بسم الله الرحمن الرحيم
كلمةٌ حول دعاء الجوشن الكبير
[مصدر الدّعاء]
إنَّ أقدم مصدرٍ لدعاء الجوشن الكبير عند الإماميّة كتابُ «البلد الأمين» وكتاب «المصباح» للشّيخ إبراهيم بن عليّ الكفعميّ -المتوفّى أوائل القرن العاشر الهجريّ-، وليس له ذِكْرٌ في المصادر الإماميّة المتقدّمة، كما أنّنا لم نجدهُ في مصادر الحديث والدّعاء عند العامّة. نعم؛ هو من المتداول بكثرةٍ في أوساط الصّوفيّة، ومن يُلاحظ فهارس المكتبات التركيّة يجد حضوره وافراً في النّسخ الخطيّة عندهم؛ وذلك لرواجه في الزّوايا والتّكايا عند متصوّفة الأتراك، فهو مشهورٌ بينهم، والأشبه أنّ دعاء الجوشن مأخوذٌ منهم.
ومن المعلوم أنّ الشّيخ الكفعميّ قد شخّص مصادر كتابَيْه المذكورَيْن عند الفراغ منهما، ويظهر بوضوحٍ أنّه قد استند إلى تراث المخالفين وأدخل جملةً من الأعمال الواردة عنهم في كتابيه، ومن الواضح أنّه لا يمكن تحصيل الوثوق بكلّ ما أورده عنهم. على أنّه ينبغي الالتفات إلى الفرق بين تراث المخالفين المنقول من طريق أهل الحديث والمنقول عن المتصوّفة؛ فإنّ المتصوّفة -غير أهل الحديث- أقلّ ضبطاً وعنايةً بقواعد الرّواية، وأكثر جرأةً على تبرير مخترعاتهم باختلاق الرّوايات، ومن هنا: فلو كان المنقول عن العامّة من جهة أهل الحديث فإنّه لا وثوق في الغالب ولا سيّما عند الانفراد، ولو كان من جهة المتصوّفة فإنّ الأمر أشدّ صعوبةً.
وبالإضافة إلى استناده إلى تراث العامّة في مواضع كثيرة، لا يخفى تأثّر الشيخ الكفعميّ ببعض تصانيف المتصوّفة ومذاقهم في الأوراد والأذكار، ويظهر ذلك جليّاً من خلال ما ذكره في خواصّ الأسماء الحُسنى في أواخر «البلد الأمين» حيث ذكر لكل اسمٍ أثراً خاصّاً، وفي بعض الأحيان خصّصه بعددٍ مبنيّ على حساباتٍ خاصّةٍ، وهذا مبنيٌّ على الطّريقة المعروفة عند المتصوّفة، وقد أخذ ذلك من الحافظ رجب البُرسيّ كما صرّح بذلك، وليس شيءٌ من هذه الأمور مذكوراً في آثار الإماميّة المتقدّمين، وإنّما هو شيءٌ أخذه بعض المتأخّرين من الإماميّة عن المتصوّفة.
[حول دعوى إشارة السيّد ابن طاوس له في «مهج الدّعوات»]
وقد يُقال إنّ السيّد ابن طاوس قد أشار إليه في كتاب «مهج الدّعوات» حيث توجد عبارة عند خاتمة دعاء الجوشن الصّغير، وفيها: (الشّرح المعروف بشرح دعاء الجوشن. يقول كاتبه الفقير إلى الله تعالى أبو طالب بن رجب: وجدتُ دعاء الجوشن وخبره وفضله في كتابٍ من كُتبِ جدّي السّعيد تقيّ الدّين الحسن بن داود -رحمه الله عليه- يتضمّن «مهج الدّعوات» وغيره بغير هذه الرّواية، والخبر متقدِّمٌ على الدّعاء، فأحببتُ إثباته في هذا المكان ليُعلم فضل الدّعاء المذكور، وهذا صفة ما وجدتُه بعينه: خبر دعاء الجوشن وفضله وما لقارئه وحامله من الثّواب بحذف الإسناد..إلخ)، ثم ذكر ثواباً طويلاً بلفظ رواية تتقارب كثيراً مع رواية فضل دعاء الجوشن الكبير. [مهج الدّعوات، ص275-276، طبعة مؤسسة الأعلميّ -بيروت].
وقد شكّك العلّامةُ المجلسيّ في كون هذه العبارة من كلام السيّد ابن طاوس حيث قال: (ومن الغرائب أنّ السيِّدَ ابن طاوس -قدّس الله روحه- بعد ما أورد الجوشن الصغير المُفتَتح بقوله: «إلهي كم من عدوٍّ انتضى عليَّ سيف عداوته» في كتاب مهج الدعوات، قال: خبر دعاء الجوشن وفضله وما لقارئه وحامله من الثواب بحذف الإسناد..إلخ)، ثم قال العلّامة المجلسيّ: (أقولُ: ظهرَ لي من بعض القرائن أنّ هذا ليس من السيِّد -قدّس اللهُ روحَه-، وليس هذا إلا شرح الجوشن الكبير، وكان كتب الشيخ أبو طالب بن رجب هذا الشّرح من كُتبِ جدِّه السّعيد تقيّ الدّين الحسن بن داود لمناسبة لفظة الجوشن واشتراكهما في هذا اللّقب في حاشية الكتاب، فأدخله النسّاخ في المتن) [انظر: بحار الأنوار، ج78، ص332].
