاقة الكفعميّ وجلالته ممّا يمنع النّظر والتأمّل في بعض مرويّاته؟ ولذا فإنّ الاحتجاج بما جاء في ترجمة الكفعميّ من التوثيق والمديح تطويلٌ بلا طائل، وليس له أيّ فائدةٍ تُذكَر، فليس النّزاعُ في وثاقته (رضوان الله عليه)، وإنّما الكلام في الوثوق بالرواية التي نقلها، والمصدر الذي أخذ عنه.
ومن هنا ينبغي الفصل بين المباحث والتّدقيق في جهة كلّ بحث.
الأمر الأوّل: بحثٌ في الوثوق بصدور الدّعاء عن أهل البيت عليهم السّلام.
وفي مقام البحث عن قرائن الوثوق ينبغي النّظر في ثلاثة أمور: السّند، المصدر، المتن.
أمّا الأوّل: فمن الجدير بالذّكر أنّنا لم نعثر على إسنادٍ لرواية الدّعاء، فهو من الحديث المرسَل، وهو من أقسام الحديث الضّعيف.
وأمّا الثّاني: فلم يظهر لنا دليلٌ على أنّه منقولٌ من تراث الإماميّة المتقدّمين، أو أنّه روايةٌ شيعيّةٌ إماميّةٌ، وأمّا دعوى أنّ الأصل هو كون الرّواية إماميّة حتّى يثبت الخلاف فغير مُسَلَّمةٍ، ولم يتحقّق لنا دليلٌ على ثبوت هذا الأصل، ولا سيّما مع ملاحظة بعض مصادر الشّيخ الكفعمي وتصريحه بالنقل عن جملةٍ من كتب العامّة، قال الكفعميّ في خاتمة كتابه: (ولنُشِرْ إلى ذكر الكتب التي أشرنا إليها في خطبته، ووعدنا بالذّكر لها في ديباجته، المجموع منها هذا الكتاب وما فيه من أصله وحواشيه من أماكن متعدّدة ومواطن متبدّدة)[1]، ثمّ ذكر مصادره التي اعتمد عليها، وفيها جملةٌ من مصادر العامّة، نذكر منها:
1- ربيع الأبرار للزّمخشريّ المعتزليّ.
2- الطبقات الكبير لمحمّد بن سعد أحد مؤرّخي العامّة.
3- حياة الحيوان للدّميريّ.
4- النّهاية لابن الأثير الجزريّ.
5- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
6- تفسير الثّعلبيّ.
7- السّنن للبيهقيّ.
8- مفاتح الغيب للفخر الرّازيّ.
9- الفرج بعد الشدّة -وهو للقاضي التنوخيّ-.
10- كتاب قوت القلوب لأبي طالب المكّي -وهو من المتصوّفة-.
11- كتاب مسند ابن حنبل.
12- كتاب التّذكرة للقرطبيّ.
13- كتاب جامع ابن وهب.
فأيّ دليلٍ على وجود هذا الأصل في التّعامل مع روايات المتأخّرين؟! ولا سيّما بعد حصول العلم بوفرة نقلهم عن العامّة. وفي خصوص هذا المورد، سيأتي ما يفيد كون الدّعاء معروفاً عند العامّة، في حين أنّه لا أثر له في تراث الإماميّة قبل القرن التّاسع الهجريّ.
وأمّا الثّالث: فمن جهة المتن لا نجدُ قرائن تفيد الوثوق بصدوره عن أهل البيت عليهم السّلام؛ فإنّ في هذا السّبك غرابة لا تتلاءم مع سائر أدعيتهم الثابتة المعتبرة، وسيأتي المزيد من الكلام في مقالةٍ مستقلّةٍ تبيّن احتواء المتن على ما يبعّد الوثوق بصدوره.
الأمر الثّاني: شهرة الدّعاء ورواجه بين متصوّفة العامّة.
ويزيدُ الرّواية ضعفاً أن تكون الرّواية من تراث متصوّفة العامّة؛ فإنّهم -كما ذكرنا في المقالة الأولى- أقلّ ضبطاً وعنايةً بقواعد الرّواية، وأكثر جرأةً على تبرير مخترعاتهم باختلاق الرّوايات، وقد ذُكِرَ في كلمات بعض علماء العامّة رواج هذا الدّعاء بين بعض عوامهم مع التأكيد على عدم وجوده في مصنّفات الحديث، وهو ما يلوِّح بكون الدّعاء من أدعية المتصوّفة؛ فإنّهم -خلافاً لمنهج أهل الحديث- متساهلون في النّقل وإنشاء الأوراد والأحزاب والتعبّد بما لا أصل له في الأحاديث.
