قائمة المقالات

الخميس، 28 ديسمبر 2017

بيان حال حديث الحقيقة المنسوب لأمير المؤمنين (عليه السلام)

بسم الله الرحمن الرحيم
بيان حال حديث الحقيقة المنسوب لأمير المؤمنين (عليه السلام)

يُعدّ «حديث الحقيقة» من الأحاديث اللافتة للنظر والتي استرعت اهتمام بعض العلماء المتأخرين ولا سيّما ذوي المشرب العرفانيّ، حتى صُنِّفت فيه شروحٌ متعددة، وقد ذكره بعض أهل العلم في كتبهم، ولفظه أنّ كميل بن زياد سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الحقيقة، فقال: ما لك والحقيقة؟ فقال: أو لست صاحب سرك؟ فقال (عليه السلام): بلى، ولكن يترشح عليك ما يطفح مني. فقال كميل: أو مثلك يخيب سائلاً؟ فقال : الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة. فقال: زدني بياناً. فقال (عليه السلام): محو الموهوم مع صحو المعلوم. فقال: زدني بياناً. فقال (عليه السلام): هتك الستر لغلبة السر. فقال: زدني بياناً. فقال (عليه السلام): جذب الأحدية بصفة التوحيد. قال: زدني بياناً. قال (عليه السلام): نور يشرق من صبح الأزل فيلوح على هياكل التوحيد آثاره. قال: زدني بياناً. قال: أطفئ السراج فقد طلع الصباح.
وبحسب التتبع في كتب الحديث الشريف، فإنني لم أعثر على هذا الحديث في كتب المحدثين المتقدمين وإنما رواه جملةٌ من أعلام المتأخرين، والذي ظهرَ لي أنَّ أولَ من رواه من المتأخرين هو السيِّدُ حيدر الآملي في (جامع الأسرار ومنبع الأنوار)(1)، ثم الشيخ محمد تقي المجلسي في (روضة المتقين)(2)، والسيد نعمة الله الجزائري في (نور البراهين)(3)، وتبعهم على نقله جملة من متأخري المتأخرين ولهم عليه شروحٌ متعددة قد ذكر جملةً منها الشيخ آقا بزرگ الطهراني في كتابه «الذريعة»(4).
نعم؛ نُسِبَ إلى العلَّامةِ الحليِّ (رحمه الله) أنَّ له شرحاً على حديث الحقيقة(5)، فإنْ صحَّت النسبة فيكون أقدمُ مصدرٍ لهذا الحديث هو كتاب العلّامة، إلَّا أنَّ هذه النسبة مشكوكةٌ، وقد قطع بكذبها الشيخ آقا بزرگ الطهراني، فقال(6): (والظاهر بل المقطوع به كذب النسبة كما يتضح ذلك لكل من له معرفة بكلماتِ العلَّامة وطريقته، لا سيما وأنَّ فهرس مؤلفاته موجود ومضبوط، وليس فيه أثر لهذا الكتاب).
ويبدو أنَّ السيد حيدر الآملي لمّا ابتلي بمباشرة كتب المتصوِّفة والأنس بعباراتهم، قد أخذَ هذا الحديثَ عنهم، وهو مرويٌّ في بعض كتبهم، وبعضهم له شرحٌ عليه كعبد الرزاق الكاشـاني، ومنه انتقـل إلى بعض المتأخرين المستأنسين بالمذاق الصوفيّ كالسيد حيدر الآملي والمجلسي الأوّل الذي أدرج هذا الحديث في شرحه على الفقيه إدراج المسلَّمات، وفخَّمَ شأنه بما لا مزيد عليه!
هذا كله فيما يخصُّ روايته، أما ما يخصُّ الكلام في إسناده، فلم أره مُسنَداً عند أحدٍ ممن رواه، فهو مُرسلٌ والمرسل من أقسام الضعيف، والذي يزيده ضعفاً، أنّه لم يُروَ عند المتقدمين، ولا يخفى أنَّ أحاديث المتأخرين المرسلة التي عُدِمَتْ شواهدها لدى المتقدمين أشدّ ضعفاً ووهناً، فلا يصحُّ هذا الحديث بوجهٍ، إذ إنّه مما انفرد بنقله المتأخرون دون المتقدمين، ولا نجد شواهدَ تقوّي الركون إليه.
