بسم الله الرّحمن الرّحيم
غلوّ الشّلمغاني وآثاره في «كتاب الأوصياء»
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد الأنبياء والمرسلين، محمّد بن عبد الله الصّادق الأمين، وعلى أهل بيته الطيّبين الطّاهرين، واللّعن الدّائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
اشتهر في الأوساط العلميّة نسبة كتاب «إثبات الوصيّة» للمؤرّخ عليّ بن الحسين المسعوديّ المتوفّى سنة 346 هجريّة، وقد بيّنت التّحقيقات العلميّة خطأ هذه النّسبة، وأنّ هذه النّسخة لا تعود نسبتها إلى المسعوديّ، ولا يصحّ تسميتها بـ«إثبات الوصيّة، وإنّما هي «كتاب الأوصياء» لمحمّد بن عليّ الشلمغانيّ المقتول سنة 322 هجريّة. ومن الدّراسات الوافية بإثبات هذا الأمر ما أفاده السيّد محمّد جواد الشّبيريّ الزنجانيّ (حفظه الله) في دراسةٍ له حول هذا الكتاب، والسيّد عبد الهادي العلويّ (حفظه الله) في مقالته: (كتاب إثبات الوصيّة، للمسعوديّ أم للشلمغاني؟) المنشورة في مجلة الخِزانة.
وقد وقفتُ على طبعةٍ جديدةٍ للكتاب، صادرة عن مؤسّسة تراث الشّيعة، بتحقيق عبّاس الكثيريّ، وفي مقدّمتها دراسة السيّد الشبيريّ حول الكتاب باللّغة الفارسيّة، وقد بيّن فيها جملةً من الأدلّة على كون الكتاب للشّلمغانيّ.
وما دوّنه السيّدان -الشبيريّ والعلويّ- في دراستيهما حول الكتاب متينٌ جدّاً كما لا يخفى، إلّا أنّهما لم يقوما بدراسة متنيّة للكتاب تستقصي شيئاً من الارتباط بين شخصيّة الشلمغانيّ وما عُرف به من الغلوّ والارتفاع وبين ما في متن الكتاب من رواياتٍ وعباراتٍ من كلامه، فإنّ ذلك سيكون من جملة القرائن الشّاهدة بارتباط هذه النّسخة بشخصيّة الشلمغانيّ؛ باعتبار قُربها من مسلكه.
[الملامح العقائديّة في شخصيّة الشلمغانيّ]
من المتعارف أنّ الشّلمغانيّ كانت له فترة استقامةٍ، حيث كان من مشايخ الإماميّة في العلم والفُتيا، إلّا أنّه بسبب حبّ الدّنيا وحسده للسّفير الثّالث الحسين بن روح النوبختيّ انحرف وضلّ ضلالاً بعيداً، فأخذ في ابتداع مقولاتٍ في الغلوّ والارتفاع، ولذلك رماه علماؤنا بالغلوّ والضّلال، كما صدر في حقّه لعنٌ من الإمام (عجّل الله فرجه الشّريف)[1].
وقد صرّح بعض العلماء أنّ الشّلمغانيّ قد ألّف «كتاب الأوصياء» في فترة استقامته المُدّعاة[2]، إلّا أنّ التأمّل في مضامين هذا الكتاب يورث الاطمئنان بأنّ الشّلمغانيّ كان منطوياً على بعض العقائد الفاسدة في زمان استقامته الظّاهريّة، إلّا أن يُقال -بخلاف المتعارف- بأنّه ألّف الكتاب بعد انحرافه وضلاله.
والاحتمال الأوّل وجيهٌ جدّاً، لا سيّما مع تصريح الشلمغانيّ بقوله: (ما دخلنا مع أبي القاسم الحسين بن روح في هذا الأمر إلّا ونحن نعلمُ فيما دخلنا فيه، لقد كُنّا نتهارش على هذا الأمر كما تتهارش الكلابُ على الجيف)[3]، فهذا ربّما يدل على أنّ الشلمغانيّ كان من بداية أمره متكلّفاً متصنّعاً، وأنّ دخوله في هذا الأمر كان لغرض الاستئكال بآل محمّد (عليهم السّلام) وطلب الجاه والرّياسة.
