بسم الله الرّحمن الرّحيم
دفع شبهات المشككين عن زيارة الأربعين
الحمد لله ربّ العالمين، الحمد لله الذي وفقنا لمعرفة أوليائه والتّمسّك بحصن ولايتهم التي جعلها تمام التّوحيد وأساس الدّين، وصلى الله على المبعوث رحمةً للعالمين، سيّد الأنبياء والمرسلين وأشرف الخلق أجمعين سيّدنا محمّد بن عبد الله وعلى أهل بيته الطيّبين الطّاهرين واللّعن الدّائم على أعدائهم وجاحدي فضائلهم إلى يوم الدّين.
إنّ زيارة سيّد الشّهداء (عليه السلام) من النّعم الإلهيّة العظيمة، وقد ثبت في الروايات الشريفة ما يكشف عن علوّ مقامها وجليل قدرها، وقد وفّق الله المؤمنين للاهتمام بزيارة الأربعين حتّى صارت علماً من أعلام مذهب الحقّ، ومشهداً من أكبر مشاهد الولاية، ومحفلاً من أعظم محافل الحبّ، يعلن فيه جميع المؤمنين ولايتهم وحبّهم لأهل بيت نبيّهم (عليهم السّلام)، ولكنّ هذه الزيارة لم تسلم من محاولاتٍ يائسةٍ لإبعاد النّاس عن الاجتماع لها، فأخذ البعض بتثبيط همم المؤمنين عن زيارة الأربعين بحججٍ واهيةٍ واعتذاراتٍ ضعيفةٍ ومبرّراتٍ هزيلةٍ لا تنمّ إلا عن سوء اختيار الأولويّات، ففي الوقت الذي يتعرّض فيه الإسلام والقرآن لأقوى الدّعايات المغرضة والشّبهات المتكاثرة ينصرف البعض عن أداء هذه الوظيفة الشريفة وينشغل بإثارة الشبهات حول المشي في زيارة سيد الشهداء عليه السلام، فكتب أحدهم مقالةً بعنوان: (المشي إلى زيارة الأربعين سنّةٌ أم كرنفال؟)، وفيما يلي بيانٌ يسيرٌ لنقض هذه الشبهات، والله المستعان.
مقدّمة:
إن الباحث المنصف إذا أراد البحث حول مسألة تتعلق بالدين وأحكامه فلا بدّ له أن يعتمد على المناهج العلميّة، وأن لا يتجاهل الأدلّة الشرعيّة ليعطي الناس من أفكاره وأوهامه، ويوهمهم أنّها تمثّل «الحكم الشرعيّ»، وقد لوحظ أنّ بعض الأقلام التي تحاول أن تبعد الناس عن المفاهيم الولائيّة في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) تعتمد على تغييب الأدلّة الشرعيّة وإبراز الأفكار الشخصيّة القائمة على الاستحسان والذّوق، وسيرى القارئ الكريم بعض الاستدلالات الذوقيّة في ظلّ وجود الأدلة الشرعيّة المعاكسة لتلك الأفكار.
ولا بدّ لمن يزعم أنّه يريد تقديم رؤية علميّة وفق منهج أهل البيت (عليهم السلام) أن يكون عارفاً بأحاديثهم، ملمّاً بأدوات الفقاهة التي يعتمدها الفقهاء، وإلّا فستكون النتيجة أن تقدّم الأفكار الشخصيّة والذوقيّة على أنّها من الفقه الشيعيّ، والحال أنّها ليست إلا كتابات تعبّر عن الأهواء والأذواق.
ولذلك يجب أن يلتزم الباحث في مسائل الشريعة الإسلاميّة بالموضوعية والنّزاهة في استقراء الأدلّة ومحاكمتها، وأن لا يتحرّج من قول الحقيقة ولو أبعدت النّار عن قرصه، فإنّ الحقّ أحقّ أن يقال.
1. حول حكم زيارة الأربعين.
إنّ ما جاء به ذلك الكاتب لمناقشة أدلة زيارة الأربعين لا معنى له؛ فإنّ الناس يأخذون الحكم الشرعيّ من الفقهاء، وأيّ استدلالٍ في المقام لا يترتّب عليه أثرٌ شرعيٌّ، فإنّ فتوى الفقيه الجامع للشرائط هي الحجّة على المكلّف، فأيّ داعٍ لمخاطبة النّاس بهذه الاستدلالات؟ على أنّ عدم ثبوت حكم الاستحباب لا يمنع من أداء العمل برجاء المطلوبيّة، وأن يقصد الزائر بزيارته رجاء حصول الثواب المشار إليها في الرّوايات، وهذا لا يمنع منه الفقهاء بل يقولون به.
2. فضل المشي في زيارة الحسين (عليه السلام).
ثمّ أراد الكاتب أن ينفي فضيلة المشي إلى سيّد الشّهداء (عليه السّلام)، فقال: (أخي المؤمن، أختي المؤمنة، هل تعلمان أنّه لم يثبت أفضليّة المشي لزيارة الحسين(ع) على الركوب؟ فقد جاء في الحديث: «إن الرجل منكم ليأخذ في جهازه ويتهيأ لزيارته فيتباشر به أهل السماء، فإذا خرج من باب منزله، راكباً أو ماشياً، وكّل الله به أربعة آلاف ملك من الملائكة يصلّون عليه حتّى يوافي قبر الحسين(ع)…، الحديث». وفي حديثٍ آخر: «من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن عليّ إن كان ماشياً كتب له بكل خطوة حسنة ومحي عنه سيّئةٌ، فإن كان راكباً كتب الله له بكلّ حافرٍ حسنة، وحطّ بها عنه سيّئة…، الحديث» وفي حديثٍ آخر: «يا بن مارد، من زار جدّي عارفاً بحقّه كتب الله له بكلّ خطوةٍ حجّة مقبولة، وعمرة مبرورة. والله يا بن مارد، ما يطعم الله النار قدماً اغبرّت في زيارة أمير المؤمنين(ع) ماشياً كان أو راكباً. يا بن مارد، اكتب هذا الحديث بماء الذهب» ومن الواضح أنّه (ع) جعل ثواب المشي والركوب واحداً، وهذا ما يفقد المشي أفضليّته).
