قائمة المقالات

السبت، 8 أغسطس 2020

الأبعاد الدينية والسياسية في يوم غدير خم


بسم الله الرحمن الرحيم
الأبعاد الدينية والسياسية في يوم غدير خم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، أبي القاسم محمد بن عبد الله، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، أما بعد:-
مما لا شكَّ فيه أنّ يوم الغدير من الأيام المهمة والمحوريّة في تاريخ الإسلام، فهذا الحدث التاريخي بأبعاده العقائديّة كان يمثِّل ذروة ظهور واقعيّة الشريعة الإسلامية، وهذه الواقعيّة نعني بها انسجام التشريع الإلهي مع طبيعة الاجتماع البشريّ بما فيه من مزايا وعقبات، وتظهر الصورة واضحة بعد التأمل في بُعدين محوريين استهدفهما يوم الغدير بشكل أساسيّ:
البعد الأول: وهو البعد الديني الذي يتعلق بدين الله وأحكامه وشرائعه.
من الواضح أنّ النصوص المشيرة إلى إمامة أهل البيت (عليهم السلام) قد تكررت على لسان النبي (صلى الله عليه وآله)، وجاء يوم الغدير مؤكِّداً لهذه المسألة، مع بيان واضح يقطعُ كل شبهة، بتشخيص الإمام الذي فُوِّضَ إليه أمرُ حفظ الدين، وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهذا التعيين الإلهيِّ لحفظ الدين لم ينشأ عن أمرٍ عشوائي أو غير هادف، وإنما يأتي في سياق المعرفة بتعامل المجتمع البشري مع قضايا الوحي الإلهي، ومعالجة الثغرات الناشئة عنه.
بيان ذلك: إنّنا إذا لاحظنا تاريخ جملة كبيرة من الأديان والمذاهب الدينية والفكريّة نجدُ أنّها تعرَّضت إلى أنواع التحريف والتبديل والتزييف، حتى أنها قد تتغير بشكل كبير يختلف عن ملامحها الأولى، وهذا وإنْ كان يرجعُ إلى غياب القَيِّمِ المُحافظ عليها، إلا أنها ترتبط بشكل جذريٍّ بطبيعة تعامل المجتمع البشري – على تعدد مشاربه – مع قضايا الدين، فإنّ تلقِّي أفراد المجتمع للدين ونصوص الوحي والتشريع ليس على نمطٍ واحدٍ، فهناك من يلتزم الجادّة الوسطى، وهناك من يأخذهُ طبعه أو هواه إلى الإفراط، كما أنَّ البعض الآخر يميلُ إلى التفريط، وهذه الملاحظة ترتكزُ على فهم طبيعة المزاج العام للمجتمع الإنساني، وهو أنّه أشبه بطائر الخيال بالنسبة إلى الذهن، حيثُ لا تكون خطواته منتظمة وثابتة دائماً، بل يُكثر الحركة والانتقال بنحو تكثر معه التباينات والاختلافات، وبعبارة أوضح: إنّ الآفة التي تقضي على الدين تكمن في تسليم إدارة أموره لكلِّ من هبَّ ودبَّ بنحو يجدُ فيه المجتمع ثغرة يمكنه من خلالها صبغ الدين بلونه الخاص، وإذا سُلِّمَ الدينُ إلى هذه الأطباع المتباينة فإنهُ لا يُضمن بقاؤه سليماً لأكثر من مئة سنة على أحسن تقدير!
ومن هذه الجهة أيضاً يمكننا أن نلاحظ بعض الأفكار التي طرحها بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) وبعض أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، وكانت مخالفة للصواب أو منافية لأساس الدين، وكان الإمام القائم بالحقِّ يقوِّمُ ويصحِّحُ ويصوِّبُ.
ومن هنا نقول أيضاً: لعل تجربة بعض المذاهب التي انسلخت عن مدرسة الوحي، وفارقت أئمة الهدى (عليهم السلام) خيرُ دليل وبرهان على ذلك، حيثُ انطلقوا إلى القياس والاستحسان وتفسير القرآن بالرأي والهوى، وهذا كله أفضى إلى تغيير كبير في صورة الدين.
ولذلك لا بُدَّ من وجود القـيِّم الإلهيِّ الذي يحفظُ صورة الدين الأساسيّة ليُبعدها عن الإضافات البشريّة التي تُغيِّـرُ حقيقة الدين مع مرور الزمن، وهذه المسألة لم يلتفت إليها أغلبُ أرباب المذاهب الإسلامية، ولذلك مرَّت تجاربهم البشرية في البُعد العقائدي والفقهي بتغيُّـرات كثيرة، برز فيها الضعف والتهافت، فضلاً عن مساهمتهم في تشويه حقائق القرآن والحديث النبويّ، وفي المقابل نجدُ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) يواجهون هذا التحريف، فحاربوا التجسيم والجَبْر ونسبة الظلم إلى الله وسائر القبائح إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، كما واجهوا تحريف الأحكام الشرعية لصالح أهواء الحُكَّام الظالمين، ومنعوا من الركون إلى الحكومات الظالمة.
وبالمزيد من التأمل في سيرتهم يظهرُ جلياً أنَّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عارفون بدقائق هذا القانون الاجتماعي الذي يحكم علاقة المجتمع البشري بالدين، وبذلك أكَّدُوا على الحاجة إلى وجود القيِّم الذي يصون الدين عن التغييرات التي تمحو صورته الأساسية، ومما ورد في ذلك في كلامهم (عليهم السلام):
١. ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): (لن تخلو الأرض من رجلٍ يعرفُ الحقَّ، فإذا زاد الناسُ فيه، قال: «قد زادوا»، وإذا نقصوا عنه، قال: «قد نقصوا»...)(١).
٢. وروي عنه أيضاً: (ما ترك اللهُ الأرض بغير عالـمٍ، يُنقِصُ ما زاد الناسُ، ويزيدُ ما نقصوا، ولولا ذلك لاختلط على الناس أمورهم)(٢)، وفي رواية أخرى: (ولولا أن ذلك كذلك لم يُعرَف الحقُّ من الباطل)(٣ ).
كما جاء في ذيل بعض الروايات التي تُشير إلى إمامة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، في وصفهم ما نصُّه: (ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)(٤).
وهذا البيان في ذيل الرواية يُنبِّه إلى ضرورة الإمامة وأهميتها بالنسبة إلى بقاء الدين بصبغته الإلهيّة، وأنه بدونها لا يمكن تحقيق أهداف مسيرة الهداية الإلهية، فهي المعالج الأوّل لهذا المرض البشري وخطٌّ أساسيٌّ يمثل أهم مقاصد الوحي؛ لإبقاء مصباح الهدى منيراً يهدي الناس إلى الله تعالى.
وهذه الفكرة بأجمعها هي جوهر ولب حديث الثقلين الذي نصَّ على أنّ التمسك بأئمة أهل البيت (عليهم السلام) هو الحصن الحصين من الوقوع في شَرَكِ الضَّلال والتيه بُعداً عن دين الله، (ما إنْ تمسَكتُم بهمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعدِيْ)، وهذا يعني أنّ التمسك بأي قطب من الأقطاب الأخرى في المجتمع البشري والتعبد بأسلوبه وطريقته؛ لن يؤدي إلى الهداية، بخلاف ما لو تمسَّك المسلم بأهل البيت (عليهم السلام)، فإنَّ بصيرته ستزدادُ ضياءً ويقترب أكثر من غيره من الماء العذب الزلال.
والحاصل: إنّ تفاوت المزاج العام في المجتمع البشريّ، وكونه في حركة دائمة تُسبِّبُ له عدم الثبات فرضَ واقعاً حتمياً على مسيرة الأديان، وهو أنها صارت عرضة للتحريف والتزييف واصطباغها بالأفكار الأجنبية عنه، وهذا الأمر قد عالجه التشريع الإلهي بفرض الإمامة كميزان حقٍّ يفصل بين الحق والباطل، بحيث يكون منصبُ الإمامة مراقِباً لمسيرة الدين في المجتمع، ومقوِّماً لبقائه، ومثبّتاً ما هو عرضة للحذف والنقص، وحاذفاً ما هو دخيل عليه، وهذا النهج – رغم وقوع غيبة الإمام الحجة عليه السلام – بقيَ محفوظاً، وفي سياسة الأئمة (عليهم السلام) ملحوظاً، حيثُ فوَّضَ أئمة أهل البيت إلى العلماء المتصفين بصفة العدالة والورع والعلم مهمة الحفاظ على الدين من التزييف والتحريف، وذلك بالتمسُّك بنهج آل محمد (عليهم السلام)، وقد كان هذا الأمر متبعاً منذ زمن الأئمة حتى زماننا الحاضر، وذلك حينما أوكلوا إلى أصحابهم مهمة تبليغ الدين وردّ الشبهات والدفاع عن الإسلام تحت راية الولاية الحقّة.