وأيّاً كان الحال؛ فإنّ «كتاب الأوصياء» تضمَّنَ بعض الإشارات التي تتطابق مع المنقول حول مسلك الشلمغانيّ خصوصاً والغلاة عموماً من جهة اللفظ والدّلالة، وكان من المهمّ التّنبيه على هذه القضيّة في بحث نسبة الكتاب، فإنّ هذه المسألة من جملة القرائن التي تبعّد نسبة الكتاب إلى المسعوديّ كثيراً، وتؤكّد انتسابه إلى الشلمغانيّ.
ومن جملة الشّواهد التي تؤكّد وجود آثار الغلاة في هذا الكتاب:
الشّاهد الأوّل: التّصريح بفكرة بـ«الضدّ».
قال الشّلمغانيّ بعد أن ذكر قصّة آدم (عليه السّلام) وإبليس: (فصار اللّعينُ ضِدّاً لآدم عليه السّلام منذ ذلك الوقت)[4].
من جملة الأمور التي يعتقد بها الغُلاة أنّ كلّ دورٍ من الأدوار فيه وليٌّ، ويوجد بالضّرورة عدوٌّ له من أعداء الله يعبِّرون عنه بـ«الضدّ»، وهذه المفردة من الاصطلاحات الخاصّة بالغُلاة، وهي مبثوثة بكثرة في رسائل ومصنّفات الغلاة النصيريّة.
ويشهدُ لوجود فكرة الضدّ عند الشلمغانيّ ما رواه الشيخ الطوسيّ في «الغيبة»: (وقال أبو الحسن محمّد بن أحمد بن داود: كان محّمدُ بن عليّ الشلمغانيّ المعروف بـ«ابن أبي العزاقر» لعنه الله يعتقد القول بحَمْلِ الضدِّ، ومعناه: أنّه لا يتهيّأ إظهار فضيلةٍ للوليِّ إلا بطعن الضدِّ فيه؛ لأنّهُ يحمل سامعي طعنه على طلب فضيلته، فإذا هو أفضل من الوليّ؛ إذ لا يتهيأ إظهار الفضل إلّا به.
وساقوا المذهب من وقت آدم الأول إلى آدم السّابع؛ لأنّهم قالوا: سبع عوالم وسبع أوادم، ونزلوا إلى موسى وفرعون، ومحمّد وعليّ مع أبي بكر ومعاوية)[5].
وقال ابن الأثير في حكايته شيئاً من أحوال الشلمغانيّ: (وكان يقول: إنَّ الله -سبحانه وتعالى- يحلُّ في كلِّ شيء على قدر ما يحتمل، وإنه خلق الضدَّ ليدل على المضدود، فمن ذلك أنَّه حلَّ في آدم لمَّا خلقه، وفي إبليسه أيضاً، وكلاهما ضدٌّ لصاحبه لمضادّته إيّاه في معناه، وإنَّ الدليل على الحقِّ أفضل من الحقِّ، وإنَّ الضدَّ أقرب إلى الشّيء من شبهه)[6].
فهذه مقولةٌ مبنيّةٌ على أنّ كلّ وليٍّ له ضدٌّ بالضّرورة، لا يتخلّف وجوده عنه، ولهذا الأمر انعكاسٌ في كافّة الأدوار السّبعة (أدوار الآدمين السّبع)، ففكرة الضدّ مرتبطةٌ بمسألة الظهورات المختلفة في الأدوار السّبعة، ففي الدّور الأوّل يكون آدم (عليه السّلام) وضدُّه يظهرُ في صورة إبليس، وهكذا تختلف الظّهورات في الصّور في كلّ دورٍ، ويستمرّ الأمر إلى الدّور السّابع الذي يظهرُ فيه آدم بصورة محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وهذه الفكرة -أعني مسألة الأدوار- حاضرةٌ عند الشّلمغانيّ كما سيأتي في الشّاهد الثّاني.
والحاصل: إنّ مسألة الضّد معنىً ولفظاً من مختصّات الغلاة، ولها ارتباطٌ بمسألة الأدوار من جهة تكرّر ظهور المعنى وضدّه في كلّ دورٍ، وقد كان الشلمغانيّ يصرّح بها -كما نقل عنه الطوسيّ وابن الأثير-، وانعكست في إحدى عباراته في «كتاب الأوصياء».
الشّاهد الثّاني: رواية الأدوار السّبعة.