ويلاحظ على ما ذكره الكاتب:
أوّلاً: إنّ الكاتب لم يتطرّق للحديث عن أسانيد الأحاديث التي استدلّ بها ولم يبيّن للقرّاء ضعفها كما فعل في مناقشة روايات زيارة الأربعين حيث ناقش الأسانيد وضعّفها، فما الوجه في الكيل بمكيالين؟!
أمّا الحديث الأوّل فقد رواه ابن قولويه في «كامل الزّيارات»(1) وفيه الحسن بن عليّ بن أبي حمزة البطائنيّ، وهو ضعيفٌ متّهمٌ بالكذب، وفيه الحسن بن محمّد بن عبد الكريم، لم أقف على توثيقٍ معتبرٍ لـه، والحديث الثّاني رواه الشّيخ الصّدوق في «ثواب الأعمال»(2) وفيه عبد الجبّار النّهاونديّ لم أقف على توثيقٍ معتبرٍ لـه، وفيه الحسـن بن عليٍّ بن أبي عثمان الملقّب بــ(سجّادة) ضعّفه ابن الغضائريّ(3)، ونقل النّجاشيّ تضعيف الأصحاب لـه(4)، والحديث الثّالث رواه الشّيخ الطّوسيّ في كتابه «تهذيب الأحكام»(5) وفيه أحمد بن محمّد بن المجاور والحسين بن محمّد بن مالكٍ لم أقف على توثيقٍ معتبرٍ لـهما فضلاً عن الرّفع في الحديث، فأسانيد الأحاديث الثّلاثة التي احتجّ بها ضعيفةٌ، ولكنّه كال بمكيالين إذ لجأ إلى تقييم أسانيد الحديثين المرويّين عن الصّادق والعسكريّ (عليهما السّلام) في زيارة الأربعين بينما غضّ الطّرف عن ضعف الأحاديث التي احتجّ بها؛ لأنّ بيان ضعف أسانيدها يحجبه عن مقصده، ومن هنا يتبيّن للقارئ المنهج السّقيم الذي يوظّف الأدوات العلميّـة بشكلٍ انتقائيٍّ تبعاً لـ«النّتائج المسبقة» والتي يراد تصديرها للقارئ على أنّها حقيقةٌ علميّةٌ (!).
ثانياً: لا دلالة للأحاديث المذكورة في نفي أفضليّة المشي، وبيان ذلك:
في الحديث الأوّل، قال: (إنّ الرّجل منكم ليأخذ في جهازه ويتهيّأ لزيارته فيتباشر به أهل السّماء، فإذا خرج من باب منزله راكباً أو ماشياً وكّل الله به أربعة آلافٍ من الملائكة يصلّون عليه حتّى يوافي قبر الحسين عليه السّلام).
وهذه الرّواية لا تشير إلى مطلق الثّواب والمفاضلة، ولا تنفي امتياز الماشي، بل تكشف عن اشتراك الماشي والرّاكب في حظوتهما بدعاء الملائكة ولا تفيد تساويهما في كلّ الثّواب، إذ إنّ الرّواية ليست في مقام الحصر، وإثبات الشّيء لا ينفي ما عداه.
وفي الحديث الثّاني، قال: (من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن عليٍّ عليهما السّلام إن كان ماشياً كتب له بكلّ خطوةٍ حسنةٌ ومحي عنه سيّئةٌ، فإن كان راكباً كتب الله له بكلّ حافرٍ حسنةٌ وحطّ بها عنه سيّئـةٍ).
وتبدو المنافاة مع ما جاء في بعض الأحاديث - الضّعيفة سنداً - والتي تذكر ثواباً خاصّاً للمشي - وسيأتي ذكرها -، ويحتمل في الجمع بينهما احتمالان:
الاحتمال الأوّل: أنّ الإثابة بالحسنة للخطوة والحافر بالنّسبة للماشي والرّاكب ناظرةٌ إلى الثّواب العدلـيّ وهو الثّواب الذي يستحقّه المكلّف عند الأداء، أمّا ما زاد عن ذلك الثّواب ممّا ذكر في الرّوايات الأخرى فهو ناظرٌ إلى الثّواب التّفـضّليّ وهو ما يكرم به الله تعالى المكلّف زيادةً على ثواب العمل في مقام المضاعفة، وقد قال تعالى: (للّذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ) وهذا جارٍ في ثواب كافّة الأعمال التي يضاعف الله فيها الثّواب، فمثلاً قد يكون الثّواب العدلـيّ للصّدقة حسنةً، ولكنّ الله يضاعف ثوابها إلى سبعمائة، قال تعالى: (مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّةٍ أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلةٍ مائة حبّةٍ والله يضاعف لمن يشاء)، وهنا: قد يكون ثواب الخطوة الواحدة حسنةً ولكنّ الله يضاعفه للزوّار باختلاف الأحوال من جهة الإخلاص والمشقّة والرّغبـة والمعرفة، تفضّلاً منه ورحمةً، والمشي فيه زيادة عناءٍ أكثر من الرّكوب، ولذلك خصّ في بعض الرّوايات بثوابٍ أعظم.