البعد الثاني: وهو البُعد السياسي الاجتماعي المعتني بحفظ النظام.
أما الجانب الآخر للإمامة، فهو يتمثل في كونها – وفقاً للمنظور العقلائي – أمراً هاماً لحفظ نَظم أمور المجتمع الإسلامي، حيثُ إنّ قوانين الاجتماع البشري تبيّن عدم إمكانية عيش المجتمع بدون حكومة عادلةٍ تُنظِّمُ أمور عامة الناس وفقاً لمبادئ القسط والإحسان، ومن هنا يتبين لنا أنّ نفس وجود الإمام الذي لا يطغى على النّاس ولا يحيف عليهم في الحقوق أمراً لازماً لتحقيق الهدف الأسمى من الخِلقة البشرية وهي عبادة الله في دولة الحقِّ الإلهيِّ.
وهذا المنطقُ ليس أمراً مختصاً بمذهب أهل البيت، وإنما هو نهجٌ عقلائيٌّ في التفكير الاجتماعي الذي يبحث عن نظم أمر المجتمع وتحقيق العدالة والإنصاف، وفي هذا المقام نجدُ أنَّ المسلمين كانوا يُقرُّونَ بهذا المعنى، ويعتقدون بضرورة تعيين الخليفة، ولهذا حينما تعرَّض الخليفة الثاني للطعن وشارف على الموت، جاءه ابنه عبد الله وقال له: «إني سمعت الناس يقولون مقالة، فآليت أن أقولها لك: زعموا أنك غير مستخلف، وإنه لو كان لك راعي إبل، أو راعي غنم، ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيَّعَ، فرعاية الناس أشد»(٥)، فهذه شهادةٌ من المجتمع الإسلامي بضرورة وجود الخليفة، فمع هذا كله، كيف يُمكن أن يُقال: إنَّ النبي لم يستخلف أحداً؟! أو أنه لم يشعر بضرورة الاستخلاف!
وقد ذكر أميرُ المؤمنين (عليه السلام) هذه الفائدة العظمى من انتظام أمور المسلمين إذا قاموا تحت راية الإمامة، فقال في بعض خطبه: (فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك..– إلى قوله- والإمامةَ نظاماً للأمّة)(٦)، ويشهدُ لذلك: أنّ علماء أهل السنة قد صرّحوا بأنَّ الصحابة قد تأخروا عن دفن النبي لقيامهم بالشورى في سقيفة بني ساعدة؛ لأن اختيار الإمام أمرٌ لا يستحق التأخير ولو لمدّة يسيرة، حفاظاً على نظام المجتمع وبقاء أموره.. وبهذا المنطق: هل يُعقل أن يشعر الصحابة بأنّ نصب الإمام أمرٌ في غاية الأهمية، ولا يستحق التأخير في حين يغفل عن ذلك نبي الإسلام المسدد بالوحي، ويترك ذلك بلا تعيين، فيكون بنظره أمراً لا يستحق التأخير فحسب، بل هو أمر يستحق الإهمال والتعطيل، مع أنّ سيرته تشهدُ بأنّه كان يعين ولاة على المدينة المنورة خلال غيابه عنها لأيّامٍ أو أسابيع، فكيف به وهو يغيب عنها طويلاً؟
وحتى مع طروء أمر الغيبة على شيعة أهل البيت لم يُهمل الأئمة (عليهم السلام) هذه الجنبة العقلائية، فجعلوا إدارة أمور الناس بيد الفقهاء المأمونين على الدين والدنيا، كما فعلوا ذلك في أيّام حياتهم للشيعة في أقاصي البلاد، ومن هنا نعلم أنّ التمسُّكَ بنهج الفقاهة المتصفة بالعدالة هو أمرٌ من صميم فلسفة النظام الديني والسياسيّ في الإسلام؛ حفاظاً على أصول الدين ونظام أمور المسلمين.
إذن: الإمامةُ نظام أمور الدين والدنيا، وبدونها لا يمكن أن يُضبطَ أمر الدين، أو أن تنتظم أمور المسلمين، ولهذا كانت باب نجاة الأمة، وخيرها الذي وصفه سلمان المحمديّ (عليه السلام) بقوله: «واللّه لو ولّوها عليّاً لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم وما اختلف عليها سيفان حتّى تقوم الساعة، فأبشروا بالبلاء و آيسوا من الرجاء..»(٧)، وهذا نظيرُ الوعد الإلهي لأهل الأديان السابقة حيث وُعِدا بالخير إن استقاموا على النهج الإلهيّ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)(٨).
نسألُ الله تبارك وتعالى بحق هذا اليوم المبارك أن يعجِّل لوليّه الفرج والعافية والنصر، ليُظهر على يديه خير الولاية الإلهيّة، فهو محيي معالم الدين وقاصم شوكة المعتدين، .. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