ورد في روايةٍ نقلها الشّلمغانيّ أنّ إبليس قال عند قرب ولادة النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (وسيأتي من هذا النبيِّ ومن أمّته ما يُسخن عيني وقلبي، فإلى أين المفرّ والملجأ؟ فقالت له عفاريته: يا سيّدهم، طِب نفساً وقرّ عيناً؛ فإنّ الله خلق ذريّة آدم على سبعة أطباق، ولكل طبقٍ منهم جزءٌ مقسومٌ، وقد مضت ستّة أطباق، وكانوا أشدّ من هؤلاء وأكثر جَمْعاً وأولاداً، وقد استوثقنا منهم، ولا بدّ من أن نستوثق مَنْ في الطّبق السّابع)[7].
وقد ذكرنا ارتباط فكرتي الضدّ والأدوار السّبعة ببعضهما، حيث إنّ كلّ دورٍ يحتوي على معنىً وضدِّه، ويؤيده ما ورد في ذيل رواية الشيخ الطوسيّ السّابقة وفيها: (وساقوا المذهب من وقت آدم الأول إلى آدم السّابع؛ لأنّهم قالوا: سبع عوالم وسبع أوادم، ونزلوا إلى موسى وفرعون، ومحمّد وعليّ مع أبي بكر ومعاوية).
وهذه العقيدة قد حكاها ابن الأثير أيضاً عن الشلمغانيّ فقال: (وكان يقول: ...، وإنّ الله -عزّ وجلّ- إذا حلّ في جسدٍ ناسوتيٍّ ظهر من القدرة والمعجزة ما يدلُّ على أنَّه هو، وإنَّه لما غاب آدم ظهرَ اللاهوتُ في خمسة ناسوتية، كلَّما غاب منهم واحدٌ ظهر مكانه آخرُ، وفي خمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة، ثم اجتمعت اللاهوتية في إدريس وإبليسه، وتفرَّقت بعدهما كما تفرقت بعد آدم، واجتمعت في نوح عليه السّلام وإبليسه، وتفرّقت عند غيبتهما، واجتمعت في هود وإبليسه، وتفرقت بعدهما، واجتمعت في صالحٍ عليه السلام وإبليسه عاقر الناقة، وتفرقت بعدهما، واجتمعت في إبراهيم عليه السلام وإبليسه نمروذ، وتفرّقت لما غابا، واجتمعت في هارون وإبليسه فرعون، وتفرَّقت بعدهما، واجتمعت في سليمان وإبليسه، وتفرقت بعدهما، واجتمعت في عيسى وإبليسه، فلمَّا غابا تفرقت في تلاميذ عيسى وأبالستهم، ثم اجتمعت في عليّ بن أبي طالب وإبليسه)[8].
فهؤلاء الأنبياء -وليسوا بأنبياء عند الغلاة- يتعاقبون في أدوارٍ مختلفةٍ، وكلّ واحدٍ منهم له ضدُّه، فلا انقطاع للأضداد في الأدوار كلّها.
وهذه الفكرة حاضرةٌ عند جمهرةٍ من فرق الغلاة، ومن شواهد ذلك ما ورد في كتاب «الهفت» المنسوب إلى المفضّل بن عمر الجعفيّ -و«هَفْت» كلمةٌ فارسيّة تعني الرّقم سبعة-، وفيه أنّ المفضل سأل الصّادق (عليه السّلام) عن سبب الأدوار السّبعة فأجابه بقوله: (ثم خلق الأدوار الاثني عشر، وكان قد قدّر خلقهم إلى أن خلق لهم الأبدان من الطّين بخمسة أدوار، وكلّ دورٍ بخمسين ألف سنة، وبقيت سبعة أدوار، فكان من الأدوار السّبعة دور الأبدان النورانيّة..)[9].
وهذا الهذر كلّه أشبه بلحن قول بعض الغلاة الإسماعيليّة المتقدّمين؛ فإنّهم سَبْعيّة.
الشّاهد الثالث: اطّراد التّعبير عن النبيّ صلّى الله عليه وآله بـ«السيّد محمّد».
من الأمور المتكرّرة في مصنّفات الغلاة ورسائلهم تعبيرهم عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بـ«السيّد محمّد» أو «السيّد رسول الله»، وهذا الأمر ممّا اختصّوا به أيضاً؛ إذ ليس له أثرٌ في مصنّفات الإماميّة المعتبرة. ولا نعني بذلك نفي هذه الصّفة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في روايات الإماميّة؛ فإنّه سيّد الخلق أجمعين. وإنّما ننفي وجود مثل هذا التعبير في الأسانيد والرّوايات، فلا تجد في رواية تابعيٍّ مثلاً: (عن أبي ذر الغفاريّ، قال: حدّثني السيّد محمّد صلّى الله عليه وآله.. إلخ).