وأما من جهة المتن، فلا يخفى أنَّ الحديثَ تلوح عليه علامـاتُ الوضـع؛ إذ إنَّ مذاق الصوفيَّةِ ظاهرٌ فيه بوضوح، ونمط التعبير فيه أقربُ إلى لسان الصوفيَّة منه إلى لحن أئمة الهدى (عليهم السلام)، فإنَّ المفردات المذكورة من قبيل «الجذب، المحو، الصحو، صبح الأزل» هي مصطلحات صوفيّة كما هو واضح عند الخبير بلحن كلامهم (7)، فضلاً عن الإبهام الشديد الذي لا يكاد يتيسَّرُ فهمه للعُرفِ العام، وهذا ما صرَّح به المجلسي الأوّل بعد نقله إياه، فقال (8): (فإنه مع نهاية المبالغة في التوضيح ما فهمه مثل كميل الذي هو من أصحاب أسراره فكيف بغيره؟! ومعرفة حقائق هذه الأخبار وأمثالها لا يتيسر للعقول الضعيفة).
نعم؛ لا ننكر أنَّ لأهل البيت (عليهم السلام) لحناً خاصَّاً ومعارف إلهية عالية، دقيقة المطالب، رفيعة الشأن، عظيمة المقام، ولا ينالها الجميع، ولكنَّ لغتها ليست بهذا القدر من الإبهام الذي يصل إلى حدِّ الخفاء الشديد الناقضِ للغرضِ من التفهيم والتعليم، ومثل هذا البيان وإنْ تكلَّف أصحاب المذاق العرفانيِّ في تفسيره وتوجيه ألفاظه، إلَّا أنَّ المناط في استقامة ألفاظ الخطاب هو عرف زمن صدوره، ومثل هذه الخطابات خفيَّة على لسان العرف العربي في زمن صدور النَّصِ، بل هي خفيّة على العارفين باللحن الخاصّ بمعارف أهل البيت (عليهم السلام)، فضلاً عن أنّ مفرداتها غيرُ مأنوسةٍ في أذهان المخاطَبين وغير معروفة ولا معتادةٍ في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ونريدُ بهذا نقض ما يتوهمه البعض من أنَّ هذه لغة خطاب خاصّة كان يتكلم بها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مع خواصّ أصحابه، إلا أنّ روايات خطاباته إلى خواصّ أصحابه لا تجري مجرى هذا اللحن الغريب.
والحاصل: إنّ هذا اللحن غريبٌ عن خطابات أمير المؤمنين (عليه السلام) العامّة والخاصّة، وهذا «نهج البلاغة» على ما فيه من خُطَبٍ ومواعظ في غاية المتانة والجمال، وعلى ما فيه من مطالبَ دقيقة، وحقائقَ عميقة، وأسرارٍ جليلة إلَّا أنّ لسانها منسجمٌ تمام الانسجام مع عُرف زمن الصدور ومفرداتها مأنوسة في كلمات الأئمة الطيبين الطاهرين (عليهم السلام).
ويتلخّصُ مما تقدم أنَّ الحديثَ ضعيفٌ بكونه مرسلاً عند المتأخرين، ومعدوم الشواهد عند المتقدمين، وشاذُّ الألفاظ عن عرف زمن صدور النصّ، وغريبة ألفاظه عن لحن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وتقاربه إلى لسان الصوفيّة واصطلاحاتهم.
والطريفُ في الأمر أنّ  بعض كتب المتقدمين المعتبرة قد احتوت  على روايةٍ تشيرُ إلى خلوة كميل بن زياد (رضي الله عنه) بأمير المؤمنين (عليه السلام) وقد وعظه موعظة احتوت على العلم الغزير والحقائق الإلهيّة العظيمة، ومع ذلك هي خاليةٌ من التعقيد اللفظي الذي يوصِلُ النصَّ إلى حدِّ الإبهامِ، وأنقلُ لفظَ الرواية عن «نهج البلاغة»(9): (قال كميل بن زياد: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلامُ، فأخرجني إلى الجبّان، فلمّا أصحر تنفّس الصّعَدَاء، ثمّ قال: يا كميل بن زياد، إنَّ هذه القلوب أوعيـة، فخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أقـول لك:
النَّاسُ ثلاثة: فعالمٌ ربانيّ، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعقٍ، يميلون مع كُلِّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى رُكنٍ وثيقٍ.
