بسم الله الرحمن الرحيم
لماذا لم يحتج أمير المؤمنين (عليه السلام) على أصحاب السقيفة بحديث الغدير؟!
من الإشكالات التي تُطرح للتشكيك في دلالة حديث الغدير أنه لو كان حديث الغدير دالّاً على الإمامة بالمعنى الذي يطرحه الشيعة لاحتجّ به أمير المؤمنين (عليه السلام) والسيّدة الزهراء (عليها السلام)، وإنّ الإمام لم يستشهد به إلا في مناشدة الرحبة بعد استلامه للحكم وقد انتفتِ الحاجةُ إليه.
وفي الجواب على ذلك نقول: إنّ المدّة الزمنيّة بين حادثة الغدير وغصب الخلافة أقل من ثلاثة أشهر، وقد كان الطرف الآخر حاضراً يوم الغدير، فالمعضلة لا تكمن في نسيانٍ أو جهلٍ ليكون ذكر حديث الغدير ضرورةً مُلِحَّةً ويكون عدم القيام بذكره مُضرّاً بدلالة الحديث أو مغيّراً من واقع الحال شيئاً.
على أنّ هذا الإشكال يستبطنُ صورةً مثالية عن واقع الخلاف آنذاك؛ فهو يُصوِّرُ الطرفَ الآخر على أنّه فريق مُتقيِّدٌ بالمناهج الأخلاقية والنزاهة العلميّة بحيث إنه يجعلُ الأدلة والبراهين حجةً عليه ويلتزم بها فيما لو أقيمت عليه، وكأنّه ينتظر الحقيقة ليتلقّفها ويعمل بها، والحال أنّ الأخبار قد تواترت في بيان عزمهم وعملهم على إقصاء آل محمد (عليهم السلام) في كل الأحوال، بلا فرق عندهم بين قيام الحُجّة من عدمه، ومن هنا لم يكن ذكر حديث الغدير أمراً ضرورياً بحیث يُحدث استحضاره مرّة أخرى فارقاً مؤثّراً، لا سيّما مع عدم طول بُعد العهد عنه، وحضوره في ذهن كافّة الأطراف.
وأمّا احتجاج الإمام بحديث المناشدة بعد استلامه الخلافة فقد كان إحياءً لهذا الحديث حيث طال العهد عنه ما يقارب الثلاثين عاماً، وفي صغار الصحّابة وكثير من التابعين مَنْ لم يسمع به، فجمعَ الناس في الكوفة واستشهدَ الصحابة على ما قاله النبي (صلى الله عليه وآله) يوم الغدير وقد ذكرنا تفاصيل هذه الحادثة في كتابنا (إحياء الغدير في مدينة الكوفة، دراسة حول مناشدة الرحبة) وأوردنا كثيراً من طرق الخبر بأسانيده وتكلّمنا عليه مفصّلاً، مع بيان القرائن المتعددة التي تؤكد أن حديث الغدير كان لإعلام المسلمين بإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام).
ومن الجدير بالذكر أنّه قد رُويت أخبارٌ تفيد أنّهما (عليهما السلام) ذكرا خبر الغدير في محاججة القوم، فقد روى الصدوق عن سيدة نساء العالمين مرسلاً أنّها قالت: «وهل ترك أبي يوم غدير خم لأحدٍ عذراً؟!»(1)، وروى في «الخصال» أيضاً خبر إنكار اثني عشر صحابيّاً على أبي بكر جلوسه في مجلس رسول الله وذكّروه بما صدر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من نصوصٍ في حقّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان ذلك العملُ منهم بإجازة الإمام(2)، وعلى تقدير عدم قبول هذه الأخبار ونظائرها، يرجعُ الكلام إلى تقدير الحاجة والضرورة لذكر الحديث مرةً أخرى، بالإضافة إلى نكتة مهمّة ينبغي التأكيد عليها، وحاصلها: إننا إذا لاحظنا محاورات الإمام مع الطرف الآخر فسنرى أنّه تجاوز مرحلة التذكير بالنصِّ في وقتٍ ما؛ لأنّ القوم قد جعلوه وراء ظهورهم، وانتقل إلى أسلوبٍ آخر وهو محاججتهم وإلزامهم بلوازم استدلالاتهم، ومنها ما قاله في كتابٍ له أرسله إلى معاوية: «ولما احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلى الله عليه وآله فَلَجوا عليهم، فإن يكن الفُلْج به فالحقُّ لنا دونكم، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم»(3)، يشيرُ بذلك إلى إلزامه حزب قريش بلازم قولهم عند محاججة الأنصار أنّهم أولى بالخلافة لأنّهم أقربُ إلى النبيّ، فألزمهم الإمام بأنّه إن كان المناطُ هو القرب فإنّه أقربُ منهم إلى النبيّ، وفي ذلك قال: «وا عجباً، أتكون الخلافة بالصحابة، ولا تكون بالقرابة؟!»(4).
وروي عنه شعرٌ في هذا المعنى أنه قال:
فإن كنت بالشورى ملكتَ أمرهم •• فكيف بهذا والمُشِيرون غُيَّبُ
وإن كنت بالقُربى حججتَ خصيمهم•• فغيرُك أولى بالنبيِّ وأقربُ(5)
وقوله في كتابٍ آخر لمعاوية: «إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشَّاهد أن يختار ولا للغائب أن يردَّ»(6)، يُلزمه بذلك بما يتمسّك به معاوية من صحّة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فيقول له إنّ الطريق الذي تصحِّحُ به خلافتهم هو نفسه الذي يُلزِمُك بطاعتي والائتمام بي كسائر المسلمين؛ لأنني جئتُ إلى منصب الخلافة بالطريقة التي جاؤوا بها، فهنا لا يحاجج الإمام بنصِّ نبويّ جعله معاوية وراءه ظهرياً، بل يُلزمه بما ألزم به نفسه، وهذا أبلغُ في الإفحام وإقامة الحُجّة عند الخِصام.
فقوّة الحِجَاج مع الخصم المقابل تكمن في اختيار الحجّة المُفحمة، وإنْ كان غيرُها أقوى وأنصعُ وأشرفُ مقاماً، ولكن العقلاء في باب المحاورة يميلون إلى إلزام الخصم وإدانته بما يلتزم به، وإنْ كانت الحجج الصحيحة حاضرة ولكنّ الآخر يأباها مكابرةً، ولذلك نرى أنّ طبيعة حوار الإمام مع القوم قد انتقلت من ميدانٍ إلى آخر بحسب ما اقتضته الحاجة آنذاك، وهذا هو الاختيار الموافق للمنهج الصحيح في إقامة الحجّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال الصدوق في كتابه «الخصال»: (إن يوم غدير خم لم يدع لأحد عذراً، هكذا قالت سيدة النسوان فاطمة عليها السلام لما مُنِعَتْ فدك وخاطبت الأنصار، فقالوا : يا بنت محمد، لو سمعنا هذا الكلام منك قبل بيعتنا لأبي بكر ما عدلنا بعلي أحداً، فقالت: وهل ترك أبي يوم غدير خم لأحدٍ عذراً؟!)، انظر: الخصال، ج1، ص173.
(2) الخصال، ح2، ص641، أبواب الاثني عشر، ح4.
(3) نهج البلاغة، ص587، المختار من كتب أمير المؤمنين ورسائله، الكتاب 28.
(4) نهج البلاغة، ص745، المنتزع من حكم أمير المؤمنين ومواعظه، ح179.
(5) المصدر السابق.
(6) نهج البلاغة، ص556، المختار من كتب أمير المؤمنين ورسائله، الكتاب 6.