وهذا الاصطلاح متكرّرٌ كثيراً في كتاب الشّلمغانيّ، ومن جملة المواضع التي ورد فيها:
1- قال الشّلمغانيّ: (ورُوي عن العالِم عليه السّلام أنّه قال: لمّا أراد الله عزّ وجلّ أن يُظهِرَ السيّد محمّد أنزل قطرةً من تحت العرش..إلخ)[10].
2- وقال أيضاً: (ورُوي أنّ السيّد محمّداً وُلد مع طلوع الفجر من يوم الاثنين..)[11].
3- وقال أيضاً: (وكان من قصّة اليهود وطلبهم إيّاه ومن خبر خروج السيّد محمّد مع عمِّه أبي طالب واجتيازه ببحيرا الرّاهب في طريق الشّام)[12].
4- وورد في روايةٍ: (فارتعدت مفاصل السيّد محمّد صلّى الله عليه وآله فقال: هو السّلام، ومنه السّلام..)[13].
5- وقال أيضاً: (وكانت ولادة آمنة بنت وهب بن عبد مناف أمّ السيّد محمّد صلى الله عليه وآله في شهر ربيع الأوّل من عام الفيل)[14].
6- وقال أيضاً: (رُوي عن السيّد رسول الله صلى الله عليه وآله: كنت أنا وعليّ نوراً في جبهة آدم..)[15].
7- وقال في حديثه عن ردّ الشّمس: (ورُوي إنّما رُدَّتْ عليه في حياة السيّد رسول الله صلى الله عليه وآله)[16].
8- وقال أيضاً: (وُلِدت سيد النساء فاطمة صلوات الله عليها بعد مبعث السيّد رسول الله...)[17].
وتكرر أيضاً في مواضع أخرى من الكتاب[18].
وهذا الاصطلاح كثير التّكرار في كتب الغلاة، كما أنّ بعض المتّهمين بالغلوّ كانوا يستعملونه، فقد نقل الكشيّ عن نصر بن الصبّاح قوله: (موسى السوّاق له أصحاب علياويّة يقعون في السيّد محمّد رسول الله)[19]، وهذا ليس غريباً من نصرٍ؛ فإنّ النّجاشي رماه بالغلوّ جازماً[20]، وقال الشيخ الطوسيّ في ترجمته: (لقي جُلّة من كان في عصره من المشايخ والعلماء، وروى عنهم، إلّا أنَّه قيل: كان من الطيّارة، غالٍ)[21].
وجاء في «اختيار معرفة الرّجال» تعليقٌ على إسناد حديثٍ فيه نصر بن الصبّاح: (هذا حديثٌ موضوعٌ لا شك في كذبه، ورواته كلُّهم متّهمون بالغلوِّ والتفويض)[22]، وهذه العبارة إمّا من كلام الكشيّ أو الطوسيّ[23].
والحاصل: إنّ هذا الاصطلاح لم يُعهَد من علماء الإماميّة الثّقات، ولا ورد في كتبهم المعتبرة، بل هو مما جرى الغلاة على استعماله، والشّواهد كثيرةٌ جدّاً، فلتُلاحظ في مظانّها، ونكتفي هنا بذكر شاهدين اثنين، أوّلهما من كلام الحسين بن حمدان الخصيبيّ في كتابه «الرّسالة»، قال: (اعلم رحمك الله أنّ آدم هو السيّد محمّد، وحواء هي خديجة)[24].
وثانيهما: ما ورد في كتاب الدّستور -وهو من الكتب المهمّة في التراث النّصيريّ-: (أشهدُ بأنّ مولاي أمير النّحل عليّ اخترع السيّد محمّد من نور ذاته)، وهذه العبارة وردت في السّورة المسمّاة بـ«سورة الفَتْح».
الشّاهد الرّابع: مقولة حَمْل الأوصياء في الجُنُوبِ دون البُطون.
ورد في روايةٍ نقلها الشّلمغانيّ حول ولادة الإمام المهديّ (عليه السّلام)، وفيها: (قالتْ حكيمة: فتعجّبتُ، وقلتُ لأبي محمّد: إنِّي لستُ أرى بها أثر حملٍ. فتبسّم -صلّى الله عليه- وقال لي: إنَّا معاشر الأوصياء لا نُحمَل في البُطون، ولكنَّا نُحمَل في الجُنُوبِ، وفي هذه اللّيلة مع الفجر يولد المولود المكرَّم على الله إن شاء الله)[25].