يا كُميل بن زياد، العلم خيرٌ من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق، وصنيع المال يزول بزواله.
يا كميل بن زياد، معرفة العلم دينٌ يدان به، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، والعلمُ حاكمٌ والمال محكوم عليه.
يا كميل بن زياد، هلك خُزَّانُ الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة.
ها، إنَّ ها هنا لعلماً جماً (وأشارَ - عليه السلام - إِلى صدره) لو أصبتُ له حَمَلةً! بلى أصيبُ لَقِناً غير مأمونٍ عليه، مُستعمِلاً آلة الدين للدنيا، ومُستظهِراً بنعم الله على عباده، وبحججه على أوليائه، أو منقاداً لجُملةِ الحقِّ، لا بصيرة له في أحنائه، ينقدحُ الشكُّ في قلبه لأول عارضٍ من شُبهة، ألا لا ذا ولا ذاك! أو منهوماً باللذَّةِ، سَلِسَ القِيَادِ للشهوة، أو مُغرَماً بالجمع والادِّخارِ، ليسا من رُعاة الدين في شيءٍ، أقربُ شيء شبهاً بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه. اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائمٍ لله بحُجَّةٍ، إما ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيّناته.
وكم ذا؟ وأين أولئك؟ أولئك – والله – الأقلون عدداً، والأعظمون قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيناته، حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آهٍ آهٍ شوقاً إلى رؤيتهم... انصرف إذا شئتَ).
والملاحظ في هذه الرواية أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أخذ بيد كميل بن زياد (رضي الله عنه) وذهبا معاً إلى الجبَّانِ، ما يعني أنَّ اللقاء كان لقاء الإمام بأحد خواصّه، ومع ذلك قد علَّمه من المعارف الإلهيّة والحكم النورانيّة وفق لغةٍ عُرفيّة، دون أن يحشوها بالألفاظ الغامضة والغريبة، وهذه الرواية أقربُ إلى لحن الأئمة (عليهم السلام)، بينما حديث الحقيقة لا حقيقة عن المعصوم فيه، بل هو حديثٌ غامض الألفاظ، لا يكاد يتبادرُ منه شيء مفهوم عُرفاً، إلّا لمن ألِفَ اصطلاحات الصوفية وأساليبهم في البيان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جامع الأسرار ومنبع الأنوار، ص28-29، تقديم: هنري كُربين – عثمان إسماعيل يحيى، الناشر: مؤسسة التاريخ العربي – بيروت، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1426هـ/2005م.
(2) روضة المتقين، ج3، ص121، كتاب الصلاة، باب: معرفة ركود الشمس، تحقيق: قسم التحقيق في مؤسسة دار الكتاب الإسلاميّ، الناشر: مؤسسة دار الكتاب - قم المقدسة، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1429هـ/2008م.
(3) نور البراهين، ج1، ص221-222، تحقيق: مهدي الرجائيّ، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1430 هـ.
(4) الذريعة، ج2، ص282، رقم 1145/ ج3، ص29، رقم 50/ج11، ص223/ج12، ص129، الناشر: دار الأضواء – بيروت، الطبعة: الثانية، سنة النشر: 1403 هـ/1983م.
(5) الذريعة، ج13، ص196.
(6) المصدر السابق.
(7) ونريد بالمصطلحات الصوفية المصطلحات التي اختصوا باختراعها ودرجوا على استعمالها، لا الاصطلاحات التي لها أصلٌ قرآني أو روائي ثابت، بل نريد النوع الأوّل من قبيل (قوس الصعود، قوس النزول، السكر، المحو، الصحو،...إلخ)، راجع: اصطلاحات الصوفيّة للشيخ عبد الرزاق الكاشاني، موسوعة مصطلحات التصوف الإسلامي للدكتور رفيق العجم.
(8) روضة المتقين، ج3، ص121، كتاب الصلاة، باب: معرفة ركود الشمس.
(9) نهج البلاغة، ص737-739، تحقيق: قيس العطّار، الناشر: شعبة إحياء التراث والتحقيق – العتبة العلويّة المقدّسة/ النجف الأشرف، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1437 هـ.