وممّن أشار لوجود هذا الدّعاء: أبو سليمان الخطّابيّ المتوفّى سنة 388 هجريّة في كتابه (شأن الدّعاء) حيث قال: (وقد أولع كثيرٌ من العامّة بأدعيةٍ منكرةٍ اخترعوها، وأسماء سمّوها، ما أنزل الله بها من سلطانٍ، وقد يوجد في أيديهم دستورٌ من الأسماء والأدعية يسمونه: "الألف الاسم". صنعها لهم بعض المتكلّفين من أهل الجهل والجرأة على الله عزّ وجلّ، أكثرها زورٌ وافتراء على الله عز وجلّ، فليجتنبها الدّاعي إلا ما وافق منها الصواب إن شاء الله تعالى)[2].
والصّغانيّ المتوفى سنة 650 هجريّة في كتابه (الموضوعات) حيث قال: (وكذا الاعتناء بألف اسم واسم، يدعو بعض العوام بها، ولم يرد فيها خبر ولا أثر عن السلف الصالحين وأئمة الهدى)[3].
وهنا ينبغي الإشارة إلى عدّة جهاتٍ:
الجهة الأولى: أنّ علماء الحديث عند العامّة قد نقدوا هذا الدّعاء وذكروا أنّه لا أصل روائيَّ له، وأنّه مما راج بين العوام، فليس لأهل الحديث عند العامّة علاقة بهذه الرّواية، وعادةً ما يكون منشأ هذه الأدعية -إن لم يكن لها أصلٌ- بعض الطّرق الصّوفيّة والمشتغلون بالأوراد والأحزاب، وهم لهم يدٌ طولى في إنشائها، ويؤيّد هذا ما سيأتي بيانه من من اشتهار الدّعاء بألف اسمٍ عند الصّوفية وحضور دعاء الجوشن في نسخهم.
الجهة الثّانية: إنّ تسمية الدّعاء بـ«دعاء ألف اسمٍ واسمٍ» مستلّةٌ من رواية دعاء الجوشن الكبير فقد ورد فيها: (قال الحسين عليه السلام: أوصاني أبي عليه السلام بحفظه وتعظيمه، وأن أكتبه على كفنه، وأن أعلِّمه أهلي وأحثَّهم عليه، وهو ألفُ اسمٍ واسمٍ)[4]، وهذه التّسمية «ألف اسم واسم» ليست محض إحصاء لعدد الأسماء، بل أصبحت عَلَماً على أصل هذا الدّعاء. ولذلك نرى في بعض مخطوطات المتصوّفة قد جمعوا بين الاسمين، وهذا يقرّب كون دعاء الجوشن الكبير الذي نقله الكفعميّ هو إحدى تحريرات الدّعاء عندهم فهو موجود عندهم مع اختلافاتٍ في ترتيب الفقرات والفقرة التي تُكرّر في نهاية كلّ مقطع.
وهنا نذكر تحريرين في مخطوطات الصّوفيّة لدعاء الجوشن مع التنبيه على أمرين:
1. أنّ كلا التحريرين مختلفان عن تحرير رواية الكفعميّ وترتيبها، فمن هنا لا وجه لدعوى أنّهم نقلوا الدّعاء عن الكفعميّ، كما أنّهما يكشفان عن وجود أكثر من ترتيبٍ لهذه الأسماء التي عُدّت ألف اسمٍ واسم.
2. أنّهم قد نصّوا في بعض النّسخ على تسمية دعاء «الجوشن» بـ«دعاء الألف اسم واسم» -وهي السّمة نفسها الواردة في رواية الكفعميّ-، وهذا يقرّب لنا أنّ ما أشار إليه الخطّابي والصّغانيّ هو نفس دعاء الجوشن الكبير، مع أنّهما ذكرا اشتهاره بين العوام، وهذا يقتضي انتشاره وتداوم نقله، والموجود بين أيدي عوام المتصوّفة اليوم هي هذه التحريرات المختلفة للدّعاء، فهي مجتمعةٌ على ذكر ألف اسم واسمٍ ولكنها تختلف في الترتيب والفقرة التّكراريّة في نهاية كل مقطع.