وهذه الرّواية من مختصّات آثار الغلاة، ولا أثر لها بهذه السّياقة في الكتب المعتبرة، بل قد استنكرها بعض العلماء.
ومن المصادر المشوبة بالغلوّ التي نقلت هذا الحديث:
1- كتاب «دلائل الإمامة» المنسوب إلى محمّد بن جرير الطبريّ الصّغير، ولفظ روايته من قول السيّدة حكيمة: (فقمتُ إلى الجارية فقلّبتُها ظهراً لبطنٍ فلم أرَ بها حَمْلاً، فقلت: يا سيّدي، ليس بها حَمْلٌ. فتبسّم ضاحكاً وقال: يا عمّتاه، إنّا معاشر الأوصياء ليس يُحمَل بنا في البطون، ولكنّا نحمل في الجُنوب)[26].
وسند الرّواية في «دلائل الإمامة»: (وأخبرني أبو الحسين محمّد بن هارون، قال: حدّثني أبي رضي الله عنه، قال: حدّثنا أبو عليّ بن همّام، قال: حدّثنا جعفر بن محمّد، قال: حدّثنا محمّد بن جعفر، عن أبي نعيم، عن محمّد بن القاسم العلويّ)، وقد استنكر الشّيخ الطوسيّ على جعفر بن محمّد بن مالك الفزاريّ ما رواه من أعاجيب في مولد القائم (عليه السّلام)، والأقرب أنّ هذا منها، قال الشيخ بعد أن وثّقه: (روى في مولد القائم عليه السلام أعاجيب)[27]، أمّا النجاشيّ فقد طعن على الفزاريّ، وأنكر على أبي عليّ الإسكافيّ وأبي غالب الزّراريّ روايتهما عن هذا الرّجل، فقال: (كان ضعيفاً في الحديث. قال أحمد بن الحسين: كان يضعُ الحديث وضعاً ويروي عن المجاهيل. وسمعت من قال: كان أيضاً فاسد المذهب والرواية. ولا أدري كيف روى عنه شيخنا النبيل الثقة أبو علي بن همام وشيخنا الجليل الثقة أبو غالب الزراري رحمهما الله)[28]، وهذه الرّواية من روايات أبي عليّ الإسكافيّ عن الفزاريّ.
وقال ابن الغضائريّ في رجاله: (كذّابٌ، متروك الحديث جُملةً، وفي مذهبه ارتفاع، ويروي عن الضّعفاء والمجاهيل، وكلُّ عيوب الضّعفاء مجتمعةٌ فيه)[29].
ويظهر ممّا تقدّم -أيّاً كان القول في الفزاريّ- أنّ هذه الرّواية لم تُقبل من مشايخ الطّائفة، حيث استنكر الشيخ الطوسيّ الأعاجيب التي في رواية الفزاريّ في مولد القائم (عليه السّلام)، واستنكر النجاشيّ رواية أبي عليّ الإسكافيّ عن الفزاريّ.
وهذا الاستنكار ناشئ من شذوذها عن الأخبار التي وردت في شأن الولادة، حيث انفردت بهذه اللّفظة المُنكرة؛ فإنّ الشّيخ الصّدوق قد روى هذه الرّواية ولفظها خالٍ من ذكر الحمل في الجُنوب، قالت حكيمة: (فقلت له: ومَنْ أمُّه؟ قال لي: نرجس. قلت له: جعلني الله فداك، ما بها أثر. فقال: هو ما أقول لكِ)[30].
ومن هنا علّق السيّد جعفر مرتضى العامليّ (رحمه الله) على هذه الرّواية وأمثالها بقوله: (وهذه الرواية لا يصحُّ الاعتماد عليها، بل يُكذِّبُها الواقع العملي لأمّهات المعصومين عليهم السلام؛ لأنهنّ -كما نقرأ في كتب السّيرة - كانت تبدو عليهنّ آثار الحمل في بطونهن..إلخ)، وأيّد قوله بالاستدلال بما ورد في بعض الزّيارات: (أشهدُ أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشّامخة والأرحام المُطهّرة)، ثم علّق بقوله: (وهو يدل على أن الحمل كان في الأرحام، لا في غيرها)[31]، والشّواهد المعارضة لهذا المعنى في الكتب المعتبرة أكثر مما ذكره السيّد.
2- كتاب «عيون المعجزات» للشّيخ الحسين بن عبد الوهاب -وهو مجهول لم يردّ بحقّه توثيق، وكتابه مشوبٌ بأخبار الغلاة-، ولفظه يطابق لفظ رواية الشلمغانيّ[32].