الاحتمال الثّاني: أنّ الأئمّة (عليهم السّلام) كانوا يراعون حال المتلقّي ولذلك كانوا يذكرون للأصحاب من فضل زيارة الحسين (عليه السّلام) بقدر قابليّتهم، قال العلّامة المجلسيّ (6): (لعلّ اختلافات هذه الأخبار في قدر الفضل والثّواب محمولةٌ على اختلاف الأشخاص والأعمال وقلّة الخوف والمسافة وكثرتهما، فإنّ كلّ عملٍ من أعمال الخير يختلف ثوابها باختلاف مراتب الإخلاص والمعرفة والتّقوى وسائر الشّرائط التي توجب كمال العمل، على أنّه يظهر من كثيرٍ من الأخبار أنّهم كانوا يراعون أحوال السّائل في ضعف إيمانه وقوّته لئلّا يصير سبباً لإنكاره وكفره، وأنّهم كانوا يكلّمون النّاس على قدر عقولهم)، وهذا الوجه قويٌّ، ولا يخلو من شواهد متينةٍ.
وفي الحديث الثّالث، قال: (من زار جدّي عارفاً بحقّه كتب الله له بكلّ خطوةٍ حجّةً مقبولةً وعمرةً مبرورةً. والله يا ابن ماردٍ ما يطعم الله النّار قدماً اغبرّت في زيارة أمير المؤمنين ماشياً كان أو راكباً).
وهذه الرّواية أجنبيّةٌ عن المقام، إذ إنّ موضوعها ثواب المشي إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) والكلام هنا في المشي إلى سيّد الشّهداء (عليه السّلام)، ومع ذلك فإنّها لا تنفي أفضليّة المشي بل تبيّن اشتراك الماشي والرّاكب في وقاية الله لـهما من النّـار ولا تفيد أنّهما متساويان في كافّة مراتب الثّواب.
وللمؤمن أن يمشي إلى قبر الحسين (عليه السّلام) برجاء المطلوبيّة للثّواب الوارد في الرّوايات التي ذكرت ثواب الخطوة والقدم، ومنها:
[1] روى ابن قولويه بسنده عن الإمام الصّادق (عليه السّلام) (7): (إنّ الرّجل ليخرج إلى قبر الحسين عليه السّلام فله إذا خرج من أهله بأوّل خطوةٍ مغفرة ذنوبه، ثمّ لم يزل يقدّس بكلّ خطوةٍ ..إلخ).
[2] روى ابن قولويه بسنده عن الإمام الصّادق (عليه السّلام) (8): (من أتى قبر الحسين عليه السّلام ماشياً كتب الله له بكلّ خطوةٍ وبكلّ قدمٍ يرفعها ويضعها عتق رقبةٍ من ولد إسماعيل).
[3] روى ابن قولويه بسنده عن الإمام الصّادق (عليه السّلام) (9): (من زار الحسين عليه السّلام محتسباً لا أشراً ولا بطراً ولا سمعةً محّصت عنه ذنوبه كما يمصمص الثّوب بالماء فلا يبقى عليه دنسٌ، ويكتب له بكلّ خطوةٍ حجّةٌ، وكلّما رفع قدماً عمرةٌ).
[4] روى الشّيخ في التّهذيب (10): (من أراد زيارة قبر الحسين لا أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً محّصت ذنوبه كما يمحّص الثّوب في الماء فلا يبقى عليه دنسٌ، ويكتب الله له بكلّ خطوةٍ حجّةً، وكلّ ما رفع قدمه عمرةً).
[5] روى المحدّث محمّد بن عليّ بن الحسن العلويّ الشّجريّ بسنده عن يحيى بن مساورٍ، قال (11): (كنت عند جعفر بن محمّدٍ حتّى جاءت امرأةٌ من العرب، فقال لها: أين كنت منذ أمس؟ قالت: كنت عند قبور الشّهداء. قال: تركت سيّد الشّهداء عندك بالعراق؟ قالت: من هو؟ قال: حسينٌ وأصحابه. قالت: أزوره؟ قال: زوريه فإنّه أعظم أجراً من حجّةٍ وعمرةٍ وحجّةٍ وعمرةٍ حتّى عدّ عشراً. قالت: ما لمن خطا إليه ماشياً؟ قال: بكلّ خطوةٍ حجّةٌ وعمرةٌ)، وهذا المحدّث من محدّثي الزّيديّة كما يبدو.
بل قد ورد الثّواب العظيم للمسافة القريبة فكيف بما هو أبعد وأكثر مشقّةً؟ روى ابن قولويه بسنده عن الإمام الصّادق (عليه السّلام) (12): (يا بشير، إنّ الرّجل منكم ليغتسل على شاطئ الفرات ثمّ يأتي قبر الحسين عليه السّلام عارفاً بحقّه فيعطيه الله بكلّ قدمٍ يرفعها أو يضعها مائة حجّةٍ مقبولةٍ ومائة عمرةٍ مقبولةٍ ..إلخ).
ومن الأخبار ما يظهر منه الإطلاق في مرغوبيّة المشي إلى العبادات فقد روى الشّيخ عن الإمام الصّادق (عليه السّلام)(13): (ما عبد الله بشيءٍ أشدّ من المشي ولا أفضل) وأيضاً (14): (ما عبد الله بشيءٍ أفضل من المشي).