ودعوى التّغاير بين دعاء الألف اسم واسم الذي أشار إليه الخطّابي ودعاء الجوشن في غاية الضّعف؛ فإنّ الخطّابيّ قد أشار إلى تداول الدّعاء واشتهاره بين العوام في زمانه -وهو القرن الرّابع الهجريّ-، والمتداول في زماننا الحاضر وفي النّسخ الخطيّة من الدّعاء بألف اسمٍ واسم شديد التّقارب مع دعاء الجوشن الكبير، وهما وإن لم يتطابقا حذو النّعل بالنّعل إلّا أنّ شدّة التقارب بينهما تؤكّد وحدة الأصل لهذه التحريرات المختلفة. ومثل هذا الاختلاف والتفاوت في ترتيب الدّعاء أو الزّيادة والنقيصة مما لا ينبغي أن يستغرب منه من له درايةٌ بالتراث الرّوائيّ؛ فإنّ هذه الظّاهرة ملحوظةٌ في نقل بعض الأدعية، كما هو الحال بالنّسبة لدعاء العشرات المرويّ عن الإمام الحسين عليه السّلام، فله أكثر من رواية وترتيب مختلف، وفي ذلك قال السيّد ابن طاوس: (إنّي وقفتُ على خمس رواياتٍ بدعاء العشرات، تختلفُ روايتها في النّقصان والزّيادات)[5]، وقال في موضع آخر: (واعلم أنّ هذا دعاءٌ عظيمٌ من أسرار الدّعوات، ووجدتُ به ستّ روايات مختلفات)[6]، فالاختلاف من جهة الزّيادة والنقيصة أو ترتيب العبارات لا ينافي وحدة الأصل المرويّ عنه.
وعلى أيّة حالٍ، لو سلّمنا أنّ ما أشار إليه الخطّابي والصّغانيّ من دعاء ألف اسم واسم ليس هو دعاء ألف اسم واسم المتداول عند الصّوفيّة فهذا لا يضرّ بما نحن فيه؛ فيكفي في المقام ثبوت التّقارب بين تحرير رواية الكفعميّ وما هو متداول عندهم ومحفوظٌ في تراثهم المخطوط ومكتباتهم.
والحاصل: إنّ دعاء الجوشن الكبير له نفس سِمة الدّعاء المتداول عند المتصّوفة فكلاهما يقال له: (ألف اسم واسم)، كما أنّ الفقرات متقاربة وإن وقع تفاوتٌ في ترتيبها تقديماً وتأخيراً.
التّحرير الأوّل: ما ورد في نسخة خطيّة في «مكتبة حكيم أوغلو» برقم (520).
«قم بتكبير الصورة بالضّغط عليها»
التّحرير الثّاني: ما ورد في نسخة خطيّة في «مكتبة آيا صوفيا» برقم (2772).
وفيه إشارة إلى تسميته بـ«ألف اسمٍ واسم» في ثلاثة مواضع.
«قم بتكبير الصورة بالضّغط عليها»
والمُلاحظ في هذه النّسخة أمران:
1- تسمية الجوشن باسم دعاء الألف اسم واسم في أكثر من موضعٍ، وقد ورد في ص13: (ولهذا الدّعاء أخبارٌ مشهورةٌ في سرعة الإجابة، وهو كنزٌ من كنوز الجنّة، وبهذا الدّعاء يدعو المظلومين [كذا]، والله أعلم بهذا الدّعاء، وهو الدّعاء المعروف بـ«ألف اسم واسم»).
2- أنّها تحتوي على ذكر ثواب دعاء الجوشن على لسان جبريل عليه السّلام كما في رواية الكفعميّ، إلّا أنّ فيها زيادات غير موجودة في رواية الكفعميّ.
والحاصل: إنّ دعاء الألف اسم واسم متعارفٌ عليه عند متصوّفة العامّة منذ القِدَم، ولم يظهر لنا أيّ دليل على حضور هذا الدّعاء في تراث قدماء الإماميّة، فمن هنا نستقربُ أن يكون الشيخ الكفعميّ قد أخذ هذا التّحرير منهم، ولا نحتمل أن يكونوا قد أخذوه منه؛ لأنّ للدّعاء تحريرات مختلفة في الترتيب، وما عندهم لا يطابق تحرير رواية الكفعميّ.