3- كتاب «الهداية الكبرى» للحسين بن حمدان الخصيبيّ المتّهم بالكذب وفساد المذهب، ولفظ روايته: (فقلتُ لسيّدي أبي محمّد عليه السّلام: ما أرى بها حملاً. فتبسّم عليه السّلام ثمّ قال: إنّا معاشر الأوصياء ليس نُحمَل في البطون، وإنّما نُحمَل في الجُنوب، ولا نخرج من الأرحام، وإنّما نخرج من الفخذ الأيمن من أمّهاتنا؛ لأنّنا نور الله الذي لا تناله الدّناسات).
وقد أثبتُّ هذا النصّ من بعض النّسخ الخطيّة؛ فإنّهُ قد ورد في طبعة دار البلاغ[33] وطبعة شوقي الحدّاد[34] مصحّفاً، وأمّا في طبعة الحمصيّ فقد حذف تلك العبارة من النصّ خلافاً للأمانة العلميّة، فضبط النصّ بهذا النّحو: (فقلتُ لسيّدي أبي محمّد عليه السّلام: ما أرى لها أثر حملٍ. فتبسّم وقال: إنّا معاشر الأوصياء [لا يبان حملنا]، ...، لأننا نور الله الذي لا تناله الدّناسات)[35]، فحذف تلك الفقرة لما فيها من قُبحٍ وكذبٍ.
نسخة خطيّة لكتاب الهداية الكبرى محفوظةٌ في مكتبة مجلس الشورى الإيرانيّ، رقمها (7053).
النصُّ المحرّف في طبعة «الشّيخ» مصطفى الحمصيّ الصادرة عن شركة الأعلميّ للمطبوعات ببيروت.
والحسين بن حمدان من رؤوس الغلاة أيضاً، فلا يُركن إلى روايته، بل إنّه توغّل في الكذب فزاد في الرّواية أنّ الولادة تكون من الفخذ الأيمن، وهذا أيضاً مما انفرد به الغلاة، ولا أثر له في الأحاديث المعتبرة.
وهذه المقولة واردةٌ في كتب الغلاة من قبيل كتاب «الهفت الشّريف»، فقد ورد فيه: (فقال الصّادق: إنّ الله أنشأ أبدان الأوصياء أفخاذاً إلى الملائكة حتّى يبلغوا المدى، هذا مع طهارة الملائكة كما أخبرتُكَ. فإذا أراد الله إظهار الإمام في الظّاهر تأديباً لهذا الخلق أرسل روحاً من عنده فيدخل في المولود الذي قد يتطهّرُ من كلّ دنس، ولم يُزاحِمْهُ رَحِمٌ، ولكن تدخل الرّوح فيه تأديباً للنّاس)[36].
وفي رواية الحافظ رجب البرسيّ في كتابه «مشارق أنوار اليقين» ضمن حديث المعرفة بالنورانيّة -وهو من أحاديث الغلاة- يُنسب إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه قال: (إنّ ميّتنا إذا مات لم يمت، ومقتولنا لم يُقتَل، وغائبنا إذا غاب لم يغب، ولا نَلِدُ ولا نُولَدُ في البُطُونِ)[37].
والحاصل ممّا تقدّم: إنّ هذه الرّواية مع هذه الزّيادة المنكرة لا أصل لها في الأحاديث المعتبرة، بل إنّها ممّا وقع محلاً للاستنكار من قِبل نُقّاد الحديث، بالإضافة إلى وجودها في كتب التّخليط والغلوّ، وهذا ممّا يؤكّد أنّ جملةً من مصادر الشلمغانيّ في كتابه لم تكن على حالٍ من السّلامة والسّداد.
الشّاهد الخامس: فكرة البابيّة في حديث الشّلمغانيّ.
قال في أحداث مولد النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (ورُوي أنّ الوصيَّ الذي كان هو صاحب الزّمان في ذلك الوقت هو [آبي]، فلمّا وُلِدَ -صلّى الله عليه وآله- خبَّر ثقاته بأمره، وكان ذلك الوصيّ حُجّةً له في الظّاهر وباباً في الباطن؛ لأنّ رسول الله -صلّى الله عليه وآله- لم تكن عليه حجّة قط، ولا كان إلّا حجّةً، فكان -صلّى الله عليه وآله- منذ وقت ولادته إلى أن نطق بالرّسالة حجّةً على الوصيّ وعلى ثقاتِ الوصيّ، وذلك الوصيُّ حجّة على الخلق في الظّاهر، وباب السيّد محجوجٌ به في الباطن)[38].