وهذه الأخبار وإن أمكن النّقاش في بعض أسانيدها تبعاً للمباني الرّجاليّة المختلفة، إلّا أنّه وفقاً لأحاديث «من بلغه» الصّحيحة يجوز للمكلّف أن يأتي بالأعمال الواردة بطرقٍ ضعيفةٍ والتي تتضمّن الوعد بالإثابة رجاءً للحصول على الثّواب وإن لم يكن الخبـر مطابقاً للواقع، وليس هذا إلّا من تفضّل الله ورحمته، وكلمات الفقهاء في الرّسائل العمليّـة في باب التّقليد واضحةٌ في جواز الإتيان بما لم يثبت استحبابه بعنوان رجاء المطلوبيّة، فلتراجع.
وبناءً على ما تقدّم: فإنّ مشي الزّائر رغبةً في الثّواب الوارد في الرّوايات الشّريفة لا مانع منـه، بل هو عملٌ حسنٌ.
ثمّ إنّ الكاتب أراد توجيه روايات المشي بأنّها لنفي توهّم النّاس أنّ الزّيارة كالحجّ والجهاد يسقطان عند فقد الرّاحلة، ولإظهار أنّ الزّيارة مطلوبةٌ ولو لم تتوفّر راحلةٌ.
ويجاب عليه: إنّ الظّهور لا يساعد على إفادة هذا المعنى بعد ما عرفت من خصوصيّةٍ زائدةٍ وثوابٍ مخصوصٍ للمشي بنفسه دون الرّكوب، ولو أريد هذا المعنى لكان تخصيص المشي بثوابٍ فضّل فيه على الرّاكب لغواً، ولا قرائن – في المقام – تدعم هذا التكلّف!
ثمّ إنّ الدّعوة للمشي في الحجّ ليست لنفي توهّم سقوطه عند فقدان الرّاحلة، بل لثبوت فضله في نفسه، ففي صحيحة الحلبيّ (15): (سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن فضل المشي، فقال: الحسن بن عليٍّ عليه السّلام قاسم ربّه ثلاث مرّاتٍ حتّى نعلاً ونعلاً، وثوباً وثوباً، وديناراً وديناراً، وحجّ عشرين حجّةً ماشياً على قدميه).
3.هل يزاحم الحرام المشي إلى كربلاء والزّيارة؟
ثمّ شرع الكاتب بتعداد بعض الوجوه التي توهّم أنّها تضرّ بأصل الدّاعي إلى الزّيارة والمشي إلى سيّد الشّهداء (عليه السّلام)، وعبّر عن تلك الوجوه بقولـه: (لو منعت الزيارة أو منع المشي عن واجبٍ كالذي تقدّم؛ أو ورّطت الزيارة، أو ورّط المشي في محرّمٍ، كالذي تقدّم أيضاً، فإنّهما لا يبقيان على الاستحباب، بل ينقلب حكمهما إلى كونهما محرّمين مبغوضين لله تبارك وتعالى)، وسنقف مع هذه الأمور التي ذكرها وزعم أنّها تقلب حكم الزّيارة إلى الحرمة والمبغوضيّة عند الله عزّ وجلّ.
ثم ذكر تحت عنوان [فلو منعت الزيارة، أو منع المشي، عن واجبٍ]، وأورد خمسة أمورٍ:
الأوّل: (كالصلاة من قيامٍ، التي يعجز عنها كثيرون من المشّاية).
والجواب: إنّ كثيراً من الزوّار – وفّقهم الله لمراضيه – يقيمون الصّلاة جماعةً أو فرادى في الطّريق والصّلاة تكون من قيامٍ، فما نسبـه للزوّار ليس صحيحاً، وإنّما مبالغةٌ منه للتّهويل، على أنّ الذي يقدر على السّير لعشرات الفراسخ يمكنـه أن يصلّي من قيامٍ، إذ لا يتصوّر اجتماع العجز عن القيام والقدرة على المشي في آنٍ واحدٍ، ولا يصحّ من الزّائر أن يصلي من جلوسٍ؛ لأنّ صلاة القادر من جلوسٍ باطلـةٌ.
الثّاني: (كالصلاة بطهارةٍ التي تتعذّر على بعض (المشّاية) الحفاة الذين تتجرّح وتتقرّح أقدامهم).
والجواب: إنّ ما ذكر لا يضرّ بصحّة الصّلاة، فإنّ المجروح يمكنـه أن يضمّد جروحه ويعمل بأحكام الجبائـر المذكورة في محلّها، وربّما يكون جرحه ممّا تسري عليه أحكام المعفوّ عنه من النّجاسات، وعلى كلا الوجهين، لا إشكال يلحق بصلاتـه.
الثّالث: (العمل وتحصيل رزق العيال والأطفال لأصحاب الاسترزاق اليومي، فإذا عمل أنفق، وإذا لم يعمل لم يجد ما ينفقه).
والجواب: هذا الكلام لا يصلح دليلاً للإشكال على زيارةٍ تتفاوت أحوال القائمين بها، فترك البعض لعياله بدون النّفقة الواجبـة فعلٌ لا تلحق آثاره الآخرين كما لا يؤثّر على نفس الزّيارة؛ لأنّـه من الأفعال الشّخصيّـة التي لا ترتبط بالمجتمع أو الشّعائر الدّينيّـة، وفي هذا المقام ينبغي توجيه المخطئ لا محاربة الزّيارة والحثّ على تركها، وكلامنا في البحث حول الدّليل الشّرعيّ الذي يمنع القيام بهذه الزّيارة، ولتكرار الكاتب لإشكالاتٍ من هذا القبيل بدا أنّه لا يفرّق بين الدّليل الشّرعيّ الذي يؤثّر في أصل الفعل، وبين الأفعال الخارجيّة التي لا تلحق نفس الفعل وإنّما تلحق بفاعلها مع بقاء الحكم الشّرعيّ في نفسه محفوظاً عن التأثّر، فلو فرضنا أنّ بعض الحجّاج أو المجاهدين يخالفون الشّرع في بعض الموارد لم يكن هذا خادشاً لأصل الحجّ أو الجهاد في سبيل الله.