فإن قلت: كما أنّ ترتيب رواية الكفعميّ يختلف عن ترتيبهم، فلم لا يقال إنّه لم يأخذه منهم؟
الجواب: قد ذكرنا أنّ للدّعاء أكثر من تحريرٍ متداولٍ عندهم، والظّاهر أنّ ما نقله الكفعميّ هو أحد هذه التحريرات، ويشهد بذلك شدّة التقارب حتّى مع وجود الاختلاف، فمن هنا صحّ أن يُقال إنّهم لم يأخذوا عن الكفعميّ لأنّه لم ينقل سوى تحريرٍ واحدٍ له، بينما هم ينقلون في كتبهم تحريرات مختلفة كلّها تندرج تحت عنوان الدّعاء بألف اسمٍ واسمٍ وهو دعاء الجوشن الكبير كما نصّوا عليه، بل حتّى لو لم ينصّوا على ذلك، من الواضح أنّ ما يسمّونه بدعاء الألف اسم شديد التّقارب مع التحرير الذي نقله الكفعميّ، فلا يمكن نفي وحدة الأصل كما أشرنا سابقاً وذكرنا لك دعاء العشرات مثالاً، وحَمْلُ هذا الأمر على أنّه مجرّد احتمالٍ في غاية الوهن، وإلّا فكيف يمكن تفسير التقارب الشّديد في رواية ثواب الدّعاء وفي حضور الألف اسم والتّسمية بالاسم نفسه في رواية الكفعميّ وروايتهم؟! فهذه التحريرات المختلفة متقاربة بنحوٍ يبعد معه وقوع الصّدفة العجيبة في الاتّفاق.
وقد ذكرنا في المقالة الأولى وجهاً لتأييد نقل الشيخ الكفعمي عن التراث الصوفيّ، وهو أنّ الشيخ الكفعميّ متأثّر بأشياء عند الصوفيّة في الجُملة، وقد نقل عنهم أشياء عديدة تلائم الذّوق الصّوفي ولا أثر لها في تراث أهل البيت عليهم السّلام، ولا يُنقَضُ هذا القول بدعوى أنّه مستنِدٌ إلى أصلٍ شرعيٍّ وهو التّسامح في أدلّة السّنن؛ فإنّ جملةً ممّا نقله لا يمكن أن يندرج في باب التّسامح، وذلك أنّ المنقول ليس روايةً من الأصل، فقد نقل خواصّ الأسماء الحسنى عن الحافظ رجب البرسيّ وفيها ما لا يُرتاب في كونه من مخترعات الصوفيّة، وهو لم ينسبه إلى روايةٍ أصلاً، فكيف يمكن إجراء قاعدة التسامح في أدلة السنن وهي لا تشمل المبتكرات والاختراعات المستحدثة؟!
ولتتضح الصّورة أكثر، فليُنظر في الخواص المنسوبة إلى تلك الأسماء -وقد ذكرها في أواخر كتابه «البلد الأمين»-، فمنها: (العزيز: ذكره أربعة وتسعين مرّة عقيب الفجر في كلّ يومٍ يكشف أسرار علم السّيمياء والكيمياء)، ومنها: (عالم الغيب: من قرأه بعد الصّلاة عشر مرات حصل له الكشف عن المغيبات)، ومنها: (الغنيّ المُغني: من ذكرهما عَشر جُمَعٍ، كلّ جمعةٍ عشرة آلاف مرّة، ولا يأكلُ حيواناً، أغناه الله عاجلاً وآجلاً)، فأين تجدُ في تراث الإماميّة مثل هذا النّحو من الأوراد والأذكار، وفيها ما يشتمل على المنهيّ عنه من ترك أكل الحيوان، وهو ممّا عُرِف به المتصوّفة؟ وكيف يمكن تبرير هذا الأمر بقاعدة التّسامح مع وضوح عدم كون هذه الخواص المذكورة للأسماء الحسنى روايةً، ولا تشبه شيئاً من حديث أهل البيت عليهم السّلام، ويعزّز ذلك وجود الأرقام المستحدثة للأذكار من قبيل ذكر (الله) 66 مرة، وذكر (الملك) 64 مرّة، وذكر (المؤمن) 136 مرّة، وذكر (الوهّاب) 14 مرّة، وأنت تعلم خلوّ روايات أهل البيت عليهم السّلام من الأذكار بهذا النّحو من الأرقام، وإنّما الظّاهر في رواياتهم المعتبرة هو تقييد أعداد الذّكر بأعداد الوتر (3) و(7)، أو أعداد العقود من قبيل: (10)، (30)، (40)، (70)، وكذلك (100)، وهلمّ جرّاً، ولم نر في الروايات تخصيص ذكرٍ معيّن بمثل هذه الأرقام (64-136-288-94-14) وغيرها ممّا عُرِف به المتصوّفة؛ ومنشأ ذلك عندهم: أنّهم يحسبون أعداد الذّكر وفقاً لقواعد عديدة منها ما يُعرَف بحساب الجمل، وهو يقوم على فكرة أنّ لكل حرفٍ قيمةً عدديّة في حساب الجمل، فعلى سبيل المثال: قد نقل الكفعميّ عن الحافظ رجب البرسيّ أنّ ذكر (الوهاب) يُذكر 14 مرّة، والوجه في ذلك أنّ مجموع حروفه يساوي 14، فقيمة حرف الواو (6)، وحرف الهاء (5)، وحرف الألف (1)، وحرف الباء (2)، فيكون المجموع 14، وهذا هو السّبب في تخصيص أعداد الذّكر بالأسماء الحسنى بأرقام غريبة لا أثر لها في أحاديث الإماميّة، وطريقةٍ لم تُؤثَر عن أئمّة الهدى.