وليس في الأخبار المعتبرة عند الإماميّة أثرٌ لوجود منصب الباب، وهو أمرٌ حاضر في كتب الغلوّ بكثرة، فالقسم الثّاني من «الهداية الكبرى» للخصيبيّ مبنيٌّ على هذه الفكرة، وكذلك في كتاب «دلائل الإمامة» يذكر لكلّ إمامٍ باباً، فذكر «سفينة» باباً للحسن عليه السّلام، و«رشيد الهجريّ» باباً للحسين عليه السّلام، و«يحيى بن أمّ الطويل» باباً لزين العابدين عليه السّلام، و«جابر بن يزيد الجعفيّ» باباً للباقر عليه السّلام، و«المفضل بن عمر» باباً للصّادق عليه السّلام، و«محمّد بن المفضّل» باباً للكاظم عليه السّلام، و«محمّد بن الفرات» باباً للرّضا عليه السّلام، و«عمر بن الفرات» باباً للجواد عليه السّلام، و«عثمان بن سعيد العمريّ» باباً للهادي والعسكريّ عليهما السّلام.
وكذلك في بعض أسانيد كتاب «طب الأئمّة» -وفيه أشياء من لحن الغلاة-، ولفظه: (محمّد بن جعفر بن عليٍّ البرسيّ، قال: حدّثنا محمّد بن يحيى البابيّ-وكان باباً لمحمّد بن سنانٍ بناحية أرمينية، وكان محمّد بن سنانٍ باباً للمفضّل بن عمر، وكان المفضّل باباً لأبي عبد الله الصّادق عليه السّلام-)، وقد أثبتنا هذا النصّ من نسخةٍ خطيّةٍ محفوظةٍ في مكتبة المدرسة الجعفريّة في «زهان/قائن»، رقمها (4/145)، ناسخها: ضياء الدين مير محمد أمين الحسينيّ السبزواريّ، فرغ من نسخها في سنة 1089 هجريّة؛ لأنّ النصّ في المطبوع وأكثر النّسخ فيه سقط ونقص.
وهذا كلُّه لا أثر له في الكتب المعتبرة، وإنّما هو مبثوث في كتب الغلوّ والتّخليط، ولم يُعرَف في أوساط الشّيعة أيّ منصبٍ سوى الوكالة والسّفارة، وأمّا التعبير عن منصبٍ خاصٍّ بـ«الباب» فلا نصيب له من الاعتبار.
وبالإضافة إلى هذه الشّواهد، نذكر أمراً آخر في الخاتمة، وهو أنّ الشّلمغانيّ نقل روايةً تشير إلى دخالة التّناسخ في النّسل البشريّ بعد نوحٍ عليه السّلام، حيث إنّه بعد الطّوفان لم يكن لدى نوحٍ سوى ابنة واحدة، وكان معه أربعة من المؤمنين لا يجد لهم زوجاتٍ، فجيء بهرّةٍ وقردةٍ وخنزيرةٍ ثم صرن على صورة بشريّة، ثم أمر الله بتزويج المؤمنين الأربعة بهنّ، وهذه الرواية من الغرابة بمكانٍ، ولعلّها تلوّح بالارتباط بفكرة التناسخ العريقة في تاريخ الغلاة وتراثهم الرّديء.
ورد في رواية الشّلمغانيّ ما هذا لفظه: (وخرج معه من السّفينة ابنةٌ واحدةٌ من بناته، وثلاثة بنين، وأربعة من المؤمنين، وكان نوح التّاسع، فجاء كلّ واحدٍ من الأربعة المؤمنين يخطبُ ابنته على حِدته سرّاً من أصحابه، فضاق بذلك ذَرْعاً، وشكا إلى الله جلّ ذكره، وقال: يا ربّ، لم يبقَ من أصحابي إلّا هؤلاء الأربعة، وكُلٌّ قد خطب ابنتي، وإن زوّجتُ واحداً غضب الباقون. فأوحى الله إليه أن يأخذ كساءً فيجعل ابنته فيه تحت الكساء، ويجعل معها هرّةً وقردةً وخنزيرةً ويستر الجميع، ثم يرفع الكساء، فإنّك ترى أربع جَوَارٍ لا تعرفُ ابنتك منهنّ، فزوِّجْ كلَّ واحدٍ من أصحابك بواحدة منهنّ. فرُوِي عن العالِمِ عليه السّلام أنّه قال: فمن هناك تناسخ الخلق)[39].