وبعبارةٍ أخرى: إنّ الأحكام تابعةٌ لموضوعاتها الملحوظة عنواناً للقضيّة، وإذا لم يطرأ تغيّرٌ على نفس الموضوع فالمفترض أنّ الحكم يبقى على حاله، ونظير ذلك: النّظر إلى عورة الأجنبيّة خلال الصّلاة، فإنّ الفقهاء حكموا بصحّة الصّلاة وإن كان المكلّف آثماً بالنّظر، وذلك لأنّ عنوان الصّلاة بقي محفوظاً، وبهذا ينكشف حال كثيرٍ من إشكالات الكاتب «الفقيه»، إذ إنّه أشكل على الزّيارة بما لا يتّصل بحقيقة عنوانها.
الرّابع: (كحفظ حرمة النفس وعدم إذلالها بدينٍ ونحوه، حيث يعود من زيارته ليقترض ما يعتاش به إلى حينٍ).
والجواب: وهذا يجري فيه ما قدّمناه في الجواب السّابق، فإنّ الاقتراض مسألةٌ شخصيّـةٌ، ولا يخفى أنّ ليس كلّ قرضٍ يستوجب إذلال النّفس، وغاية ما يمكن أن يقال في القرض إنّه مكروهٌ، ومن الواضح أنّ المكروه لا ذمّ في فعلـه.
الخامس: (كرعاية العهود الشرعيّة والعرفيّة كالتعهّد بالحضور في المدارس والجامعات والحوزات).
والجواب: إنّ أغلب الحوزات العلميّـة ولا سيّما الكبرى منها (قم، النّجف) تعطّل دروسها خلال أيّام زيارة الأربعين، والتّغيّب عن المدارس والجامعات إذا كان بنحوٍ لا يسبّب ضرراً أو خللاً يصعب تداركه، فلا إشكال فيه ولم نر في الفقهاء من نصّ على الحرمة، والمأمول من الطّلاب أن يلتزموا بنظم الأمر دون إفراطٍ يفوّت الدّروس أو تفريطٍ يحرم من بركة الزّيارة، والمسألة هنا شخصيّـةٌ تتعلّق بنظم الدّروس وطبيعتها وأوقاتها، ولا يمكن من خلال هذا الوجه أن يستـلّ دليلٌ على انقلاب حكم الزّيارة إلى المبغوضيّـة التي زعمها الكاتب، فلو ترك جماعةٌ من الطّلاب دروسهم وذهبوا إلى الحجّ المستحبّ، لم يكن هذا داعياً للنّهي عن الحجّ المستحبّ بل يدعو إلى نصيحة المعنيّين بالتّوفيق بين الوظائف الحياتيّة والعمل على تقوية شعائر الإسلام.
ثمّ ذكر الكاتب خمسة أشياء أخرى تحت عنوان: [ولو ورّطت الزيارة، أو ورّط المشي، في محرّمٍ]، والوجوه كالتّالي:
الأوّل: (كالإسراف والتبذير وما أكثرهما خلال هذا الفولكلور الشعبيّ المعروف بالمشّاية).
والجواب: هذا كلامٌ مجملٌ، إذ لم يوضّح الكاتب مراده من وجوه الإسراف والتّبذير فلعلّه يظنّ إطعام الزّوار - وهو مستحبٌّ - من مصاديقه. وعلى أيّ حالٍ، فإنّ أكثر ما يقدّم للزوّار يستهلك؛ وذلك لكثرة العدد، وحالات الإسراف قليلةٌ مقارنةً بما ينفق في قضاء حاجات الزّوار، ومع هذا فإنّ وجود خللٍ في التّدبير عند بعض أصحاب المواكب ينبغي أن يواجـه بالنّصيحة والتّوجيه والإرشاد، لا بالتّحريض لإنهاء الزّيارة أو تضعيفها!
ولا أدري، هل هذه الوجوه المذكورة معتدٌّ بها شرعاً ليبنى من خلالها حكمٌ شرعيٌّ بمبغوضيّة الزّيارة عند الله تبارك وتعالى؟ وهل كلّ عملٍ يتضمّن صدور بعض الاشتباهات من النّاس يكون سبباً في جعلـه حراماً؟ فلو فرضنا أنّ رجلاً قام ببناء مدرسةٍ، وصدرت أخطاءٌ من بعض المدرّسين والإداريّين أو الطّلاب، فهل يحكم الشّرع بإغلاق المدرسة أم بتدارك الخطأ وإنهائه؟ والأمثلة كثيرةٌ، وينبغي التّأمل في جملةٍ من الأنشطة الاجتماعيّـة، فإنّ بعضها ينطوي على أخطاءٍ، فهل نمنع النّاس من ممارستها أم ندعوهم إلى إصلاح الخطأ؟ إنّ الجري على هذا النّمط من التّفكير والتّشريع - ممّن يزعم التّحقيق والإصلاح - سيغلق كثيراً من أبواب الخير!