* محاضرة غديريّة أُلقيت في مدينة أشكنان - محافظة فارس (جنوب إيران)، يوم الثلاثاء ٢٨ أغسطس ٢٠١٨م.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) المحاسن، ج١، ص٣٦٨، رقم الحديث ٨٠١، كتاب مصابيح الظلم، باب لا تخلو الأرض من عالمٍ.
(٢) علل الشرائع، ج١، ص٢٦٩، الباب ١٥٣: العلّة التي من أجلها لا تخلو الأرض من حجّة..، ح٣٢.
(٣) المحاسن، ج١، ص٣٦٨، رقم الحديث ٨٠١، كتاب مصابيح الظلم، باب لا تخلو الأرض من عالمٍ.
(٤) كمال الدين وتمام النعمة، ج١، ص٣١٣، الباب ٢٤: ما روي عن النبي في النص على القائم، ح٣٢.
(٥) صحيح مسلم، ج٥، ص١٤١، رقم الحديث ٤٧٤١، (ط: دار التأصيل).
(٦) نهج البلاغة، ص٧٥٦، المنتزع من حِكَم أمير المؤمنين (عليه السلام) ومواعظه، ح٢٤٣ (ط. تحقيق: قيس العطار).
(٧) غرر الأخبار ودرر الآثار في مناقب أبي الأئمّة الأطهار، ص٢٧٩، الفصل٢٢ (ط. مكتبة العلامة المجلسي - قم).
(٨) سورة المائدة، الآية ٦٦.