خاتمة:
هذه نبذة مختصرة من الشواهد على حضور آثار الغلوّ في شخصيّة الشلمغانيّ وانعكاسها على كتاباته وتعابيره، ولا يخفى أنّ هذا الكتاب يستحقّ دراسةً موسّعةً تفصيليّةً تعمل على تفحّص متونه، فلها فوائد جمّة، منها: التمييز بين الأخبار المأخوذة من كتب أصحابنا الإماميّة، وبين ما يظهر أنّه من تراث الغلاة؛ فإنّ هذا الكتاب قد جمع بين الغثّ والسّمين، وليس كلّه مبنياً على الغلوّ، بل فيه أخبارٌ صحيحةٌ أيضاً. ومنها أيضاً: معرفة مناهج الغلاة وأساليبهم في نقل الحديث تحمّلاً وأداءً، والتّعرف الدّقيق على شخصيّة الشلمغانيّ، ولا سيّما أنّ هناك جملة من النّصوص المريبة -لم نتعرّض لها في هذه المقالة- تحتاج إلى مزيدٍ من البحث لمعرفة مصادر الشّلمغاني وحقيقة مسلكه.
إبراهيم جواد
قم المقدّسة (زادها الله شرفاً).
الثلاثاء، 27 شهر رمضان 1444هـ/ 18 أبريل 2023م.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] فلتُلاحظ دراسة السيّد عبد الهادي العلويّ المشار إليها؛ فإنّها وافية بشرح حال الشلمغانيّ، ونقتصر في المقام على ما يرتبط بالبحث.
[2] قال الحر العامليّ: (كتاب الوصية صنفه الشلمغاني في حال استقامته، وقد كانت عندي نسخته وعليها خطوط جماعة من الفضلاء بذلك)، انظر: وسائل الشيعة، ج25، ص31.
[3] الغيبة، ص391-392، رقم الحديث 361.
[4] إثبات الوصية، ص69.
[5] الغيبة، ص406، رقم الحديث 379.
[6] الكامل في التاريخ، ج7، ص27.
[7] إثبات الوصيّة، ص198.
[8] الكامل في التّاريخ، ج7، ص27-28.
[9] الهفت الشّريف، ص23.
[10] إثبات الوصيّة، ص201.
[11] إثبات الوصية، ص205.
[12] إثبات الوصيّة، ص206.
[13] إثبات الوصية، ص217.
[14] إثبات الوصيّة، ص219.
[15] إثبات الوصية، ص228.
[16] إثبات الوصية، ص265.
[17] إثبات الوصيّة، ص272.
[18] انظر: إثبات الوصية، ص203-204/ص213.
[19] اختيار معرفة الرجال، ص569، رقم الحديث 1001.
[20] رجال النجاشيّ، ص428، رقم الترجمة 1149.
[21] رجال الطوسيّ، ص449، رقم الترجمة 6385.
[22] اختيار معرفة الرّجال، ص269، رقم الحديث 347.
[23] قال العلامة المجلسيّ: (قوله: «هذا حديث موضوع» كلام الكشيّ أو الشيخ)، انظر: بحار الأنوار، ج66، ص280.
[24] انظر: سلسلة التراث العلوي (كتاب: الرسالة الرستباشية)، ج2، ص47.
[25]) إثبات الوصية، ص418.
[26] دلائل الإمامة، ص500، رقم الحديث 490.
[27] رجال الطوسيّ، ص418، رقم الترجمة 6037.
[28] رجال النجاشي، ص122، رقم الترجمة 313.
[29] رجال ابن الغضائريّ، ص48، رقم الترجمة 27.
[30] كمال الدين وتمام النّعمة، ج2، ص452، باب ما روي في ميلاد القائم، ح1.
[31] الصّحيح من سيرة الإمام عليّ عليه السّلام، ج1، ص72-73.
[32] عيون المعجزات، ص279.
[33] الهداية الكبرى (ط دار البلاغ)، ص330.
[34] الهداية الكبرى (ط شوقي الحداد)، ص608.
[35] الهداية الكبرى (ط الحمصيّ)، ص418.
[36] الهفت الشريف، ص89-90.
[37] مشارق أنوار اليقين، ص306.
[38] إثبات الوصيّة، ص203-204.
[39] إثبات الوصيّة، ص85.