فهذا هو نهج الصّوفيّة في الأوراد والأذكار، وقد أورد الشّيخ الكفعميّ (رحمه الله) هذه الأشياء ونحوها في كتابٍ وضعه ليعمل به الشّيعة، فإن لم يكن هذا تأثّراً بالمنهج الصّوفيّ، فما هي ضابطة التأثّر حينئذٍ؟! وكيف يمكن استبعاد نقله عن المتصوّفة الذين لديهم هذا النّحو من التّخليط؟!
الأمر الثّالث: في مرجوحيّة التعبّد بالدّعاء به في ليالي القدر.
وقد أشرنا لذلك من قبل في المقالة الأولى، فإنّه لم يثبت في رواية دعاء الجوشن كونه من أعمال ليالي القدر، وبالتّالي فلا داعي للإصرار على هذه المسألة مع عدم وجود مدرك خاصّ لها. بالإضافة إلى ما نؤكّد عليه مراراً من ضرورة العودة إلى تراث قدماء الإماميّة وإحياء كثير من الأدعية المهجورة وفيها ما هو حائز على شرائط الاعتبار، فهل يوجد دليلٌ شرعيٌّ أو فتوى فقيهٍ يمنع من تقديم دعاءٍ على آخر من باب ترتيب الأولويّات؟! فإنّ الأولويّة هي للأدعية التي رواها المحمّدون الثّلاثة وأمثالهم، فهم لم ينقلوا من وجاداتٍ لا أصل معروف لها، وإنّما استقوا من معين تراث أصحاب الأئمّة، وهو أولى وأرجح من وجادات القرون المتأخّرة التي اختلط فيها الغثّ بالسمين.
وكم من دعاءٍ معتبرٍ هُجِرَ في الصّحيفة الكاملة للإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام وكتاب الدّعاء في كتاب الكافي الشّريف لثقة الإسلام الكلينيّ لصالح تلك الوجادات الضّعيفة، فهل من قُبْحٍ في ترجيح تلك النّفائس العظيمة على وجادات القرون المتأخّرة؟! وهل من شَيْنٍ في إحياء السّنن المعتبرة وإحياء مجالس العبادة بها؟!
والحاصل ممّا تقدّم:
1- إنّ رواية دعاء الجوشن الكبير مرسلة، وليس لدينا قرائن تورث الوثوق بصدوره، سواء بلحاظ السّند أو المصدر أو المتن.
2- إنّ الدّعاء بالصّيغة التي نقلها الكفعميّ مقاربٌ جدّاً لما هو متداول عند الصّوفيّة، وحيث إنّهم يتداولون تحريرات مختلفة في الترتيب إجمالاً فمن القريب أن يكون الكفعميّ قد أخذه عن واحدٍ منها، إلّا أن يكون منشأ هذا التّقارب مع الرواية الصوفيّة هو محض الصّدفة. كما أنّ الشيخ رحمه الله كان متأثّراً بالتّراث العاميّ والصوفيّ إلى حدٍّ ما في كتابيه «البلد الأمين» و «المصباح»، وهو ما ينفي الاستيحاش من ثبوت نقله عنهم. وعلى فرض التّسليم بعدم أخذه عنهم، فلا يمكن أن يُصار إلى التّسليم بأنّ دعاء الجوشن رواية إماميّة، فهو من قبيل مجهول المصدر.
3- إنّ تراث قدماء الإماميّة أولى بالاعتبار من غيره، ولذلك لا نرى وجهاً معتبراً لهجران كثير من الأدعية المعتبرة لأجل الاهتمام بوجادات متأخّرة لا دليل على اعتبارها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] جُنة الأمان الباقية وجَنّة الإيمان الباقية «المصباح»، ص770 (ط. إسماعيليان -طهران).
[2] شأن الدّعاء، ص16.
[3] الموضوعات، ص75.
[4] بحار الأنوار، ج91، ص384.
[5] جمال الأسبوع، ص279.
[6] مهج الدعوات، ص194.