وكرّر هذا المعنى في موضعٍ آخر فقال بعد أن ذكر كلام أبي طالب بن رجب: (وهذا ليس من كلام السيّد ابن طاوس، وإنّما زادهُ ابن الشّيخ رجب، ولعله رُوِيَ في كليهما، وإن كان الظّاهر أنّه اشتبه على هذا الشيخ) [انظر: بحار الأنوار، ج94، ص327].
وما أفاده العلّامة المجلسيّ تامٌّ بلا ريبٍ، ولا يكفي للقدح فيه العثورُ على هذه الفقرة في بعض النّسخ المتأخّرة -وإن كانت مضبوطة مصحَّحةً؛ لأنّ الضّابط عادةً يهتمُّ بضبط الألفاظ والتخلّص من التّصحيفات، وقلّما يلتفت للمدخول أحدٌ سوى أهل الخبرة-، والعبارة تشهدُ بنفسها أنّها من كلام الشّيخ أبي طالب بن رجب، فقوله: (يقول كاتبه الفقير إلى الله تعالى أبو طالب بن رجب) صريحٌ جدّاً في أنّ هذه الإضافة بقلمه.
ومن الشّواهد القويّة على صحّة ما قاله أنّه قد وصلت إلينا نُسخةٌ عتيقةٌ جداً من كتاب «مهج الدّعوات»، كُتبت سنة 662 هجريّة -أي قبل وفاة ابن طاوس بسنتين-، كاتبُها: حسين بن عمّار البصريّ، وهذه النّسخة عليها خطّ السيّد ابن طاوس أيضاً، وهي محفوظةٌ في مكتبة جامعة طهران برقم (2004). وقد قامت مؤسّسة «شمس الضّحى» بطباعة كتاب «مهج الدّعوات» اعتماداً على هذه النّسخة النّفيسة، وليس فيها هذه الفقرة، بل الوارد فيها دعاء الجوشن الصّغير (ص279-289)، ثم دعاء الاعتقاد مباشرة (ص290)، ولم تُذكر هذه الفقرة. فهذه أقدم نسخ «مهج الدّعوات» على الإطلاق، وليس فيها هذه الفقرة المشكوكة، وهذا شاهدُ صدقٍ لكلام العلّامة المجلسيّ، فلا يمكن الجزمُ بأنّها من كلام السيّد ابن طاوس.
[مواقيت تلاوته]
هذا، والوارد في رواية الدّعاء أنّه يُتلى ثلاث مرّاتٍ في شهر رمضان، وليس فيها أنّه من أعمال ليلة القدر. نعم؛ يظهر من كلام العلّامة المجلسيّ في كتابه (زاد المعاد) أنّه يُقرأ في هذه اللّيالي حيث قال ما ترجمته: (وورد في بعض الرّوايات أن يُقرأ دعاء الجوشن في كلّ ليلةٍ من ليالي القدر الثّلاث)، انظر: زاد المعاد، ص127. وهو من سهو قلمه الشّريف، فإنّ رواية دعاء الجوشن الكبير لا تحتوي على ذلك، ومع اشتهارها في الآفاق عند متأخّري المتأخّرين وعند المتصوّفة من المخالفين لم يظهر في رواية هذا الدّعاء ما يشير إلى ذلك المعنى، كما أنّه - رحمه الله - أورد رواية دعاء الجوشن الكبير في بحاره(ج91، ص382)، وهي الرّواية المعروفة، وليس فيها ما يشهد لذلك القول.
وبناءً على ذلك: فإنّ قراءة دعاء الجوشن الكبير ليست من الأعمال الخاصّة بليلة القدر، فلا ينبغي التّشاغل بهذا الدّعاء -مع ما عليه من الضّعف الشّديد- عن السّنن الأكيد المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السّلام في أوثق كتب الشيعة الإمامية وأضبطها، فهي المُقدَّمةُ على ما سواها، وقد روى الشّيخ الصّدوق بسندٍ صحيحٍ: (وروى سليمان الجعفريّ، عن أبي الحسن عليه السّلام أنّه قال: صَلِّ ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين مائة ركعة، تقرأُ في كلّ ركعةٍ الحمدَ مرّةً وقل هو الله أحد عشر مرات)، انظر: من لا يحضره الفقيه، ج2، ص156، رقم الحديث 2021.
والأولى بالاهتمام من قِبل المؤمنين -وفّقهم الله لمرضاته- الصّحيفة الكاملة التي تتضمّن أدعيةً عظيمةً عن إمامنا زين العابدين عليّ بن الحسين (عليه السّلام)؛ فإنّها أولى بالاعتماد والاعتبار، وألصق بتراث الإماميّة من مرويات المتصوّفة، وأقربُ إلى منهج الدّعاء في سيرة أئمّة أهل البيت -صلوات الله عليهم-، فهي منبعٌ من منابع المعرفة الإلهيّة في التّوحيد والإمامة، ومسلكٌ نقيٌّ من مسالك العبوديّة والتضرّع والتذلّل بين يدي الله تبارك وتعالى.