ولا أنسى أن أشير إلى إهانة الملايين من المؤمنين الذين يؤدّون هذه الزّيارة بوصفها بـ(الفولكلور الشعبيّ)، وما في هذا التّعبير من سوء الأدب مع الآخرين وعدم احترام مشاعرهم، والطّريف في الأمر أنّ هذا اللّون من الأقلام يستميت لإرضاء رموز المذاهب الأخرى وعدم استفزازهم على ما عندهم من البدع والانحرافات، ومع ذلك يسعى هذا اللون إلى عدم إثارة الفتنة والكراهية بالعبارات غير المرغوبة، وفي نفس الوقت، لا يتوانى عن إبداء البراعة في إساءة الأدب مع الآخرين الذين يحترمون هذه الزّيارة، ولو ناقش هذا الكاتب - في مؤتمرٍ ما - مخالفاً له في مذهبه لنمّق الألفاظ حفاظاً على الوحدة التي لا يراعونها في داخل البيت الواحد.
الثّاني: (كإضرار النّفس أو الغير ـ ولا سيّما الأطفال ـ ضرراً بليغاً أو مطلق الضّرر، كما في حالات الإدماء حين المشي حفاةً، أو تقشّر الوجه بسبب التعرّض الطويل والمباشر لأشعّة الشمس، أو تورّم القدمين جرّاء المشي المتواصل لمسافاتٍ طويلة).
والجواب: الكلام هنا يتّجه إلى عدّة أمورٍ، نفصّل القول فيها:
(1) إنّ الأطفال الصّغار الذين لا يقوون على المشي يقطعون المسافـة مع عائلاتهم راكبين العربات المخصّصة لذلك الأمر، كما أنّ جناب الكاتب المحترم ليس أكثر شفقةً على أولاد الآخرين من آبائهم وأمّهاتهم، وهم يراعون أحوالـهم خلال المشي إلى كربلاء، وإنّ معظم الزّوار من البالغين والشّباب وكبار السّن القادرين على السّير على الأقدام، فلو سلّمنا بصحّة هذا الإشكال، أمكن استثناء حضور الأطفال في الزّيارة، لا أن يدعى لإلغاء الزّيارة!
(2) الغالبيّة القصوى من الزوّار لا يمشون حفاةً، والضرر النّاجم عن المشي حافياً من قبيل التّورم والجرح لا يعدّ – غالباً - من الضّرر البليغ الموجب للتّحريم، إلّا أن يصل لذلك الحدّ الذي يخشى معه إتلاف القدم، أمّا حصول مطلق الضّرر - غير المستثنى - فلا يوجب تحريماً ولا يقول بذلك فقيهٌ، إذ ليس كلّ ضررٍ يوجب التّحريم كما لا يخفى على متفقّهٍ في دينه.
(3) ذكر تقشّر الوجه بسبب التّعرّض لأشعّة الشّمس في سياق عدّ موجباتٍ التّحريم من أغرب ما رئي في شطحات المنتسبين لميدان العلوم الدّينيّـة والمتطفّلين عليه، فيا لله والفقاهة الجديدة! أيعدّ متفقّهٌ تقشّر الوجه النّاتج عن التّعرّض لأشعّة الشّمس من موجبات تحريم الزّيارة؟! فإن كان هذا الأمر حراماً، فإنّ العمل في البناء وتعبيد الطّرق من المحرّمات؛ لأنّ العـمّال يتعرّضون للشّمس حتّى تتغيّـر بشرتهم! كما أنّ بعض السيّاح يقضون ساعاتٍ من النّهار على الشّواطئ، وأصحاب بعض الألعاب الرّياضيّة يبقون لأوقاتٍ طويلةٍ تحت الشّمس، ولم يقل أحدٌ بالحرمة.
ولو سلّمنا أنّ تقشّر الوجه من موجبات الحرمة، فهل يدعو هذا لتحريم الزّيارة؟ وماذا لو قال زائرٌ: أنا أتفصّى عن هذا الإشكال بالتّظليل؟ وقال أصحاب المواكب: نحن نصنع مظلاتٍ للزّوار؟!
ثمّ كيف لمن يدّعي التّحقيق والتّفقّه في الدّين ويتكلّم بلسان فقه آل محمّدٍ (عليهم السّلام) أن يعطي نتيجةً دون مراجعة الأدلّة الشّرعيّة وكلمات الفقهاء في الضّرر الموجب للحرمة، أمّا بالنّسبة لما جاء من أدلّةٍ خاصّةٍ، فقد روى الشّيخ الصّدوق (رحمه الله) بسندٍ صحيحٍ بالاتّفاق عن الإمام الصّادق (عليه السّلام) في دعائـه لزوّار الحسين (عليه السّلام) (16): (فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشّمس)، ولو كان تغيّـر الوجه مذموماً لما ذكره كخصلةٍ من خصال الزّائر، فإنّ المقام مقام مدحةٍ، ولو أراد شخصٌ أن يستعطف سيّداً على عبده فإنّه يذكـر أحسن ما فيه من خصالـه وأحوالـه، والأمثال تضرب ولا تقاس.
كما أنّ هذا الدّعاء الشّريف دالٌ على معرفة الإمام بأنّ الزّوار يتعرّضون للشّمس إلى حدّ تغيّر البشرة، ولم يصدر منه ردعٌ أو زجرٌ، بل دعا لهم مادحاً إيّاهم، فشتّان بين ما يصدر عن مشكاة أهل بيت النّبوّة وما يتفوّه به بعض المشكّكين.
بل ربّما يستفاد من الرّواية الشّريفة أيضاً التّرغيب في التعرّض للشّمس بنحوٍ يغيّر لون الوجه ليكون الزّائر ممّن تشملـه الدّعوة بالرّحمـة، وليكون من أصحاب الوجوه المرحومة إن شاء الله تعالى، وفي هذا العمل يستحضر الزّائر مسير أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام) في قيظ الصّيـف وحرّ الصّحراء ويعيش أجواء سيره إلى كربلاء؛ لإحياء الإسلام وإنقاذه من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
أمّا ما ذكره الفقهاء في أقسام الضّرر المحرّم، فلا يعدّ تقشّر الوجه من مصاديقه، ولم يلحظ في كلماتهم استدلالٌ يقرّب هذا القول الغريب عن لسان الفقاهة والمأنوس في كلمات المشكّكين.
الثّالث: (كالاختلاط المحرم بين النساء والرجال وما يستتبعه من محرمات وموبقات).
والجواب: وينقض عليه بأنّ هذا الإشكال يرد على الحجّ الواجب والمستحبّ أيضاً، فهل يدعو الكاتب لمنعهما؟ ويحلّ بأن يقال: ليس كلّ اختلاطٍ يعدّ محـرّماً، كما أنّه لو لوحظ ما لا ينسجم مع آداب وأحكام الشّريعـة في الحجّ أو الزّيارة فإنّ اللّازم أن يؤمر المخالف بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا لا يضرّ بأصل تلك الشّعائر الدّينيّة، ويضاف إليه ما قدّمناه من أنّ الأحكام تابعةٌ لموضوعاتها، فراجع.
الرّابع: (كتعطيل مصالح الناس أو مصالح المجتمعات العامّة، كما لو كان موظفاً أو رب عملٍ يحتاج إليه النّاس وهو يعطّل أياماً عديدة من أجل المشي للزيارة وتتعطل حياة الناس معه).
والجواب: إنّ هذا الإشكال لا ينصبّ على نفس الزّيارة ولا على كلّ الزّوار، فكيف يكون هذا الأمر داعياً لانقلاب حكم الزّيارة من الاستحباب إلى المبغوضيّـة؟ والحال أنّ هذا من الأمور الشّخصيّـة التي تتعلّق بالأفراد وتختلف من شخصٍ لآخر، ثمّ إنّ كلّ البلدان تمنح الموظّفين في الحكومة والقطاع الخاصّ إجازاتٍ رسميّةٍ بعددٍ محدّدٍ في كلّ سنةٍ، ومن الممكن أن يكون الزّائر قد أخذ إجازته في تلك الأيّام، وبهذا يتفصّى عن إشكاليّة تعطيل مصالح النّاس، ويضاف إليه ما قدّمناه من أنّ الأحكام تابعةٌ لموضوعاتها، فراجع.
الخامس: (كهدر الوقت الكثير والطاقة الكبيرة في ما يمكن تحصيله بوقت وطاقة أقل من ذلك بكثير من خلال المشي لمسافات طويلة من مدنٍ بعيدة حيث يستغرق الأمر أياماً عديدة).
والجواب: إنّ قضاء الوقت في العبادة أمرٌ مرغوبٌ وسعي الإنسان في أمور آخرته فيما يرجى منه الثّواب والمغفرة أمرٌ حسنٌ في نفسه ولا يصدق عليه أنّه هدرٌ للوقت، ومن الواضح أنّ الوصول لكربلاء لا يمكن تحصيله بوقتٍ أقلّ، وبغضّ النّظر عن الدّافع الدّينيّ للمشي، فإنّ الطرق لا تكفي لاستيعاب ازدحام السيّارات النّاقلة للزّوار، ولذلك فإنّ المشي أمرٌ لا بدّ منه في ظلّ تكاثر عدد الزّوار، وعدم أهليّة الطرق والمناطق لنقلهم بالسيّارات.
السّادس: (كتوهين مذهب أهل البيت في ما يتخلل هذه الاحتفاليات من سلوكيات شائنة يحكمها العقل الجمعي وضرورات الاجتماع البشري كرمي النفايات في الطرقات والساحات، وترداد بعض الشعارات المذهبية المفرّقة بين المسلمين ...إلخ).
والجواب: إنّ أيّ فعلٍ يكون خلال الزّيارة إمّا أن يكون ممّا يقبله الشّارع المقدّس وإما أن يكون مما يرفضه، فإن كان مقبولاً جاز فعله، وإن كان مرفوضاً وجب النّهي عنه، وهذا لا يضرّ بأصل العمل الشّرعيّ. وإنّ من الحسن أن يدعى للحفاظ على النّظافة وإن كان الاجتماع البشريّ ينتج مثل هذا الأمر كما هو ملاحظٌ في كافّة الاجتماعات الجماهيريّة في كافّة أنحاء العالم وقد شاهدنا ذلك عياناً، ثمّ إنّ الكاتب يبدو أنّه غفل عن ملاحظة مواسم الحجّ وما ينتج عن اجتماع الحجيج في منى وعرفات، ولو لاحظ ما يحصل هناك فهل سينهى النّاس عن الحجّ؟ وهل سيعتبر هذا الأمر ممّا يقلب حكم الحجّ إلى الحرمة مثلاً؟
أمّا ما يخصّ الأمور الأخرى التي ذكرها فهي محكومةٌ بميزان الشّرع، وإما أن يعمل بها بعد إمضاء الشريعة الإسلاميّة أو الكفّ عنها إذا زجر عنها شرعاً، ولا داعي للتّعرض لجميعها بعد معرفة المعيار فيها، وهذا لا يؤثّر على أصل الزّيارة.
خاتمةٌ:
ذيّل الكاتب مقاله بسؤالٍ حول غياب التّحقيقات العلميّة الجادّة في مثل هذه الأمور والمأمول أن لا يكون متسائلاً عن (تحقيقاتٍ) من سنخ مقاله المليء بالمغالطات والجهالات التي تجعل الفرع أصلاً والأصل عدماً، وتجعل المسائل الشّخصيّة والفرديّة حاكمةً على الأحكام الشّرعيّة وكأنّ مخالفات النّاس توجب تغيير الأحكام مع أنّ المفروض زجر النّاس عن الخطأ ودعوتهم إلى ما ينسجم مع أحكام الشّريعة الإسلاميّة وآدابها.
فلو صدرت من النّاس أخطاءٌ في موسم الحجّ أو الأعياد أو الاجتماعات الدّينيّة وهذه الأخطاء منافيةٌ للأحكام الإلزاميّة أو لآداب الإسلام فتلزم الدّعوة إلى التّصحيح لا لإلغاء الشّعائر الدّينيّة والعبادات الإسلاميّة التي شرّعت للسّير في طريق التّقوى والطّاعة والعمل بما يصلح حال الإنسان في الدّار الآخرة.
وبعد هذا التساؤل، أخذ الكاتب بالحديث عن أسرار «الصّمت» عن إزاء هذه المظاهر، فعبّر بما يلي: (ألا لعن الله السياسة وكثيراً من أهلها، فإنها ما دخلت في شيء إلا أفسدته).
وقال أيضاً: (ما دامت هذه الاحتفاليّات تمهد الطريق لتجمعات شعبوية تعبويّة سريعة وحاشدة، وهو ما قد يحتاجه الساسة في أي لحظةٍ يريدون فيها التحرك للقضاء على الآخر الذي صوّر للناس خصماً فاتخذوه كذلك، وما دامت هذه الاحتفاليات مظهراً ومشهداً – ولو شوارعياً – لفائض القوّة التي يتوهمها ولاة الأمر).
والسّؤال الذي يتوجّه للكاتب المتشرّع: هل يجوز لعن المؤمن ولو كان سياسيّاً فاسقاً؟ إلّا إن كان متوهّماً أنّ الذي يقف خلف الزّيارة ودعمها هم (رجال الماسونيّة)!
ثمّ إنّ الكاتب ممن يدور في فلك المستشكلين على اللّعن - حفاظاً على العلاقة مع الطّرف الآخر -، فما باله عند لعن المؤمنين يطلق لسانه بعباراتٍ لاذعةٍ؟ يبدو أنّه يفهم وحدة المسلمين وحرمة إثارة النّعرات المذهبيّة في جانبٍ دون آخر.
أمّا بقيّة كلامه فأتركه لجناب القارئ المحترم ليطالع الأفق الضيّق الذي ينطلق منه الكاتب، وإلى أين يريد الوصول بمثل هذه الكلمات الفتنويّة القبيحة.
--------------------
(1) كامل الزيارات، ص 399، الباب 79، رقم الحديث 5، الناشر: دار الحجّة – قم المقدسة، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1435.
(2) ثواب الأعمال، ص271، رقم الحديث 327، باب: ثواب من زار قبر الحسين (عليه السلام)، الناشر: دار زين العابدين – قم المقدسة، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 2014م.
(3) رجال ابن الغضائري، ص52، باب الحاء، رقم الترجمة 35، تحقيق: السيد محمد رضا الجلالي، الناشر: دار الحديث – قم المقدسة، الطبعة: الثالثة، سنة النشر: 1435هـ
(4) رجال النجاشي، ص61، رقم الترجمة 41، تحقيق: السيد موسى الشبيري الزنجاني، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، الطبعة: العاشرة، سنة النشر: 1432هـ
(5) تهذيب الأحكام، ج6، ص24-25، رقم الحديث 49، باب: فضل زيارته (عليه السلام)، الحديث السادس، تحقيق: علي أكبر غفاريّ، الناشر: مكتبة الصدوق – طهران، الطبعة: الأولى، سنة النشر: 1418 هـ.
(6) بحار الأنوار، ج98، ص44، الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة.
(7) كامل الزيارات، ص278، الباب 49، رقم الحديث 2.
(8) كامل الزيارات، ص281، الباب 49، رقم الحديث 9.
(9) كامل الزيارات، ص298 -299، الباب 57، رقم الحديث 1.
(10) تهذيب الأحكام، ج6، ص50-51، رقم الحديث 93، باب: فضل زيارة الحسين عليه السلام، الحديث 8.
(11) فضل زيارة الحسين، ص63، الناشر: مكتبة آية الله المرعشي النجفي العامّة – قم المقدسة.
(12) كامل الزيارات، ص365، الباب 75، رقم الحديث 2.
(13) تهذيب الأحكام، ج5، ص14، باب وجوب الحج، رقم الحديث 28.
(14) المصدر السابق، ج5، ص14، باب وجوب الحج، رقم الحديث 30.
(15) تهذيب الأحكام، ج5، ص14، رقم الحديث 29، باب: وجوب الحج، الحديث 29.
(16) رواه الصدوق في (ثواب الأعمال، ص280، رقم الرواية 340، باب: ثواب من زار قبر الحسين عليه السلام) وسند الرواية صحيح بالاتفاق، وهو: (أبي رحمه الله، قال: حدّثني سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن محمّد بن أبي عميرٍ، عن معاوية بن وهبٍ، قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السّلام وهو في مصلّاه ..إلخ) وذكر سماعه للدّعاء.